الدستور بين الصياغات السياسية المشروطة والصياغة القانونية المؤملة

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

02 2005/06/

E-MAIL:  tayseer541@hotmail.com

 

تتسارع الأيام مع تشكيل لجنة صياغة الدستور ويتطلع شعبنا إلى اليوم الذي يُعرض عليه لإقراره أول دستور عراقي ثابت بعد أن يُصاغ بإشراف الجمعية الوطنية المنتخبة.. ولكنَّ كثيرا من أبناء شعبنا يساورهم القلق بشأن تمام العملية بطريقة موضوعية صحية وصحيحة في أوضاع عراقية غير مستقرة وتكتنفها مشكلات شائكة ومعقدة!؟

وأول الأمور يعود إلى طبيعة تشكيل اللجنة والتوازنات المفترضة في تشكيلها من جهة تمثيل مكونات الشعب العراقي.. والمقصود هنا التمثيل الحقيقي وليس تمثيل المحاصصات الذي فُرِض قسرا في ظل أجوائنا المشار إليها. وعليه فالسؤال هنا يكمن في الكيفية التي يمكن أن يظهر التمثيل المناسب للطيف العراقي بتنوعه واختلافه وتعدده؟

والفاصل الحاسم بين أن تكون الجنة لجنة محاصصات طائفية مرَضية أو أن تكون ممثلة للحالة العراقية الحضارية  سينعكس على آليات عمل اللجنة ومن ثمَّ على نتائج عملها وصياغتها الدستور بالطريقة التي تعبر عن كونه عقدا اجتماعيا بين أبناء الوطن العراقي لا أن يكون تعبيرا عن الإرادة السياسية البحتة لفئة أو طائفة أو مجموعة دينية أو عرقية أو قومية..

والحال هذه تكمن في إظهار صوت [الأغلبية] بوصفها المهيمنة على أجواء الفعل السياسي ومن ثمَّ على مصادرة الآخر بوصفه [أقلية] علما أن الحديث لا يجري هنا عن الأغلبية السكانية من لون أو طيف اجتماعي بعينه بل عن أغلبية حركة سياسية بعينها تأهلت بسبب الأوضاع غير الطبيعية في البلاد.. ما خلق ردود فعل معاكسة لنقطة الانطلاق لمسيرة الديموقراطية عند بعضهم ورفض بعضهم الآخر النتائج السابقة بالاستناد إلى جملة أمور واقعية وموضوعية...

وبناء على أوضاع كهذه يمكن القول إن مسألة صياغة الدستور ولجنته المشرفة لا يمكن أن تكون منطلقاتها سياسية بحتة إذ العامل السياسي يظل محدودا مؤقتا سريع التغيّر فيما الدستور ينبغي أن يكون صيغة للثبات النسبي ولمعالجة مشكلات ليست ذات طابع سياسي بحت وإن اتخذت من الفكر السياسي مصدرا أو دافعا للمعالجة..

والبديل هنا يكمن في تعزيز قانونية التوجه في كتابة الدستور بوصفه العقد القانوني بين أفراد هم مواطنو البلاد وهم مكونات الشعب من مجموع الأطياف المتعددة.. والعقد الذي يُصاغ  على أرضية القانون والروح القانوني البحت هو ما يمثل الدستور وتوجهاته ومحاوره ..

ولا يمكن غدا عندما يُقرّ الدستور على أرضية الأغلبية السياسية أن يكون دستورا يعالج حالة الاتفاق والتوافق، حالة التعاقد بين مجموع الأطياف إن لم يجرِ إلغاء إشكالات فرض مضامين الأغلبية والأقلية السياسية على مضامين التعاقد بين الأطراف على أرضية من المساواة والعدل والتآخي الإنساني..

إن السياسة هي الفلسفة الإجرائية  للحياة اليومية وهي تفاصيل يوميات الإنسان العادي وهي في ضوء ذلك حالة من المتغيرات المستمرة التي تستجيب للقراءات اليومية للواقع ومن ثم لا يجوز فرض القراءة السياسية المجردة على الصيغ القانونية  الدستورية حيث تتعدد القراءات بتعدد الرؤى الحزبية ورؤى الحركات السياسية وتصوراته البرامجية المشروطة..

ويصبح الأمر على طريقة كل حزب يفوز لمرحلة أو مدة انتخابية قادر على التحكم بصياغة الدستور وتغيير علة وفق رؤيته وفلسفته السياسية أو أننا سنجد أنفسنا أمام متاهة الكلمات المتقاطعة حيث يفرض كل طرف فكرة من أفكاره في صياغة الدستور بطريقة نقرأ مادة تخدم هذا الطرف ومادة أخرى في الدستور تخدم طرفا آخر وندخل في التقاطعات والتناقضات ..

الفكرة تكمن في أننا لا يجب أن نسمح بتدخل الرؤى السياسية المشروطة في صياغة الدستور أو العقد التوافقي بين العراقيين بل يجب أن نتجه إلى صياغة قانونية تضمن كتابة الصياغات القانونية الصحيحة والدقيقة في تعبيرها عن الحالة العراقية بوصفها حالة إنسانية كما بقية خلق الله وليس كما يريد هذا السياسي المؤدلج دينيا أو طائفيا أو قوميا أو ما شابه..

الصيغة التي تخدم الإنسان وحقوقه ويتساوى في ظلها مجموع العراقيين بوصفهم بشرا وليس بوصفهم قطيعا في جيش سلطان من هذه الحركة السياسية أو تلك.. سواء كانت تلك الحركة معممة بعمامة المرجعية الدينية وتزعم تمثيلها لله على الأرض أم محزمة بالأحزمة الناسفة للقومانيين والشوفينيين وغيرهم..

يتطلع العراقي الإنسان أن يجد دستورا يحترمه ويعبر عن وجوده الإنساني بعيدا عن الصياغات المؤقتة أو القابلة للتغييرفي كل حركة ريح سياسية أو نأمة تغيير حزبية أو ما شابه .. كما يتطلع لأن يكتب الدستور عراقيا وليس إيرانيا أو سعوديا أو سوريا أو أردنيا أو تركيا أو شرقيا أو غربيا...

نعم يحلم العراقي بدستور عراقي صميم بالتمام والكمال. ليكتبه هندي أو صيني أو ياباني أو برتكيشي ولكن لابد أن يكون بكل حرف من حروفه معبرا عن مجموع العراق بكل فرد فيه وكل طيف قومي أو ديني أو مذهبي أو عرقي ...  

ولن يكون الدستور مُصاغا بالطريقة القانونية الصحية الصحيحة التي كتبت بها أغلب دساتير الأرض إلا إذا كُتِب على أساس من الثبات والرسوخ والتعبير عن مصداقية التعاقد بين المجموع الشعبي بعمومه وليس على أساس من التاريخانية التي تعود بنا إلى حقبة ظلامية بعينها...

علينا إذن أن نتجنب الصياغة السياسية المشروطة ونكتب الدستور بصياغة قانونية حيث نوظف في ذلك رجالات القانون الدستوري العراقيين ونستفيد من التجاريب الدولية في هذا المضمار...