الحقوق في الدستور بين الفرد والمجموعة؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

08 2005/06/

E-MAIL:  tayseer541@hotmail.com

يتشكل الشعب من مجموع الأفراد الذين يعيشون في ظل خيمة الوطن الواحد. ويحيا هؤلاء على أساس من العقد الذي ينتظم أمورهم الفردية والجمعية ويحدد شروط عيشهم ومحدداته بطريقة تستجيب للمجموع على أساس من العدل والتساوي. وهذا ما أُطلِق عليه الدستور بوصفه العقد المنظِّم للخطوط العامة من العيش المشترك.

من هنا كان لزاما على الدستور أن يتضمن الخطوط الجوهرية لسبل التكافل والتعايش ما يتيح للمجموعة أن ترسم بقوانين تفصيلية أخرى مسارها وتقرر مصيرها بما تخطّه من تقعيدات لحياتها. فإذا لم يستجب الدستور لتلك المفاصل الحيوية للعيش المشترك خرج عن أنْ يكون عقدا مشتركا وصار قراءة لطرف على حساب آخر أو قانونا من قوانين الجور والاستغلال ليس أكثر..

ولكي تتوافر في الدستور صحة صياغته واستجابته لتطلعات الشعب ينبغي أن يتضمن حقوق مكونات الشعب الأساس وهي الإنسان الفرد أولا  والمجموعات أو الأطياف ذات الخصوصية في هويتها.. فأما الإنسان الفرد فقد تمَّ تحويله عبر الزمن المنصرم إلى عبد باسم المواطنة حيث المواطن هو ابن البلد الذي يخضع لقوانينه وواجباته القسرية ولا يملك من وجوده حتى حق الحياة على قاعدة المواطن مشروع أضحية دائم ظاهرا للوطن وباطنا وفي حقيقة الأمر للحاكم الذي يكتب الدستور والقوانين...

وعليه فإنَّ الثورة الحقيقية في كتابة الدستور العراقي الجديد تكمن في الخروج من قمقم تاريخ العبيد وعهد الاستلاب وإعادة كل حقوق الإنسان العراقي له.. بتثبيتها دستوريا بشكل كامل تام غير منقوص لأي سبب أو ذريعة أو حجة. لأنَّ حقوق الإنسان ليست من تلك الأمور التي يمكن التسويف والمماطلة فيها أو حتى التفاوض على شروط تكبيلها وتحجيمها ما خلا ضوابط مشترك العيش من جهة انتهاء حرية الفرد حيث تبدأ حرية الآخر أي منع التجاوز والاعتداء فقط لا غير...

إنَّ حقوق الإنسان الفرد هي جوهر الدستور الجديد ولا يعلو على هذه الحقيقة أية حقوق أخرى وإلا فإننا سندور في حلقة مفرغة حيثما أتحنا فرصا لتضييق الحريات بناء على تصورات أيديولوجية سياسية بحتة أم سياسية مبرقعة بالدين والاعتقاد وما إلى ذلك.. فلاتتعايش  حريات صحيحة ومكتملة  مع حالات المصادرة والاستلاب من أية جهة كما يُزعَم بصدد استغلال مفهوم أغلبية مجموعة على الأساس السياسي أو الديني أو القومي ...

ولأنَّ عماد الحياة البشرية هي وجود الفرد نفسه، ولأنّ حركة الحياة وتفاصيلها تبدأ بالإنسان الفرد وتنتهي به، فإنَّ الصحيح الصائب في معالجة الأمر يكمن في العودة إليه بما يكفل له حقوقه في الحياة وفي ما تشترطه تفاصيلها؛ فلم يرد في منطق عقلي ولا في شريعة صادقة إلغاء الفرد ووجوده والتعامل من خلال منافذ تستلب الإنسان الفرد حقا من حقوقه في الوجود الإنساني...

أما المجموعات المكوِّنة للمجتمع البشري أو الشعب فإنَّها قيمة بشرية مكمِّلة على صعيد رسم حقوق الإنسان.. ولكنَّ الأمر هنا يتجه في مسار أو منحى آخر حيث يكون من جملة حق الإنسان الفرد أن يتمثل بهوية قومية أو أثنية عرقية أو دينية أو أية حالة تجمع بشري بهوية مخصوصة... ولكن هذه الهوية لا تلغي الوجود الإنساني للفرد بقدر ما تستكمله وتمنحه حقوقا مضافة.. حتى إذا كانت هذه الخصوصية الجمعية عامل استلاب لحق من حقوق الفرد انتهت عن أن تكون محمية دستوريا.. لأنَّ الحماية الدستورية تكون للإنسان الفرد ولحقوقه وليس للقيم والسياسات والاعتقادات والأفكار المختلفة المتنوعة مهما كان وضعها...

فالحقيقة أو المعيار والمقياس الصحيح في رصد الحقوق وتثبيتها تكمن في أسبقية الإنسان نفسه على الأفكار أيّا كانت تلك الأفكار وإلى أية جهة انتسبت وأسبقيته على أشكال التجمع والتكوينات الاجتماعية قومية أو دينية أو مذهبية أو أثنية عرقية وما إليها .. وعليه  فليس لنا دستوريا على وفق هذه الحقيقة إلا تثبيت أسبقية حقوق الإنسان الفرد من جهة وتعزيز تلك الحقوق بما يستكملها من حقوق المجموعات البشرية وهوياتها المخصوصة..

إنَّ قضية الموازنة بين حقوق الإنسان الفرد وبين معطيات مكونات المجتمع من جهة الخصوصيات المتنوعة قوميا ودينيا هي إشكالية مهمة في تحديد مسار خيار اي دستور نريد لوجودنا الراهن والمستقبلي.. وهي أي تلك الموازنة ما يحدِّد وقوعنا في توريط إشكالي عقدي  جديد أو يجنبنا ذلك.

كما أن توجيه الأمور باتجاه أسبقية الإنسان الفرد نفسه لا يعني أن قيم الخصوصية القومية والدينية لن تظهر بطريقتها الصحيحة في الدستور بل العكس ستتعزز وتظهر بأفضل ما يخدم مجموعات الطيف المتنوعة في إطار شعبنا ومظلته الوطنية الموحدة...

وما يبقى هنا من إشارة تكمن في الطلب من المختصين في صياغة الدستور الالتزام  بمثل هذه الموازنة ومعالجتها بطريقة موضوعية وبآليات مناسبة ترتقي بالحق وترتفع بالإيجاب لصالح الإنسان فردا وجماعة على حساب الاستلاب والانتقاص من وجوده وقيمه ومحدداته التي توفر له أفضل شروط العيش الإنساني الكريم...

فهل سننجح في تحقيق ذلك عراقيا؟ أم أننا ما زلنا مستسلمين لسلطة الغاب التي شرَّعت لنا وتعمل على فرض تشريعاتها اليوم؟؟!