دولة مؤسسات المجتمع المدني أم دولة الميليشيات؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

10 2005/06/

E-MAIL:  tayseer541@hotmail.com

ميليشيا وعسكرة، عنف وتصفيات من مختلف الأشكال والمستويات وليّ أذرع وضرب فوق الحزام وتحته؛  هي وجه آخر من مخلفات الزمن  المريض وما يفرضه من تواصل زمن الطوارئ  وزمن الأحكام علىهوى الزعيم البديل للقانون وللعمل المؤسساتي الجمعي والمتعارض مع توصيف المجتمع المدني وأنشطته وفعالياته...

هذه الصورة أي صورة الميليشيات والعسكرة والمافيات العنفية التي تسرح وتمرح في عمليات الاختطاف والاغتصاب والاغتيال في سابقة لم تشهدها ثقافة وادي الرافدين إلا من سلطة الطاغية المهزوم.. فيما هي اليوم ممارسة يومية لكل تلك القوى التي تشكل امتداده المرضي الردئ بالضد من قيم أهلنا وتوجهاتهم لبناء زمننا الجديد.

وبالعودة إلى سؤال مقالنا هذا نجد أن عراق اليوم هو عراق ينبني على أنقاض نظام الدكتاتورية التي استلبت حقوق العراقيين طويلا ومحت كل ما يمكن أن يكون للمجموع البشري من المواطنين بل حولَّت المواطن إلى عبد أتعس من تراب العراق المستعبد بملكية مطلقة من الطاغية الفرد وحاشيته.. حيث أوقف بالمطلق وجود المجتمع المدني ومؤسساته وهو ما ظهر مباشرة مع انهيار الطاغية وهزيمته حيث لم نجد أثرا لمؤسسات الدولة الوطنية المزعومة!

إذن المهمة الأولى للعراقيين تكمن في إنشاء مؤسسات دولة مدنية بمعنى سلطة القانون وتثبيت دستورهم على أسس صحيحة تكفل المساعدة على قيام تلك المؤسسات وهو ما يعني إزاحة سلطة المؤسسات البوليسية  التي انهارت مع انهيار الطاغية ومن ثمَّ فيما يخص لحظتنا الراهنة إزاحة سلطة الإرهاب البديل للمؤسسة القمعية المهزومة...

هنا يكون من المهم جدا أنْ نقول: إنَّ وجود العصابات والمافيات السياسيةِ الغطاء أمر لابد من إنهائه فورا لكي يكون للمؤسسة المدنية وجود حقيقي وفاعل ولكي يكون بالفعل المجتمع المدني بمؤسساته موجودا بشكل طبيعي مستقر.. وأية حكومة تتساهل مع حالة التسيب والانفلات أو ما نسميه لحدّته وقسوته وطغيانه [الانفلاشية]، نقول إن أية حكومة تتساهل مع الانفلاشية تقضي على مصداقيتها وتدعم  من حالة الخسائر التي تلحق بشعبنا وتطلعاته النبيلة للسلم والحرية والتقدم..

كما إنّ حالة العنف التي تطغى في البلاد إنَّما تنتعش في ظل سلطة المافيات السياسية المسلحة مما يسمونه ميليشيا النضال ضد عهد الطاغية؟!! [ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة تاريخ أية ميليشيا بقدر ما نريد معالجة مسألة وجودها المستقبلي]؛  فالمنطق العقلي يقول إذا كانت تلك الميليشيات هي قوى وطنية مناضلة ومخلصة عملت على تحقيق آمال الشعب في مرحلة؛ فما جدوى وجودها اليوم في ظل سلطة دولة مؤسسات؟؟ ألا تفكر في تسليم الراية والتحول إلى حال من العودة إلى الحياة الطبيعية أم أن عناصرها لا يمتلكون ثقافة البناء والسلم؟

هناك شئ آخر هو كون هذه الميليشيا تعكس حالة انعدام الثقة بين تلك القوى السياسية التي تقف وراء تشكيل المجموعات المسلحة لتكون جهازها الصدامي في معاركها مع القوى التي تختلف معها وإلا فما ضرورة القوى العسكرية الحزبية؟ وهذا أمر غير مبرر بالمرة على صعيد دولة تمتلك سيادتها الوطنية الداخلية على أقل تقدير بمعنى سلطتها على جميع مواطنيها بالتساوي والعدل والنظام المدني المسؤول...

من جهة أخرى تشكل القوى الميليشياوية رؤى تقسيمية فئوية طائفية أو عرقية قومية أو حتى تابعة لمعسكرات سياسية وحركات دينية التمظهر والادعاء من هذا الزعم المذهبي أو ذاك.. والكارثة في موقفنا أن تقوم الحكومة الانتقالية المفترض مجئ عناصرها من جمعية منتخبة، أن تقوم بالمشاركة الرسمية المبالغ بها بطريقة احتفالية المشهد في مؤتمر ميليشيا مسلحة والتغطية على فلسفة الميليشيات ووجودها ومنحها شرعية البقاء وهي القوة التي صارت تحكم الشارع بطريقة أسوأ من شبيهاتها القمعية للنظام المهزوم ...

ومثالنا الذي  يجب أن نتوقف عنده بهذا الخصوص ما صار لعنة عند مواطننا العراقي ألا وهو عبارة "هذا بأمر السيد" وهي العبارة التي تعني عند المسلحين أن المواطن المسكين لا يستطيع المناقشة بل يجب عليه الخضوع للأوامر وأكثر من ذلك أن المواطن صار مستباحا في كل وجوده وقيمه وصارت حياته أرخص من رصاصة طائش ميليشياوي إذا شعر بما لا يرغب به ولا يهواه ولا يلبي نوازعه والأوامر التي يحملها معه من السيد وأزلامه..

ونحن نعرف ما جرى لطلبة جامعة البصرة حين قاموا بسفرة ترويحية عادية وكيف تمَّ طمطمة الموضوع وإنهاؤه تلبية لمسخرة من يزعمون تمثيلهم الأخلاق وكونهم هراوة المعروف وعصا المنكر.. ونعرف ما يجري من تبادل التصفيات بين الأطراف التي تمتلك تلك العصابات المدربة بل حتى التي تقودها عناصر مخابراتية من دول الجوار كما تتوارد الأخبار من على ألسنة عراقيي الوطن المبتلى بتلك الزمر العنفية من البلطجية...

العراق أيها السادة بحاجة لعودة كفاءاته العلمية والأكاديمية ..  العراق بحاجة لعودة علمائه ومفكريه وفلاسفته ومخططيه من الاقتصاديين ومن المهندسين والأطباء والأساتذة .. بخلاف ما نرى من مطاردة وتصفية لكل هؤلاء حتى صارت حال الانفلاش في بلاد الرافدين أخطر من فضيحة وأبعد من مأساة... والعراق اليوم بخلاف هذا الموقف وتلك الحال بحاجة لقيام مؤسسات تستقبل هؤلاء وتحتوي جهودهم وتستوعبها..

أما ما نراه فهو تظاهرات خطيرة المعنى كما يحصل عندما يحضر مؤتمر الميليشيا العسكرية العنفية السملحة كل هذا العدد من المسؤولين ومن أعلى المستويات وبطريقة مثيرة ولافتة في الكلمات التي توجَّه إليها.. في وقت انتظرنا أن تكون الإشادة بالنضالات الوطنية مترافقة مع إشادة بالتوجه إلى استبدال الحلقات العسكرية بالتوجه نحو تقوية موقع تمدين بدل عسكرة وتطبيع سلمي بدل تحفيز عسكرتاري..

العراق أيها السادة غصَّ وتشبع حدا طفح معه الكيل من سلطة العسكر والأجهزة الرديفة.. كما إن من يريد تقوية الجيش العراقي الجديد ومؤسسته والشرطة العراقية الوطنية التي تحترم القانون في المبتدا والمنتهى يجب عليه أن يوقف التفكير بميليشياه الخاصة ويوقف التكتلات المتأتية من مقترحات ضم هذه القوة المسلحة أو تلك علما أننا هنا نحذر من إدخال العناصر التي اخترقت تلك الميليشيات إلى مؤسسات الدولة الأمنية الجديدة وهو ما يتعارض مع المصالح العليا التي تشكل أولوية مهمة لضبط أوضاعنا..

ويوم تصبح حياتنا مربوطة بضوابط  قانون الميليشيا الوطنية أو الثورية أو حتى "الديموقراطية إذا احتاجوا أن يصفوا عسكرتاريتهم الجديدة بها" حينها نقرأ على جديد عراقنا السلام ونعيد حليمة وعادتها القديمة ولكن بوضع من السوء والخوانق لا نحسد عليه إذ لن يسلم لا المواطن [الأسير داخل الوطن] والموجود تحت راية العسكرة الجديدة بل حتى المهاجر في الأصقاع القصية وكما ترون سيل التهديدات التي ترسلها مافيات الحركات المسلحة لمجرد مناقشة؟؟ ولا عجب يا سيد رجب.................

انتبهوا أيها السادة ولا تتقاعسوا عن هدف وطني أساس يكمن في أن الدولة العراقية هي دولة القانون واحترام الإنسان دولة المؤسسة المدنية وليست دولة الميليشيات والعناصر المسلحة، إنها دولة العلماء والمفكرين والمثقفين والأدباء والكتاب والصحفيين والفنانين والمهندسين والأطباء وشغيلة اليد والفكر من العمال والمزارعين وطلبة المعرفة وهي دولة الحق والعهد والعقد الاجتماعي المدني المكفول فيه حريات الناس وحقوقهم البشرية الآدمية...

أما حيث يكون "السيد" هو الحاكم بأمر الله والممثل الأوحد على الأرض والآمر الناهي والقانون الذي تخضع له البلاد والعباد ويصير "السيد" الدكتاتور الجديد والطاغية المستبد وطبعا وبالتأكيد حرصا على بلاده هو  وشعبه هو وأملاكه هو فعندها نكون كلنا خطأ والصحيح الوحيد الصائب هو بطولات ميليشيا الأمر بالمعروف[أي معروف؟] والنهي عن المنكر [أي منكر؟] ليس من جواب غير مزيد من إرعاب الناس بالإرهابوالمزيد منه؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!!!