ظاهرة مقال الشتيمة بين السقوط والتسقيط

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2005/04/04

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

يصادف اليوم المتابع للصحف العراقية والعربية  وعلى وجه الخصوص صفحات الإنترنت المختلفة وكذلك المتلقي لعدد من الفضائيات كما هو حال برامج [المكافش]؛ ظاهرة  سافرة تتمثل في لغة الخطاب الجديد واصطباغها أو امتلائها حدّ التخمة بكثير من مفردات الشتيمة! وبذاك الهبوط  البعيد بالحوار أسلوبا ومضمونا...

ولعل بعضهم يجد مبررات لمثل هذا الانهيار في طبيعة الشخوص التي تكتب أو تتحدث وخلفياتها السياسية والفكرية؛ وفي الأهداف المتوخاة من وراء ذاك الخطاب  حيث نجد تعمّد بعضهم استغلال الأساليب الرخيصة لدوافع متباينة ليس من بينها ـ بالتأكيد ـ  ما يخدم التقدم والرقي ونجد عدم أهلية كثير ممّن يسمونهم أقلام جديدة وهم ليسوا سوى [شخبطة] فجة وغير مقبولة لا أخلاقيا ولا على أيّ من مستويات الخطاب الإنساني بالمرة...

هنا ينبغي التوكيد أنه مهما بلغ التحجج أو التذرع لأمر الشتيمة وخطابها الرخيص، فسنجابه ليس بعيدا حالة  السقوط ضحية لسطوة الأسلوب المريض على الغاية (النبيلة) المفترضة في توجهات (بعضهم). إذ الحقيقة الثابتة التي برهنتها التجربة الإنسانية هي في ضرورة بل وجوب تناسب وتناسق وملاءمة بين المضمون والأسلوب أو الجوهر والمظهر، وبخلافه سيقع نوع من التناقض بين مكوّني الخطاب، ما يعرقل تحقيق الغاية المؤمّلة.. فالإيجابي لا يأتي من طريق توظيف الأسلوب السلبي المريض بينما السلبي يمكنه المرور باللعب والتخفي بأقنعة ولبوس تقمص دور الإيجابي..

فإذا مررنا من الكتّاب المفترض إيجابيتهم ولكنهم مكبلون سقطوا في براثن مشكلات الأسلوب المريض، إذ مناقشة أمرهم يتطلب وقفة مختلفة؛ فإننا نجابه أسلوب الشتيمة الرخيص بمضمونه وشكله بحال من اكتمال في أداء دوره المتمثل في إمراض الأجواء العامة وتعمّد الشوشرة والإيقاع  بالآخرين في مستنقع حضيض ذاك الخطاب البعيد عن قيم العراقي وتصوراته الإنسانية السامية.

إنَّ ما ينبغي التذكير به هنا هو خطورة ظاهرة التعاطي مع النشر المفتوح على الغارب وذاك التساهل مع كتّاب حضيض اللغة شكلا ومضمونا، وقد يكون من أسباب التساهل على سبيل المثال كسب الشهرة أو ظن التعاطي مع حرية الكلمة ومع الديموقراطية في وقت ينبغي أن نتأكد أن الحرية المنفلتة بديلا عن الحرية المسؤولة و [الانفلاشية] بديلا عن الديموقراطية ليس لهما من معنى غير التخريب وهو في حالتنا العراقية من التطرف يصل إلى حدّ الانتحار بمعناه الواسع أيّ بمعنى القضاء على الوجود الوطني العراقي نهائيا، أقصد الهوية الحضارية ورقيِّها وسموّها!!؟

إنّ مقدار العبث الجاري على صعيد الإعلام العراقي ومؤسساته الصحفية ومن على شبكة الإنترنت وعبر وسائل إعلامية أخرى (بعضها فضائيات بحجم كبير) وجميع تلك الوسائل تدعي أو تزعم تمثيل الناس ومصالحهم وسمو الكلمة وشرفها وتؤكد تمسكها في نبذ زمن الطاغية المهزوم وأخلاقياته ولا ندري كيف يكون ذلك ونحن نقرأ ونشاهد ليل نهار تلك المهاترات وحالات الانحطاط بالقيم الجمالية للتعبير اللغوي حيث يكتب كل من هب ودب وهو لا يقف عند جهله بالنحو اللغوي في أية لغة ولا أقول العربية بالتحديد؟! بل أكثر من ذلك لا يدري البعد المعجمي والدلالي للسياقات اللغوية وصرنا نجد من التراجع والهزال بيانات منظمات عراقية فيها مئات الخبراء والعلماء تصدر بلغة أسوأ من ركيكة فتصل إلى حدّ العجز عن التعبير عن المقاصد من وراء البيان ففي وقت يطالب أعضاء منظمة ما بسحب دبلوماسي من بلد  يكتبون مطالبين بإعادته بغير دراية (والله أعلم)!!!

إذا كان هذا هو الحال مع منظمة مجتمع مدني حبلى بالطاقات والأقلام فكيف بنا وحال انتشار [صيَّع وزعران] الكتابة المحدثون؟! ولا بأس اللحظة هذه من تجاوز تفاصيل وتفرعات لصالح معالجة آثار الكتابة بخطاب الشتيمة. ومن تلك الآثار ما يشيعه الأمر من إحباط لدى المتلقي وسوداوية تمنع مشاركته الفاعلة وتعطل رؤيته الصائبة لمحيطه وللحقائق. وهذا ما يفرض علينا أو يلزمنا بأنْ نواصل معالجة المشكلة بصبر وتأنِ ِ ونكافحها ونضع التوافقات العلاجية المسؤولة الجدية لها. وقد يكون من بعض تلك المعالجات المؤملة عقد مؤتمر المواجهة والمصارحة بين الإعلاميين العراقيين وفي قطاع الإنترنت بالتحديد...

ولست أستبق المؤتمر في الحديث عن بعض القرارات من مثل عقوبات بحق النشر غير المسؤول أخلاقيا وأدبيا وعلى سبيل المثال إعلان قائمة سوداء بالخصوص ومقاضاة أصحاب المواقع والصحف التي تتخذ من لغة الشتيمة أسلوبا في تناول الأمور... وقد يكون مهما أن تدخل الصحف والمواقع الإعلامية في حزمة ميثاق شرف بالخصوص لا يدخله سقط متاع الأرض من [المتنابزين المتهامزين المتشاتمين]..

على أنني أثق أنْ ليس من حلِّ ِ سحريّ جذريّ بقرار ما نتخذه بشأن الكارثة التي نحن فيها؛ إذ حقيقتها تكمن في التخلف الذي أصابنا طوال عقود من الزمن في واقع التجهيل ومسخ الأنفس والعقول وتلويثها، الأمر الذي يحتاج لزمن بعيد من المعالجة وتنقية الأجواء. وهذا لا يعني قطعا أننا بحال من العقم والتكلس أو الجمود بل الشعب ما زال ويبقى حيا وحيويا في تجاوز أزماته ومشكلاته وهو أقدر على تلمس طريق الحقيقة والنزاهة والنظافة أو دروب التقدم والتحضر التي شقها الأسلاف ومن ثمّ على سلوك دروب السمو والرقي..

أما وقد خضنا في خطاب الشتيمة فلابد من الإشارة أيضا إلى كونه لا يأتي من مرضى سقطوا وهم يحاولون إسقاط محيطهم فيما هم فيه، بل يأتي أيضا من مراكز قرار أو جهات تخوض صراعا سياسيا فكريا وهي تتقصد توسيع دائرة لغة الخطاب الرخيصة لأسباب معلومة هنا، منها إشاعة البلبلة والتشوش وإشاعة أساليب الانحطاط الأخلاقي والتخلف الفكري وتسويق مناهج فلسفة الضياع [إذا سميناها تجاوزا فلسفة] والقصد الأخير يكمن في إبعاد أية قيم فكرية أو سياسية أو تربوية يمكنها أن تكون وسيلة لصحوة العقل أو صحوة الإنسان تجاه مسببات استغلاله وسرقة حياته.

إذن المسألة الأولى هنا في التعرف إلى قضية إشاعة خطاب الشتيمة بقصد التسقيط الفردي بجرّ  كتّاب الإعلام ومنظريه إلى تلك اللغة ومستوياتها الأسوأ من ساذجة؟ وبجرّ المجتمع للتعاطي والتعود بل والانغماس في أخلاقيات مرضية وقيم رخيصة وتصورات تشكل تمهيدا وقاعدة للسقوط في حبائل الخطاب المريض ونتائجه الخطيرة..

أما السقوط في برائن الكارثة فهو بانجرار أو تفاعل وتعامل مع ذاك الخطاب في محاولة للرد مشتبهين أن ليس من خطاب يرد على فلان صاحب اللغة الرخيصة غير اللغة الرخيصة.. فيما ينبغي تذكر حقيقة أن ما يريده أولئك المرضى والأعداء هو الاشتهار ولو بطريقة الشتيمة وهذا هدف سهل يعود لمرض فرد ساقط ولكن الأخطر هو تسقيط الأصوات الإيجابية بجرها لدخول حلبة لغة الشتيمة ومن ثمّ اختراق مجتمع التلقي عبرهم وإشاعة توليفة القيم البائسة المُمرِضة ومحاولة جعلها من الأمور المعتادة في حياتنا وتمرير مخططات الإفساد الأخلاقي والسياسي والفكري..

إنّ جملة من الاستحقاقات والالتزامات ينبغي أن تظهر اليوم قبل الغد بشأن لغة السوقة والرعاع وخطاب الشتيمة؛ وإلا سنكون في القريب العاجل في أزمة مستعصية لا مخرج منها بسهولة ومن دون تضحيات كبيرة أولها حرية الكلمة والديموقراطية الصحيحة.. فلنكن من اليقظة والحذر ولنكن من روح التحلي بالمسسؤولية تجاه أنفسنا إن لم يكن تجاه مجتمعنا ونوقف مهزلة التعاطي مع لغة الشتيمة ومع رخص النشر بهذه اللغة الركيكة ولنحترم وجودنا الإنساني إن لم نكن نتذكر قيمنا العراقية وأخلاقياتنا الرصينة فكرا، فلسفة، سياسة، علما وعلاقات إنسانية كريمة...

انتبهوا أيها السادة!!! إنَّ المشكلة ليست في الشتيمة نفسها ولا في مطلقيها أنفسهم، بل في انتشارها وجعلها من الأمور العادية في حياتنا وليس من أمر بخطورة إدخالنا في هذا النفق المظلم غير قبولنا أو سكوتنا على التمادي الخطير لعديد من المواقع الإعلامية المقروءة اليوم صحفا ومواقع إنترنت وبعض فضائيات وجهات ممولة من هنا وهناك.. فليذهب من يريد الذهاب إلى جحيم العار والرذيلة ولكننا ينبغي أن نعزله ونقطع الطريق على حال من هذا القبيل..

فليس من الحرية في شئ أن نترك لهم حرية العمل بيننا؛ وليس من اعتداء على الديموقراطية وعلى الحرية أن نمنع نشر الترهات والتفاهات ورخيص القول ووضيعه، وكل ما يدخل في خطاب الشتيمة المجردة حتى منها خطاب التهم المجانية التي ليس لها من وسيلة غير التكرار السمج والدق ليل نهار على وتيرة الرخص والانحطاط لكي تكون حالة معتادة تبتعد بنا عن سواء سبيل احترام الإنسان وذوقه وجمالياته وقيمه السامية المهذبة...

لنقف بقوة ولنشدد على منع الذرائعية لتمرير لغة السقوط والتسقيط فلسنا في معرض أو بازار نخاسة الكلمة وعلى إعلامنا تقع مسؤوليات خطيرة في الدفاع عن حرية الكلمة بحق وعن النبل والشرف والقيم الإنسانية الصحية الصحيحة وعلينا أن نقدم فلاسفتنا وسياسيينا ومفكرينا وعلماءنا بطريقة تليق بمقام من أنجبهم (شعب العراق) وحضارته وقيمه السامية بدلا من العبث الرخيص الذي دفع بمئات أقلامنا الشريفة للابتعاد عن الوقوع فريسة النشر المجاني الذي يبيع الأخضر بسعر اليابس فيضع دراسة متخصصة مهمة لمفكر جليل بالحرف الصغير وموضع التهميش بين عشرات من لغو التخلف وخطاب الشتيمة بالحرف الكبير وبصور الإبهار...

لقد وصل الأمر لخطب جلل ومشكلة كارثية حيث صرنا نقرأ حتى عند أعزائنا من مسؤولي بعض المواقع المحترمة ما يدعو لأكثر من الدهشة والاستغراب!!!!!!!!!!!!!!!!!!! فهل من مغيث؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟