بين مصادر الدستور ودلالاته

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\  03 \ 01

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

منذ فجر السلالات وسطوع شمس الحضارة الإنسانية الأولى، برزت حالة التوافق والتفاهم على آليات العيش المشترك. ومع ولادة دولة المدينة تقدّمت تلك التعاقدات وتطورت، فظهر التقنين والتقعيد بناء على الخبرات المتراكمة من جهة وبناء على حالة الاستجابة للمتطلبات ولحاجات المجتمع البشري الوليد...

وباتساع رقعة الدولة وتعمّق آليات العمل الإنساني وتنوّعِهِ وتعدده واختلاف مستوياته وأنواعه.. صار لزاما التقدم لسنِّ ضوابط تنظيمية للحال الجديدة التي وصلها، بمعنى سنِّ القوانين المنظِّمة.. وهذا بالتحدبد هو ما حصل عندما سنَّ العراقيون الأوائل قوانينهم وقوانين المجتمع الإنساني الأولى التي ما زالت محفوظة آثارها على تلك المسلات الشاخصة في متاحف العالم المختلفة...

ويمكنُنا هنا أنْ نشيرَ إلى تلك الخبرات بوصفها الأصول التي يمكن أنْ نستند إلى طريقة صياغتها وتضمينها حاجات المجتمع العراقي السومري فالبابلي فالعراقي الحديث... لقد كتب تلك الدساتير والشرائع أناس متخصصون من حكماء أزمنتهم وخبرائها ممن تقدموا الحياة بعلومهم ومعارفهم؛ وحينما صاغوها كانوا يناقشون جميع الخبرات الجمعية ويتعاطون معها تلخيصا للوعي البشري وتوكيدا للمستوى الحضاري الذي وصله المجتمع آنذاك...

ولهذه الحقيقة أهمية من جهة كون الصياغة اتجهت لمحددات الوضع المباشر من جهة ولكنها لم تغفل أن تتعاطى مع الكليات البشرية بما يمكن الإفادة منه إنسانيا، وهو واحد من الأمور التي جعلت من تلك القوانين شرائع يمكن تعميمها والأخذ بها على أساس من الإيمان والاعتقاد أو الاحترام لدرجة التبجيل والقدسية بقصد ضبط الأوضاع العامة وإلزامها بالحل والربط...

إنَّ هذه المقدمة التمهيدية تسجِّل توكيدها أن المعارف البشرية لا تنطلق من الصفر ولا يمكنها أنْ تكون موضوعية صحيحة عندما تُهمل سابقاتها؛ وهذا ما نعنيه من ضرورة أو لزوم أنْ يكتب الدستور متخصصون يحملون كل تلك الخبرات بكل معطياتها الإيجابية التي سيأخذون أم السلبية التي سيتجنبون... ومن الطبيعي أنْ تكون القيم التاريخية للهوية الوطنية لمجتمع بعينه جزءا مهما في ذيّاك السّجل الحافل الذي سيضمِّنونه صياغاتهم الجديدة...

وبالعودة لكتابة الدستور العراقي الجديد، فإنّنا لا يمكن أنْ نهمل أو نغفل تلك التجاريب الجدية في بلادنا لكتابته سواء منها الجذور التاريخية أم الماضي غير البعيد بالإشارة إلى العراق الحديث.. فذلك أمر جديّ مهم أن يَعتبر  [يتعظ] صاغة دستورنا الجديد بمصادرهم الصحيحة..

ولن تكون مصادرنا التاريخية البعيدة  مجرد آثار معزولة في صناديق العرض في المتاحف بل هي موجودة بالفعل وفي واقعنا عبر مواطنينا من الكلدان والآشوريين والسريان ومن الصابئة والأيزيديين ومن كل المجموعات الأثنية والعرقية والقومية ضاربة الجذور في تاريخنا الوطني لعراق ما بين النهرين عراق الحضارات السومرية والبابلية وما زالت هذه المجموعات تحيا في بلادنا بثقافاتها وتراثها الديني بكل طقوسه ومفرداته...

فإذا كان العالم يفيد اليوم من قراءته آثارنا والاستدلال بها مع أنها مجرد كتل ونصوص في متاحفه، فأحرى بنا أنْ نفيد من تلك التجاريب وهو من باب أولى بسبب من وجود كل الطيف البشري العراقي الممتد من تلك الجذور، ليكون تراثنا هو مجموع الخبرات والتجاريب والمعارف ومن ثمّ كل الأدوات التي تساعدنا على قراءة هويتنا الوطنية بامتدادها التاريخي وما راكمته من خصوصيات بعينها وبكينونتها القائمة بوجودنا التعددي المتنوع حيث العراق الحديث ينبغي أنْ يكون عراق كل الأطياف الدينية والقومية والمذهبية..

من هنا لابد من القول بمشروعية بل بلزوم العودة لمصادرنا التي تشخّص هويتنا العراقية الرافدينية هوية حضارات سومر وأكد وآشور وبابل.. وإنْ نحن أغفلنا تلك الهوية فإنَّ  المتربصين بنا لم ينسوا وهم يخططون لحروبهم معنا من باب محاربة وجودنا المخصوص الهوية بتفتحنا الإنساني الحضاري ويعملون على محو ما ننتمي إليه ليستكملوا في لاحق المراحل إزالتنا من قائمة الوجود الإنساني خدمة لأغراض لا تخدم مجتمعا إنسانيا بل قوى استغلالية باغية...

إنّ مصادر كتابة الدستور تكمن أول ما تكمن في ذاك التاريخ الرافديني وهذه الهوية العراقية المتحضرة المتمدنة. ومن أجل ذلك كان ينبغي لنا أنْ نعود للمتخصصين في الصياغة لكي تكون العودة صحية صحيحة صائبة دقيقة. وأيّ صياغة لا تعود للمتخصصين ستذهب بنا إلى مشكلات أبعد من تلك المتعلقة بالأمور الإسلوبية لتدخل في مخاطر مضمونية توقعنا في مطبات لا مخرج منها من دون خسائر كبيرة يتحملها أبناء شعبنا من كل الأطياف بضمنهم الذين يُزعَم كتابة الدستور باسمهم تغطية لمقاصد بعينها عندما يتركون كتابته بأيدي غير متخصصة...

فإذا استطعنا معالجة الدستور وبالتحديد صياغته عبر متخصصين كان علينا أنْ نتوافق لبحث أيُكتب الدستور بلغة الخطاب السياسي؟ أم يُكتب بلغته القانونية؟ وللإجابة لابد من التوكيد على كون الدستور ليس إلا عقدا اجتماعيا بين مكونات شعب بعينه. وعليه لزم أنْ تكون لغة خطابه لغة قانونية ممثلة للتعاهد والتعاقد الاجتماعي العام.. ومن ثمّ كان علينا أنْ نؤكد على توصية توظيف اللغة القانونية توظيفا رئيسا مباشرا وسائدا في لغة الدستور والابتعاد قدر الممكن والمتاح عن توسيع لغات الخطاب الأخرى ومنها السياسية..

ولكنّنا هنا في الوقت الذي نسجل فيه توكيد قانونية الدستور ولغته فإنّنا لانستبعد منه تعبيره عن الواقع وتمظهراته بشكل دقيق يتناسب مع طبيعة المكونات العراقية العامة.. ولا نستبعد تضمين المواد الملائمة للتعبير عن وجود اجتماعي بشري لهذه الكتلة أو تلك .. فمثلا ليس من الصحيح أنْ نعترف لفظا بتعددية المجتمع وأطيافه وتنوعها واختلافها فيما نحصر الدستور بمصدر واحد يمثل مرجعية ثابتة للدستور ومن ثمّ لجميع من يحتكم له!؟

فكيف يحتكم صابئي مندائي أو أيزيدي أو مسيحي أو يهودي أو غير هؤلاء من الطيف العراقي لتشريع أحادي يتفرد الدستور بالرجوع إليه؟ إنّ إسلامية التشريع على سبيل المثال ووحدانية المرجعية أو أحادية المصدر كما تدعو بعض القوى لتثبيت الأمر يعني لا فرض هذه الإحادية في المصدر ومرجعيته في التعاطي مع الضوابط والحدود بل يؤدي إلى إلغاء جوهري للآخر.. ولا ينفع لوقف هذا الإلغاء الجوهري أو إزالته كل ألفاظ الحفاظ على التعددية والتنوع واحترام مصالح الأفراد والجماعات الأخرى من خارج المصدر المعني..

إذ كيف سنحترم وجودا ونحن  نفرض عليه مرجعية لا يؤمن بها؟ وكيف سنوفر العدل والمساواة ونحن نميل لكفة طرف ونلغي وجود طرف آخر ونعامله بوصفه تابعا مكرها مجبرا على التعاطي مع قوانين لا تمثل جزءا من رؤيته؟ كما إننا في حقيقة الأمر نفرض مسألة أخرى على الدستور بوصفه عقدا اجتماعيا وهو إلحاقه بدين من الأديان وجعله مفردة من المفردات الدينية ومن ثمّ إلغاء جوهره بوصفه قانونا بشريا يخضع لتوافقات وتعاهدات بشرية محض...

ونحن نجني [حتى] على المجموعة البشرية التي ينتمي إليها مصدر التشريع بوقف حياتها المدنية الدنيوية على أساس من إلغاء كل شئ مقابل إعلاء لغة الرهبنة والانقطاع عن الدنيا والبقاء في حدود النص الطقسي الديني وليس البعد المدني.. إذ أنّ النصّ على إتباع الدستور وهو قانون أساس يسيّر الحياة البشرية على الأرض للنصوص التعبدية الطقسية يفرض قسرا مرجعية الخطاب الديني بطقوسيته وبيانية خطابه على التشريع الدستوري بواقعيته وبرهانية خطابه وبرغماتيته.. ولا يقبل عاقل مؤمن قبل الآخرين أنْ يقرّ بصحة العيش على أساس من الرهبنة المطلقة والصوفية واعتكاف الحياة المفروضة على البشر جميعا وعلى وفق منطق ديني مذهبي بعينه..

إنّ من الصحيح أن تبقى العلاقة الدينية الطقسية بين الإنسان بما يعتقد به  وبمن يؤمن به.. وهذا ليس من الأمور التي توجب فرض مرجعية النص الطقسي الديني على بقية الخطابات البشرية.. بل لا يوجد نص ديني ومنه النصوص الدينية للديانات الكبرى تفرض هذا ما يعني أن محاولة فرض أحادية المرجعية وتحديدا مرجعية النص الديني الطقسي الإسلامي على بقية الأديان والمذاهب والطوائف والمجموعات البشرية وخطاباتها أمر لا يستوي بالمرة..

وفي حقيقة أمره لا يمثل هذا حبا أو احتراما للدين الإسلامي بقدر ما يمثل تشويها لفلسفته القائمة على العدل والإنصاف وعلى التعايش مع الآخر والاعتراف بوجوده على قدم المساواة عبر لغة المجادلة بالتي هي أقوم وأحسن ولكم دينكم ولي ديني والدين النصيحة وليس الإكراه، فلا إكراه في الدين.. وعليه فلا حق لأحادية المرجعية في دولة تعددية الوجود والكينونة.. وهذا يأتي من منطلقين من منطلق تثبيت التعددية جوهرا ومضمونا ومن منطلق امتناع الفرض والإكراه والاشتراط المسبق...

ويبقى التوكيد باستمرار على طبيعة الدستور كونه عقدا بين بني البشر يتفقون على ما يوحّد بينهم ويجمعهم سويا والقاسم المشترك هنا بين المجموعات المتعايشة في بلاد النهرين يكمن في الاعتراف بطبيعة التكوين المتنوع التعددي ومنع سطوة طرف على آخر أو إكراه أطراف على اتباع واحد بسبب من سطوته لقوة من نمط ما...

إذن مصادر الدستور هي الأخرى يجب أنْ تكون تعددية تتوافق مع الخبرات والتجاريب الإنسانية للمجموعات المتعايشة المتوافقة في إطار الوطن الواحد أو البيت الرافديني إذ يتطلب تمثيل الطيف العراقي الرافديني في الدستور أنْ يبحث الشارع المتخصص بمرجعيات ومصادر ذيّاك الطيف ويضمّنها فيه. وإلا فلن يكون عقدا بين طرفين بل سيكون سيفا من طرف على آخر.. وهذا التناسب الذي يلغي طرفا في الحقيقة يلغي الطرف السائد ويكبله بقيود استعباده الآخرين .. فليست من أمة حرة تستعبد أمة أخرى..

ولكن ما يحصل هو استغلال لهذه المعادلة الشوهاء في العلاقة بين طرفين لمصالح جهات استغلالية معادية في جوهرها حتى لمن تزعم الاستناد إلى مصدرهم ليكون مرجع الدستور الوحيد أو الأساس أو الأول.. ولم تكن الأحادية يوما وسيلة للوحدة ولن تكون بل ستظل أول الأسباب للفرقة واختلاق العداء والاختلاف والتقاطع. إذ حيث يشعر طرف بالغبن وبالتهميش وبوضعه في المرتبة الثانية يظل في نفسه ما يدفعه لخيار الضغينة أو على أقل تقدير الشعور بالألم والاضطهاد...

إنّ دلالة الدستور كما أكدنا هنا تبقى في كونه العقد الاجتماعي بين الأفراد والجماعات وهو ما يترك فسحة للتداخل بين لغته القانونية وتعبيراته وتمظهراته التشخيصية للهوية. وهذه هي مضامين الدستور التي تؤكد في مفرداته ومواده على حقيقة الوجود الإنساني وعلى التعاطي مع الحياة البشرية هنا حيث العيش وحيث تفاصيل وجودنا البشري المدني والعلاقات المحكومة بيننا بضوابط نحن نتوافق عليها بما يعبر عن قواسمنا المشتركة وليس بما يعبر عن غلبة قوة على أخرى..

إنّ مصدر الدستور ليس الخطاب السياسي ولا الخطاب الديني وليس الطقوسية والتعبدية ولغتها وليس ما يريده طرف له الغلبة والسيادة ولكن مصدر الدستور يكمن في الثوابت الإنسانية البشرية بالتحديد أي الثوابت التي تعترف للإنسان بوجوده وبشخصيته وباستقلاليته ومن ثمّ بتنوع هوياته وتعدد رؤاه.. أما الله الخالق ورسالته فتكمن في النص الديني المقدس لدى البشر الذي يوصي بــ "وقل اعملوا فسيرى الله...عملكم" وكذلك "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وهنا توكيد استقلالية الإنسان ومنحه حق الخيار وأمره بالفعل والعمل وليس استلابه حق الحركة والعيش الحر المستقل..

والتعاطي بلغة أحادية المصدر لغة طقسية للرهبنة والانقطاع للتعبد ما يتعارض بل يلغي النص الديني الذي يستخلف الإنسان على الأرض ويمنحه استقلالية الإرادة.. ويدفعنا التحليل هذا إلى توكيد صحة علمانية دستورنا الجديد واستقلالية خطابه البشري بما يمنح الفرصة مناسبة ملائمة لخيار المجموعات البشرية لاتفاقها ولعقدها عهدها بناء على قواسم مشتركة وثوابت تحفظ لجميعها مكانتها وموقعها بجوهر مساواة تطمّن الأنفس وتدفع بقوة حالة التفاعل الإيجابي بينها ...

إن العلاقة الصحية الصحيحة بين مصادر الدستور ودلالاته هي التي تستطيع تقديم دستور يعبر عن حقيقة المجتمع العراقي ووحدة مكوناته في إطار من التنوع والتلوّن والتعددية وبخلافه ستتم مصادرة جميع الطيف العراقي واستلابه حريته حتى منه الطيف الذي يُفترض أن يكون مصدره التشريعي قد فُرِض أساسا للدستور..

والعلاقة الصائبة تكمن في منع فرض أحادية التعاطي لأنّ القبول بالأحادية سيوقف لزمن طويل لاحق الحريات الحقيقية ويضعنا بمواجهة مصير آخر من الاصطراع والتناقض فيما نحن أحفاد حالة من التعايش والسلام والأخوّة فما حدا مما عدا أنْ ننقلب على قراءة تاريخنا قراءة صحيحة ونذهب منحرفين به نحو إرادة قراءة مشوّهة لفرد أو مجموعة تضمر استغلال الدين لصالح خطابها السياسي.. وأول ما فعلته هو استغلال الخطاب الديني غطاءَ َ لتسلّم السلطة وسرقتها من الطيف التعددي ..

ولا يمكن لمدّعِ ِ أنْ يقول: إنّه يمثل التعددية وهو واحد .. أما أن يؤمن بالتعددية فيعني أن يمضي مع الآخرين بمساواة وعدم اعتداء على حق آخر ومنع اختزاله وتمثيله من قبل غيره.. فكل طرف عراقي اليوم يمكنه أنْ يعبر عن نفسه من دون وصاية وإنْ احتاج للدعم والمساعدة، فهذه غير تلك.. وأفضل من يعبر عن الكلداني أو الآشوري أو الأيزيدي أو الصابئي أو التركماني أو غيرهم ليس غير أنفسهم في التعبير عن ذواتهم...

وهنا وجب أن يكون مصدر الدستور تعدديا كما دلالاته ومضامينه التعددية الجوهر فكل وجود له مظهر يلائمه وكل جوهر له الشكل الذي يناسبه ويمثله.. ومن هنا بالتأكيد كان لنا أنْ نؤكد بشكل وطيد على حق التعددية في المصدر وعلى طبيعة الدستور ومرجعيتها البشرية الإنسانية في المضامين والصياغات وسيكون من أدوات تحقيق هذا الأمر إحالة كتابته للمتخصصين ومنع الخلط بين الخطابات وإعلاء شأن القانوني على السياسي في تسجيل بنود الدستور.. ولأجل ذلك سيكون علينا معالجة أمور كثيرة متنوعة ومن زوايا متعددة لنصل إلى أفضل دستور معبر عن عقدنا أوعهدنا العراقي الوطني الجديد...