بعض مشكلات القضية القومية في العراق وتفاعلاتها

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\  02 \  20

E-MAIL:  tayseer54 @hotmail.com

 

نشأت حضارة وادي الرافدين على أساس أول حضارة إنسانية تقيم دولة المدينة. فكانت حضارة سومر وبابل وأكد وآشور حاضرة الشعوب والأقوام المتآخية في إطار من التعاون والتعايش البنـَّاءَيْن..

جاءت من ثمّ بغداد منارة العلم بعلمائها ودار السلام بأهلها وبيت الحكمة بمفكريها وفلاسفتها لتجمع بين جوانح دجلة والفرات المجموعات القومية التي نمت على حبّ الرافدين وترابهما الذي أنبت وحدة متينة بين جميع أطياف شعوب الرافدين...

وقامت الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن الحادي والعشرين ليس على أساس تجميعي ميكانيكي [آلي] وليس على أساس من ترسيم أجنبي لحدود الوطن بل على أساس من حقيقة أرض الــ"ميزوبوتيميا" الواحدة الموحّدة أو ما بين النهرين من أعاليهما (حيث الجبل)  حتى بحر الخليج جزءا متمما للعراق بما فيه من مياه إقليمية مخرت عبابها سفن السومريين فالبابليين فعراقيي بغداد والبصرة فأبناء العراق الحديث...

وبإقامة الدولة العراقية الحديثة بإنهاء حكم العثمانيين، تمّ تسجيل عدد من القواعد القانونية التي تحكم علاقات أبناء الرافدين بالعودة إلى تنوع الطيف القومي من جهة وتنوع الطيف الديني والمذهبي والعرقي الأثني وحتى كثيرا من التفرعات والتقسيمات الإنسانية الأخرى...

ومن ذلك كون العراق الحديث يتشكل من القوميتين العربية والكردية بالإشارة إلى أكبر مجموعتين قوميتين وإلى طبيعة توزعهما الوطن العراقي الواحد وحفظا لطبيعة العلاقة والتوازن بينهما بالاستناد إلى نوعية العلاقات تاريخيا بين جميع المكونات من الشعوب السومرية البابلية وحتى المكونات التي دخلت في مرحلة لاحقة من تاريخ بيت نهرين، كما هو حال تركمان العراق وعدد من المجموعات الأخرى..

وإذا كانت الدساتير والقوانين الأساس العراقية الأولى قد صيغت بناء على مصالح وقراءات بعضها يعود لأسباب ومصالح أجنبية ومن ثمَّ استثنت في قراءاتها تدقيق تسجيل الواقع الحقيقي ومكونات شعبنا العراقي، فإننا اليوم أمام معالجة مثل هذه المسؤولية مباشرة وسدّ الثغرات فيها؛ بخاصة وقد صار بأيدينا أن نكتب أول دستور دائم بأنفسنا...

لقد عانت في ضوء طبيعة السلطات العراقية المتعاقبة جميع المجموعات القومية والدينية والمذهبية من التمييز العنصري والقومي الشوفيني والطائفي الديني؛ حتى أنّنا شهدنا أعمال إجرامية كبرى كالإبادة الجماعية لتلك المجموعات ما لم تعرفه أمم أخرى إلا نادرا..

فلقد تمّ استغلال محاولات التفرقة بين المجموعات لاختلاق أو افتعال صراعات وهمية رخيصة، وجرت عملية تشويه خطيرة من مثل استخدام مصطلحات الأقليات تجاه المجموعات القومية الشريكة في الوطن إمعانا في تهميش دور تلك المجموعات وفي مصادرة حقوق الإنسان لكل عراقي أصيل ينتمي إلى مجموعة غير العربية أو غير السنية مثلا! وأشاعت أجهزة بعينها لغة الاستهجان والاستصغار من نمط تخليق "لغة" السخرية والتكيت أو الإضحاك من الآخر العراقي غير الذي وضعته السلطة في الصدارة عنوة استغلالا لسياسة التفرقة ..

وبناء على مثل تلك السياسات تخلَّقت مشكلات جدية في العلاقات بين أطراف الطيف العراقي، لا يمكننا أن ننكرها أو نتجاوزها وتولّدت مشاعر من العداء ومن ثمّ الاحتكاكات بين متطرفي المجموعات العرقية والقومية والمذهبية (الطائغية) وهو الأمر الذي نشهد نتيجته اليوم بعد انهيار الطاغية ونظامه كثيرا من الاصطدامات التي يصطاد في ضوئها أعداء العراقيين في المياه العكرة..

فمثلا بمقابل سياسة التعريب الشوفينية التي استهدفت الكرد بشكل واسع وأراض كردستانية وعددا من المجموعات القومية الأخرى كالكلدان والآشوريين والسريان والتركمان، بمقابل تلك السياسة العدوانية لكل معاني الحقوق القومية وحقوق الإنسان وجدنا من بعض المتشددين والمتطرفين سياسة احتكاك شبيهة تجاه الآشوريين وقراهم وبين الكرد والتركمان في مواضع أخرى..

ولكننا في الوقت الذي انتهينا من زمن الدكتاتورية والطاغية واستلابهما الحقوق القومية للكرد لا يمكننا أن نعيد تلك السياسة البغيضة القائمة على  المصادرة والاستلاب وشوفينية التعامل مع الآخر.. وعلينا أنْ نحلّ أمور العلاقات بين المجموعات القومية والدينية بروح من الحرص على وحدة حقوق الجميع وصحة تعاونهم وتعاضدهم وتفاعلهم الإيجابي...

 ولايأتي هذا التوجه الموضوعي من تصعيد التوترات والبناء على أخطاء المجموعات أو الفئات المتشنجة قوميا أو دينيا أو طائفيا.. ونحن نعرف أن مثل هؤلاء وُجِدوا بسبب من ظروف التشوهات السابقة التي اختلقتها أنظمة حكمت حوالي القرن من الزمان. وعلى سبيل المثال يقرأ بعض المتسرعين الكرد كونهم معادين للتركمان أو الكلدان الآشوريين السريان وهكذا بالاستناد إلى وقائع وأحداث صغيرة تحصل هنا وهناك بشكل متفرق من أفراد أو زعامات محلية متشنجة..

إنّ قراءة قومية كاملة على وفق قادتها أو زعاماتها أو أحزاب فيها أو على وفق عدد من الأفراد أو المجموعات المتشنجة، أمر لا يستند للموضوعية ولا إلى صحة رأي ومعالجة وإلا فمن حق الكردي أن يطعن بكل العرب العراقيين بالاستناد إلى كون الطاغية المهزوم كان عربيا سنيا وهو الذي استباح كردستان ومدنها وقراها وأتلف الزرع والضرع وأفنى مئات ألوف البشر وحاول تعقيم شعب بأكمله!! فهل يجوز هذا؟!

إنّ قارئ الأحداث التي جرت والتي تجري اليوم بالتحديد، يتطلب أنْ يتأنى في المعالجة ويتوخى الحذر والتنبه إلى أن الشعوب والقوميات موجودة على أساس من المصالح المشتركة والتوافقات البشرية والقيم الإنسانية وعلى أساس من التعايش السلمي بينها... أما أية أحداث قد تقع مهما بلغ حجمها فينبغي ألا تغيّر من حقيقة تقويم المجموعات القومية على أساس من تآخيها الإنساني وتساويها في الحقوق والواجبات تجاه بعضها بعض..

إذ ليس من الموضوعي ولا من المنطقي أنْ يتهم فرد أو طرف أو جهة أمة أو قومية أو شعبا بالعدوانية قيما والعدائية أسلوبا وإلا افتقد الرجاحة وجانبَ الصواب.. ومعليه فإنّنا اليوم بحاجة لجدية في التعاطي مع القضية القومية.. ولابد لنا لنرتقي إلى مستوى المسؤولية وحجم القضية وما تجابهنا نحن العراقيين من تفاصيل وتعقيدات، من أجل ذاك الارتقاء علينا أن نوجد كما اقترحت من قبل وزارة للقوميات في الحكومة الجديدة ولجنة برلمانية في الجمعية الوطنية من ممثلي القوميات العراقية بعدد متساو من الأعضاء لمنع أن يكون التعامل بين القوميات والمجموعات العراقية على أساس كبير وصغير أو فوق وتحت..

وكنت أعتقد ضرورة أن يوجد برلمان للكلدان والآشوريين والسريان كمجموعة ثالثة من جهة الحجم السكاني وكوجود نوعي يتعلق بكون هذه المجموعات القومية هي جذور العراق التاريخي التي تعرضت لعمليات إبادة وتهجير خطيرة حتى أنتشرت الأغلبية من أبناء الشعب بأرقام خيالية خارج وادي الرافدين وأرض الميسوبوتيميا المعروفة..

ومن البرلمانات العربية والكردية والكلدانية الآشورية تتكون الجمعية الوطنية أو يتكون برلمان اتحادي عراقي على أساس التمثيل القومي المتساوي بوصفه غرفة من غرف الجمعية الوطنية التي تُعنى بالتكوين الطبيعي للشعب العراقي.. وبغير وزارة للقوميات وبغير تمثيل برلماني صحيح لجميع الأطياف القومية العراقية لا يمكننا أن نزعم حلّ القضية القومية حلا عادلا ومنصفا...

ونحن نستذكر هنا أنّ ما جرى تجاه فقدان فرصة مشاركة عشرات ألوف العراقيين من الأيزيديين ونسبة غير صغيرة من أبناء شعبنا من الكلدان والآشوريين فضلا عن تجاوزات أخرى في الانتخابات الأخيرة، يمكن لهذا أنْ يكون مقدمة لصراعات مفاعلة بين تلك الأطراف ومزيد من تعميق المشكلات وتوسيع دائرتها. بينما ستكون الاستجابة لحلّ نتائج تلك التجاوزات مدخلا لتوكيد العلائق الإيجابية ولوحدة الكلمة وسياسة جدية وطنية في التعاطي مع القضية القومية..

ولكن هذا يأتي بالصبر وبالأساليب السلمية وبالتعاطي الإيجابي وبالتفاعلات البناءة وبالجلوس إلى موائد مستديرة تحترم جميع الأطراف وحقوقهم ولا تستثني أو تقصي طرفا أو تهمّشه. والعلاج الموضوعي يأتي أيضا بمنع الاعتقاد بأن التجاوزات التي تصدر من فئات متشددة أو موتورة من طرف يمكنها أن تكون تمثيلا رسميا مطلقا لذلك الطرف بل علينا أن نتعامل مع الخطأ والجريمة بوصفها ممثلة لمن قام بها فقط فردا أو منظمة أو مجموعة ولكنّها لا يمكن أنْ تكون ممثلة لقومية بأكملها أو مجموعة عراقية بقضها وقضيضها مهما صغرت أو كبرت أحجام الأحداث التي تقع..

إنّ النظر إلى الكرد بوصفهم قومية مثلا لا يمكن أن يكون من خلال نظرنا إلى أخطاء تقع من البيشمركة أو بعض المتطرفين الكرد وحتى البيشمركة لا ينبغي أن ننظر غليهم من خلال أخطاء مجموعة صغيرة أو أفراد منهم بل ينبغي أن ننظر من خلال قراءة تاريخهم الوطني بالكامل وسجلهم الكفاحي وألا ننسى ذلك في التعاطي معهم وفي تقويم العلاقة مع الكرد..

وهكذا ينبغي أن ننظر إلى التركمان ليس من خلال أخطاء أو جرائم ترتكبها أحزاب قومية تركمانية أو أفراد فيها.. فالتركمان هم أيضا مجموعة قومية عراقية تمتلك كمال الحقوق ولا ننظر إليهم من خلال فئات شاذة أو أخطأت في ظرف بعينه.. وبالنظر إلى الكلدان والآشوريين والسريان وآخرين لا يمكنا إلا النظر إليهم من خلال وجودهم الإنساني الصحيح وليس العكس حيث يمكن أن يوجد في أيّ مجموعة بشرية المخطئ والمتطرف والمتشنج وولكن ذلك لا يسم المجموعة بالسلبي من السمات أو الصفات...

ومن أجل عراق جديد لا يمكننا إلا الوقوف الحازم مع كل المجموعات القومية في العراق ومع مطالبها القومية الصحيحة المشروعة ومطالبها الواقعة في إطار حقوق الإنسان ولن يعود بعد اليوم زمن ننتقص فيه من حق إنسان لأنه ينتمي لمجموعة كانوا يسمونها أقلية .. فقد ولّى زمن الأقليات وعادت مسميات المجموعات القومية بكامل وتمام حقوقها القومية والإنسانية..

ومن الطبيعي في ظل هذه الأمور أن نعود لعقد اللجان المتخصصة ببحث القضية القومية وأن تتشكل تلك اللجان من متخصصين أكادميين ومن ساسة ومفكرين ومن ممثلي المجموعات القومية من دون استثناء أو وصاية أو تهميش أو إقصاء ومن دون هذه الحقيقة ستكون جريمة استبعاد مجموعات قومية ودينية في الانتخابات الأخيرة جريمة أكبر من حجمها وتدخلنا أنفاقا لا مخرج منها بخاصة وقد جرى إهمال معالجتها بالطريقة المناسبة مع حقوق من تمّ إقصاؤهم ولم يؤخذ بمطالبهم..

إنّ مطالب المجموعات القومية ليست للمناقشة والتسويف والمماطلة من اي طرف والتخوّف من التقسيم يأتي من إهمال تلك المطالب أو المناقشة الفائضة ويأتي من القلق من تلبيتها وليس من تحقيقها والاستجابة لها.. فالاستجابة لكامل مطالب القوميات وبخاصة الكرد بوصفهم مجموعة أساس  تشكل أحد أجنحة عراقنا تاريخا وحاضرا ما يعني تعميق التفاعل والتعاضد والتعايش السلمي بين مجموع الطيف العراقي القومي..

في حين سينمي ويصعـِّد من المشكلات والاحتكاكات حال من الإغفال والإهمال أو التهميش للقضية القومية.. وفي عراقنا جملة من التفاصيل المتعلقة بهذه القضية منها مثلا الموقف من الفديرالية بالتحديد من إعادة الحق للوجود الكردستاني بمكونه الجغرافي التاريخي وبالاستناد إلى قراءات دقيقة وموضوعية للتناسبات السكانية للمدن والقصبات المعنية بالموضوع..

والموقف من مجلس للقوميات ثلاثي أو أو تعددي وأن نوجد وزارة القوميات وغرفة برلمانية للقوميات يتساوى عدد ممثلي القوميات فيها، وتمتلك صلاحيات اتخاذ قرارات بعينها.. ولدينا قائمة ليست قصيرة بالخصوص سواء من إعادة الحقوق ولا أقول منح الحقوق بل إعادتها لأهلها وأصحابها أم بمعالجة المشكلات المتراكمة ومنع التقاطعات ووقف التجاوزات المثيرة أو التي تفتعل العتقيدات بين الطيف العراقي المتعايش سلميا والمتوحّد المتداخل في بنية شعب عراقي هو شعب حضارة سومر بعمر آلاف السنين...

 وشعب عراق اليوم هو بعمر الوطن الذي افتداه الكرد قبل غيرهم والكلدان والسريان قبل غيرهم والتركمان قبل غيرهم وهكذا تسابق العراقي في حرصه على عراقيته مع أخيه العراقي ولم يكن يوما يقدّم عراقي صفة أخرى على هويته العراقية وهو كذلك اليوم.. جميعنا عراقيون أبناء أرض واحدة ووطن واحد وشعب واحد ووحدتنا ازدانت وتزدان وتكون أمتن وأقوى بسبب من تنوع أطيافنا ومكوّناتنا القومية والدينية والمذهبية..

ولكي نلبي طموحات أبناء مجموعاتنا القومية والدينية والمذهبية لابد أن نلبي مطامح تلك المجموعات وأن نحترمها ونحترم تعدديتها وتنوعها وحتى اختلافها وأن يكون ذلك في وجود عراق ديموقراطي تعددي تداولي فديرالي موحد.. لا يعلو فيه صوت التقاطع والمصادرة لأحد أو طرف ولا يُسمَح فيه بالتهميش لجهة  ويمتنع فيه التجاوز والاعتداء على مصالح طرف أو الانتقاص من حقوقه لأي سبب كان..

وحينما يُخطئ تحليل من شخصية أو مجموعة أو جهة أو فئة لا يتحامل الآخرون عليه بل يتواصلون ويناقشون ويعالجون بروح من الإخاء والتفاعل ولسنا آلهة لكي نكون معصومين من خطأ التعاطي مع مفردة ولكننا أسوياء إلى الدرجة التي تكفينا بلاء التقاطع والاحتكاك السلبي .. من هنا نحن نبحث فيما يوحدنا ويلبي مطامحنا سويا في زمن نحن أحوج للتجمع والتكاتف حتى يأتي المستقبل الذي يمكننا فيه أن نطرح أمورا أخرى أبعد وأعمق لأي طرف من أطراف بلاد ما بين النهرين ولكلّ زمن مطالبه وحاجاته ومحدداته..

وبعد فقضية القوميات في العراق لا يمكنها أن تمرّ مختزلة في عجالة مقال أو دراسة ولكنها ينبغي أنْ تأتي من أبناء القوميات أنفسهم فهم الذين يحق لهم التصويت لقضيتهم وما يطالبون ومايريدون في إطار عراق جديد يحترم التعددية وكامل الحقوق... فهل ستكون الشهور القابلة فسحة لتعزيز الحلول الناجعة حيث يُكتب دستور العراق المتعدد القوميات؟؟؟