رفض مصطلح "الأقليات" القومية والدينية في العراق الجديد

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

04 2005/06/

E-MAIL:  tayseer541@hotmail.com

 

 

تعايش في بلاد ما بين النهرين عبر التاريخ مجموعات عرقية أثنية وقومية ودينية..  وظلت تلك المجموعات البشرية في حال من التآخي والتآلف بل من الوحدة الوطنية الكاملة حتى وصلت في كثير من مراحلها إلى الاستخدام اللغوي الثقافي المشترك وبقيت شعوب سومر موحدة في إطار وطني حتى قيام الدولة العراقية الحديثة..

وتبادلت المكونات القومية والدينية العراقية مع احتفاظها بخصوصياتها وهوياتها، تبادلت العلاقات الاجتماعية وشكلت نسيجا واحدا من جهة  التفاعل والتداخل بين تلك المجموعات حتى أنَّ مئات آلاف العوائل العراقية متحدرة من محتلف مكونات الطيف العراقي من دون حرج أو تحفظ أو مشكلات حقيقية..

لقد كانت وما زالت المجموعات العراقية تحتفظ لبعضها بعضا كل الاحترام وكامل الاعتراف وتمامه بالشخصية التي تحمل كلُّ مجموعة عراقية هويتها وخصائصها.. ولم يمنع أو يعكر صفو مشاعر التآلف والمساواة وتبادل الاحترام التام الفروق العددية الكمية أو ما يُسمى أكثرية وأقلية...

فيوما ما كانت شعوب سومر هي الأصول التاريخية لبلاد الرافدين تبع ذلك أكثرية بابلية أكدية كلدانية آشورية سريانية حسب المراحل التاريخية التي تعاقبت في بيت نهرين؛ حتى يأتي العرب وغيرهم من القبائل والشعوب بالعودة إلى قيام الدولتين الأموية والعباسية وتتسع نسبتهم العددية..

وبقيام الدولة العراقية الحديثة منذ مطلع القرن الماضي، جرت متغيرات جدية خطيرة بسبب من السياسات الحكومية المتوالية، فجرى قمع حقيقي لكل المجموعات العراقية (التي أُطلِق عليها تجاوزا واعتداء، الأقليات!!) التي وُجِدت منذ آلاف السنين.. وكانت جرائم سميل وغيرها البادرة الأولى لترحيل الآشوريين السريان بعيدا عن موطنهم الأصل الذي شادوا فيه الحضارات الإنسانية الأولى. وبعدهم جرت عملية الفرهود بحق اليهود العراقيين، وتعاقبت جرائم التهجير الجماعي القسري وكان من آخر تلك الجرائم ترحيل الكرد الفيلية فالشتات الكبير المهول للشعب العراقي في عصره الحديث!!

إنَّ عمليات التقتيل والإبادة الجماعيتين والتهجير القسري بالإكراه وترحيل المجموعات من أماكن سكنها والتغيير الديموغرافي جرى بتعمّد وتقصّد للإخلال بالتوازنات بين المجموعات السكانية وقد رافق تلك التغييرات الإجرامية على مستوى البنية السكانية عمليات ضخ إعلامي مؤدلجة تخص محاولة تغيير الوعي وتطبيع الرأي العام لفلسفة شمولية شوفينية تستعدي مكونات الطيف العراقي المتنوعة المتعددة على بعضها بعضا!

وكان من أبرز تلك المحاولات المرضية غرس مصطلح أكثرية وأقلية في الذهنية الاجتماعية وهو الاصطلاح المؤدلج بقيم تقسيمية تحضِّر للإيقاع بين مكونات الشعب العراقي المنسجم الموحد. وقد تمَّ استغلال مصطلح الأكثرية من [الجهلة المتخلفين؟!!] وجرت بالفعل محاولات تعطيل تعليمهم وتنويرهم وتثقيفهم بطرق مختلفة حيث جريمة سحق البنية الفوقية المعرفية لقسم كبير من مجتمعنا العراقي الذي قاوم الأمر ولم ينقطع عن المعرفة على الرغم من كل محاولات النظم الدكتاتورية واستغلالها وبهذا كسر حاجز الجهل المزعوم..

فيما تعمقت الآلام والمصاعب مع تلك القوى الشعبية المهمة في وجودها إذ لا هوية حقيقية لعراق الأمس ولا اليوم ولا الغد من دونهم، ونحن نعرف مقدار الإهمال بل الاستغلال والقمع والسحق الذي تعرضت له قوى المسيحيين من الكلدان الآشوريين السريان الأرمن وكم هو حجم الجرائم التي ارتكبت بحق الكرد وحجمها تجاه التركمان، وكذلك تجاه الأيزيدية والصابئة المندائية و الشبك وبحق  كثير من المجموعات العرقية والدينية والقومية الأخرى في بلادنا..

وتمَّ رسميا اعتماد مصطلح الأقليات للتعامل مع تلك المجموعات العراقية المهمة التي يتحدد في ضوء وجودها هوية مجتمعنا العراقي التعددي المتنوع الأطياف.. والخطورة تكمن في مقدار التداول لمصطلح الأقليات سواء على المستوى الديني المذهبي أم على المستوى القومي.. والمشكل الأخطر هو في تفتت بعض المجموعات وحيرتها في تقديم الحلول المناسبة للتسمية التي تفيد في التعبير عن خصوصيتها؛ كما يحصل مع تحديد إشكالية الصابئة المندائية هل هم مجموعة دينية أم قومية أو هم طائفة تتبع جهة أوسع أخرى؟ ومع الكلدان الآشوريين السريان أو الكلدوآشوريين؟

إنَّ أول معالجاتنا لحل المشكلات التي افتعلتها الأنظمة الاستغلالية السابقة تكمن في تثبيت رسمي لتلك الهويات بالإشارة المباشرة لمكونات شعبنا العراقي بالاسم بوضوح مع رفض بل محو أو إزالة تامة لمصطلح أكثرية وأقلية وما ينبني عليهما من تفاوت في الحقوق أو انعدام في المساواة الحقوقية القانونية.. وسيكون تثبيت هذا الأمر واجبا في الدستور العراقي الجديد.. كما سيكون مبنيا على أساس من الإشارة إلى رفض الإخلال المرضي الإجرامي في العدل بين العراقيين وتوكيد البديل الدستوري في المساواة والعدل بين جميع المكونات من دون تقديم أو تأخير ومن دون تغليب مجموعة على أخرى على أساس التناسب الكمي...

ولأن الدستور هو العقد الذي يضمن عبره وفيه الإنسان الفرد (المواطن العراقي) حقوقه، فلابد من تجاوز أمر أكثرية وأقلية بما يتعلق  بالمساواة بين المتعاقدين للعيش في الوطن العراقي.. أما استمرار مصطلح أقليات فسيكون جريمة بكل المقاييس والمعايير وسيكون استمرارا للنهج العدائي الذي يدق أسفين بين مكونات شعبنا، وهو القنبلة الموقوتة التي ستقضي على الهوية الوطنية العراقية ذات النسيج التعددي المتنوع..

إذن نحن بصدد وقف تداول مصطلح أقليات من ثقافتنا. وأنا هنا لا أقترح ذلك على اللجنة التي تعمل على صياغة الدستور فحسب بل أرى ضرورة بل وجوب انطلاق حملة جدية مسؤولة لإزالة مصطلح أقليات من جميع أدبيات الصحف والدوريات والمواقع والكتب والمؤلفات بقدر الممكن والمتاح لإرادتنا وقرارنا بالخصوص..

هل سنستطيع تحقيق ذلك؟ الأمر ممكن بقدر العزيمة والإرادة وبقدر الارتقاء بوعينا والاهتمام بخطورة استخدام مصطلح أقلية تجاه مكونات شعبنا في الثقافة العامة والحوارات السياسية... وأول من ينبغي أن يزيل استخدام مصطلح أقلية هم أبناء المجموعات التي طالما تعرضوا لقسوة المصطلح واستلابهم شخصيتهم وهويتهم الحيوية والمهمة في حياتنا الوطنية العراقية..

 

إنَّ فروقا جدية بين الحديث عن إحصاءات وأرقام ونسب لأسباب موضوعية، وكذلك الحديث عن نسب تخص العمل السياسي وأحجام المكونات والأطياف لأسباب تخص تحديد خطط التنمية وما إلى ذلك، وبين تقرير استغلال مصطلح أقلية بطريقة تمنع المساواة  وتميل كفة الميزان لصالح جهة على حساب أخرى بغية تمرير مخططات بعينها.. والحل الوحيد في الحالة العراقية تكمن في إلغاء تداول المصطلح على الصُعُد القانونية الدستورية وعلى الصُّعُد الثقافية والاجتماعية العامة بما يعيد العدل وكفة التوازن والمساواة بشكل حاسم ونهائي... وعلينا هنا أنْ نعمل بمسؤولية عالية لتثبيت الأمر دستوريا قبل أن تفوت فرصة تاريخية ونفقدها لزمن طويل آخر لا يخضع أهلنا ممن يسمونهم ظلما الأقليات لظلم آخر فحسب بل نحن معهم سنعاني مرة أخرى ونخضع لفلسفة الاستغلال والعدائية وهو ما لا نرضاه نحن العراقيين جميعا سواء مسلمين أم مسيحيين عرب أم كرد كلدان آشوريين سريان أرمن أم تركمان وصابئة وغير هؤلاء من كل فسيفساء مجتمعنا العراقي السومري البابلي الجذور...