رسالة من المقابر الجماعية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\  03 \  07

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

 

شواهد الجرائم البشعة التي ارتكبها الطاغية الدموي في العراق لا حصر لها. ومن بين أبرز تلك الشواهد سلسلة اكتشافات المقابر الجماعية التي لم تعلن عن انتهائها حتى يومنا هذا. ففي كل موضع من أرض الرافدين يجري اكتشاف آخر من تلك الجريمة النكراء التي كانت تـُرتكب بحق آلاف العراقيين عندما يجري حشدهم فوق فوهات حفر تعدّ على وجه السرعة ليُدفنوا فيها أحياء أو بعد رميهم بالرصاص أو بعد نحرهم أو تفجيرهم أو ما لايدريه العالم حتى يومنا ولم يكتشفه من فنون الجريمة القذرة..

والمقابر الجماعية ليست جريمة عادية وإنْ كانت ليست غريبة على نظام البعثفاشية الذي فعلها منذ جريمته في شباط الأسود سنة 1963 عندما أقدم على دفن آلاف من أبناء شعبنا العراقي الأحرار وهم أحياء تلك الجريمة التي حاول طمسها عندما عاد إلى السلطة ثانية بإنشاء مقبرة في المنطقة التي دفن فيها ضحاياه!

لقد مثّل ونكّل بكل العراقيين المعارضين لسياسته السادية الهمجية وكان الذي يختفي في أيديهم لا يعود إلى بيته وإنّما يذهب إلى غير رجعة حيث يطويه التراب هذا إذا كان له من بقية بعد أنْ يُذاب في أحواض الحرق الكيمياوي!

المقابر الجماعية لا تحتاج لوصف اليوم بعد أنْ كانت صدمة هولها قد أذهلت العدو قبل الصديق! والكارثة ليست بحجمها كل توصيفات الكلمات والقراءات التي تأتي من هذه المنظمة أو تلك الجهة. إذ هي مفتاح الإشارة إلى الحقيقة التي ظلت مطموسة طوال تسلط نظام الطاغية على رقاب الشعب العراقي بدعم من أسياده وبمعرفة بما يجري من جرائم مهولة..

إنّ الفظاعة المأساوية للجريمة لا تنتهي باكتشافها أو بتقديم صورها أمام أنظار المجتمع الإنساني.. ولكنها تبدأ من هنا. ذلك أنّنا إذا توقفنا عند الجريمة واكتشافها فكأنّنا نشارك المجرم جريمته بمتابعة آلام أهالي الضحايا ومواصلتها بشكل أعنف بعدما صار لديهم الوثيقة التي يحكمون بها المجرم أمام محكمة جنايات وطنية ودولية..

إذ العالم ظل مخفيا عليه طبيعة ما يجري من جرائم وفظاعات في العراق ولم يكن أمامه إلا مشاغلات إيهامية مقنّعة كان من نتيجتها استمرار النظام البعثفاشي في سدّة الجريمة [الحكم] طوال أكثر من ثلاثة عقود!

ولكي لا تتكرر تلك الجريمة، ولكي نعيد الحق إلى نصابه، ولكي ننصف الضحايا وعوائلهم ولكي لا تحصل مثل هذه الفظاعات الكارثية مع شعب آخر، وَجَبَ التحرك والانتقال من الفضح والإدانة إلى الممارسة الفعلية لمحكمة العدالة الوطنية والدولية التي تقتص من المجرم الجلاد وسدنته...

إنّ عملية تناول أو معالجة جريمة المقابر الجماعية في العراق، تحتاج لوعي مناسب بالكيفية التي يمكننا بها أنْ نوصل رسالتها بطريقة صحيحة تتناسب وحجمها المريع من جهة ولا تصادف نفورا من الأسماع التي ملـّت آليات سياسة قوى بعينها في تسخير جرائم الفاشية بطرق غير موضوعية تعتمد المبالغة واستدرار عواطف الآخرين لاتجاهات غير إنسانية المقاصد؟!

وهكذا سيكون علينا في الوقت الذي نصرّ فيه على توكيد تلك الجريمة البشعة وفضحها أنْ ننتقل إلى الإجراءات الكفيلة بمسح آلامها وآثارها الوحشية على شعبنا الضحية المباشرة لسادية الجلاد الطاغية؛ سيكون علينا أنْ نستذكر أنّ الذاكرة المتعبة من الآلام ومن إثارة الأحزان والمواجع ليست مستعدة للتعاطي مع الجريمة من جهة وضعها موضعا للضغط النفسي السلبي أو لمتابعة آثارها الأليمة على أهلنا...

وبوضوح علينا أنْ نعزز إصرارنا على معالجة آثار الجريمة بأن نضعها موضع الأداة الإيجابية في دعم حقوقنا المشروعة ليس في الاكتفاء بالقصاص القانوني من المجرمين وحسب ولكن في إزالة كل أسباب إمكان عودة الجريمة وتهديدها طمأنينة الضحايا في بلادنا والعالم..

فهل حقا فعلنا ذلك؟ في الحقيقة سيكون من الصحيح الإجابة بالنفي إذ ما زالت قوى الجريمة تنزل بأبناء الرافدين أقسى الضربات المؤلمة والجرائم الدموية التي استرخصت دماءنا وأعراضنا ووجودنا حتى بات القتل المجاني سياسة متصلة مستمرة في تفاصيل حياة  العراقي ويومه العادي!

بينما ما زال الوعي الجمعي العراقي في حال من الذهول ما لم يقف وقفته المؤمّلة المنتظرة منه. وعلى الرغم من خروج العراقيين للتصويت في الانتخابات ومن ثمّ للتعبير عن رؤاهم في رفض سياسة الموت والقتل والتدمير فإنّ ذلك لم يكن الخطوة الكافية المكتملة بسبب من كثير من الثغرات والاختراقات بل واستلاب الصوت العراقي حقه في التعبير الصادق عن مبتغياته ومستهدفاته...

إنّ المهمة المباشرة بخصوص المقابر الجماعية هي في تكوين مراكز بحثية مستقلة ومؤسسات رسمية ترتقي لمستوى المسؤولية في معالجة القضية وطنيا وفي تقديمها بوصفها وثيقة دامغة تدين الجريمة والمجرمين لا على الصعيد المحلي ولكن إنسانيا أوعالميا.. سواء بجلب الذين شاركوا في الجريمة واستدعاء أولئك الذين ساهموا بطمس الحقائق أم بحشد أوسع الأصوات الدولية من دول ومنظمات وجهات معنية بالمعالجة.

وعلينا هنا في مسيرة التحول من القراءة الوطنية إلى كسب الموقف الدولي أنْ نكون على مستوى من الوضوح والدقة والأساليب الملائمة لعرض قضايانا وبالتحديد قضية المقابر الجماعية وتسخير كل السوابق الإجرامية التي حصلت في العصر الحديث للبشرية لجعل قضية المقابر الجماعية في العراق قضية غير منسية ولا مغفلة أو مهملة..

ولأجل ذلك لابد من التوجه إلى الجهات الإعلامية والقانونية والمحاكم الجزائية الجنائية والمنظمات الدولية لكي نحصل على ما يدعم جهودنا في تشكيل مؤسساتنا المختصة من جهة ولتدعيم الجهود بما يرتقي بالنهوض بالمهمة على أكمل وأتم وجه..

إنّ الرسالة الآتية من المقابر الجماعية هي صرخات لحظة ارتكاب الجريمة التي ما زالت ترن في آذاننا وهي صور لحظات الاحتضار ومغادرة الحياة المغتصبة من المجرم السادي وهي الدين المرهون برقابنا، لأنّ الذي جرت عملية اغتياله ليس فردا منقطعا من أهله بل مئات ألوف العراقيين الذين ينتمون إلينا دما ووريدا وشريان حياة.. فجريمة قتلهم ما زالت نازفة أنهار الدم الزكي من أطفال ونساء وشيوخ!

لا يمكن لنا أن نقتعد بيوتنا بحثا عن أمان زائف. ولا يمكن أن نطوي صفحة الجريمة بانتهاء النظام الذي تسبب بها وارتكبها وهزيمته؛ ولا يمكننا أن نحظى بلحظة استقرار والشروع بطريق البناء لأبنائنا وللأجيال التالية، لا يمكننا كل ذلك من دون وضع أصابعنا على المواجع والجروح وآلامها...

ورسالة المقابر الجماعية ليست رسالة حزن واكتئاب ولكنها رسالة احتجاج وصرخة رفض لكل سكون وتقاعس أو إهمال وكل عراقي اليوم مشمول بواجب البحث عن هوية شاملة وطنية للمقابر الجماعية في كونها طاولت كل العراقيين ولم تستثنِ أحدا ولا بقعة من أرض الرافدين الطاهرة..

ولن تأخذ الرسالة موقعَها واستجابتها الحقيقية والجدية ما لم تنهض جمعيات حقوق الإنسان العراقية عليها، وما لم تقم مؤسسات المجتمع المدني بمهامها المنتظرة وما لم تقرأ المؤسسة الرسمية بمهامها الملزمة بها استجابة لسؤال الرسالة المستصرِخ وجرحها الفاغر بوجه الأهل المنكوبين...

رسالة المقابر يمكنها أن تأخذ استجابتها بإقامة النصب والتذكارات وبإقامة الندوات والمؤتمرات وبإقامة الدراسات والبحوث وبتكليف الجهات المعنية بمسح البلاد وتدقيق الجريمة وتسجيلها واعتماد جهات دولية مسؤولة في النهوض بالمسؤولية والمهمة الكبرى والخطيرة.. وبعد ذلك وقبله بالتأكيد سيكون الاستجابة لتطمين حاجات الضحايا من العوائل المنكوبة والتعاطي مع الدم المهدور بكل ما يعيد حقوق الناس ويستجيب لها فليست قطرة الدم العراقي برخيصة الثمن بل هي الأغلى لدينا وجودا وقدسية وتلك هي القضية...

وبعد، فللكارثة المأساوية للمقابر الجماعية صلة بكل مجريات تفاصيل يومنا العادي على أن ذلك ليس بمناحة أو بكائية سلبية بل بمعالجة مسؤولة تستجيب لصنع غد بعيد عن التهديد بمقبرة جديدة وجريمة دموية سادية أخرى...