المثقف العراقي و الدستور؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005  07\ \  02

E-MAIL:  t.ayseer54@hotmail.com

 

مؤسسات المجتمع المدني هي بنت مجتمع المدينة وهي اليوم في أعلى مستوى تطوري لها. ولا تقوم تلك المؤسسات إلا بناء على التراكم المعرفي لخبرات المجتمع الإنساني. ومن الطبيعي أن تتأتى تلك المعارف والعلوم من حال التدوين والكتابة ومن بوابة التثقيف بالتحديد بمعنى التعديل والتطوير المستمرين.

وهكذا فقد كان المعلم فالمفكِّر والفيلسوف فالمخطِّط والمتخصص الميداني أصحاب الباع الأول في تسيير المجتمع الإنساني وتغييره. ومع تعقد آليات التطور والتغيير والبناء فقد صار جميع هؤلاء على رأس قائمة الحراك الاقتصا-اجتماعي ببنيتيه التحتية والفوقية...

ولكن التطور النوعي للمجتمع البشري قد خلق قواعد مختلفة للقيم المتداولة التي ما عادت أساستها مادية بحتى بل صارت من جماليات الحياة وحاجات الإنسان قيما ومفردات روحية ثقافية محضة.. ما جعلنا اليوم بحاجة جدية لفاعلية المثقف والثقافة ودورهما في تلبية جوهر مطالب المجتمع الإنساني المدني..

اليوم صرنا إلى تكوين مجتمعاتنا بناء على أرضية مختلفة عن المجتمع القروسطي الذي خضع لحكم الأكليروس والمرجعيات الدينية البشرية ولكنها التي تُسْقِط على نفسها القدسية الإلهية زورا وبهتانا! واليوم تعاود بعض الدول الخاضعة لنظم الطغيان الدكتاتورية  سواء التي ما زالت في دائرة تلك السلطة أم المتحررة منها؛ تعاود بدورة رجوعية لإشهار سلطان حكم المرجعيات التي تدعي تمثيل سلطة الإله على الأرض!؟

وبهذا تحاول إخراج سلطة العقل ومنطقه الإنساني الحكيم الرشيد بمعنى استبعاد المثقف والثقافة على الرغم من أننا اليوم صرنا إلى مجتمعات لا تقوم إلا على أرضية العقد الاجتماعي أو الدستور العلماني التوافقي بين المواطنين على أساس من المساواة والعدل والإخاء وهي المسائل التي لا يمكننا أن نجدها في صيغ دستورية تفرض قسرا رؤى جهة بعينها على حساب الجهات الأخرى في البلاد الواحدة..

ما يريده المثقف إذن من الدستور اليوم هو أن يُنصف ويساوي بين المواطنين عامة من دون استثناء أو تجاوز من طرف على آخر.. لأن مسألة العدالة والمساواة هي أرضية السلام الاجتماعي وهذا الأخير هو أرضية الإبداع والنشاط الفكري الثقافي الحر.. فلا فعالية للثقافة والمثقف من دون تلك القاعدة حيث نجد التعارض المطلق بين الصراعات والحروب والتناقضات من جهة وبين العمل الثقافي وإبداعاته وإمكانات خدمته البشرية بإيجابية وفاعلية...

إنَّ ما ينتظره المثقف العراقي فضلا عن المبدأ العام في إطلاق الحريات ومنع تحديدها بمحددات قسرية من اي نمط بخاصة منها تلك التكفيرية التي تحجب أية حرية للنشاط العقلي الصحيح وللثقافة وحركتها حيث كبح لجام حصان التطور الجامح ومنعه من كل حركة بل تصفية المثقف لا فكريا حسب بل جسديا على وفق منطق التكفير الديني أو المنع الأيديولوجي. وهذا ما يجعلنا نركز على مبدأ الحريات بعامة ومنها الفكرية والأيديولوجية والاعتقادية وهي جميعها المقدمة اللازمة للإبداع ولحياة الثقافة..

ويريد المثقف في ضوء ذلك تثبيت التزام الدستور بمبادئ حقوق الإنسان على وفق الإعلان العالمي والمواثيق الدولية المقرَّة.  كما يريد تثبيت قيم إنسانية بالملموس في الدستور، حيث يُنص على دعم الثقافة والإبداع من باب تواشج العلاقات عبر الأجيال المتعاقبة باستدعاء الجذور الحضارية المتفتحة ولدينا منها في عراقنا ما هو تنويري إنساني مشرق بعمق ووضوح منذ سومر وبابل وأكد وآشور...

ومن هنا كانت قضية دعم الثقافة من الضرورة ما يجب تثبيتها بندا واضحا في الدستور يقر للمثقف حقه ومكانته وواجبه تجاه مجتمعه بتكريم المنطق العقلي التنويري والدفع به وبنشاطه عبر وضعه بمواجهة مسؤولياته واجبات وحقوق. ومن ذلك تثبيت رعاية الآداب والفنون وإعلاء شأنها ومنع المساس بها وبحركتها بجعلها من الثوابت الوطنية المقدسة.. إن مجتمعا يضع الثقافة والمثقف في مثل هذا الموضع يعبر عن المستوى التطوري المتفتح للبشرية ويدفع بخدمة مجتمعه خدمة صائبة وموضوعية تطورية ناضجة تتلاءم وما وصلته المجتمعات المتحضرة..

إذن صار لزاما إزالة أشكال المعوقات من أعمال تحريم وتكفير ومنع وحظر ومن أعمال عرقلة مادية الأسباب أو مؤدلجة وجعل الثقافة والمثقف في موضع التكريم والأولوية التي يتطلب عبرها الرفع من شأن الإنسان وقيمه ووجوده الحقيقي وليس بتشييئه وبسحقه لخدمة الماديات السطحية الصرفة.. ومن دون تثبيت هذه الحقائق في الدستور سيظل أمرها في حال من القلق وعدم الاستقرار والقبول بحالات التوازنات السياسية التي تضرب بالثقافة عرض الحائط مقابل حركة المصالح السياسية المعبرة عن الحاجات والمصالح الاقتصادية أو المادية المجردة الساذجة..

ما يريده المثقف يظل رهنا بالارتقاء بصياغة الدستور عن اليومي العابر وعن الأيديولوجي التكتيكي  والسياسي البرغماتي وبتجنيب الدستور فلسفة سياسية تخضع لرؤى الأفراد والجماعات المحدودة على حساب الآخر باي حال من الأحوال وهو ما يريد تجنبه المثقف ليغوص في عالمه العميق والكبير الثابت والراسخ في العمق الروحي للإنسان وفي بنيته وكينونته البشرية المتطورة..

إن الاتفاق على القواسم المشتركة روحيا وثقافيا بين مجموع المتعاقدين من المواطنين هو ما يمثل ديمومة الدستور وثباته وهو ما سمثل الابتعاد عن التجاوز من طرف على آخر وفي تثبيت أرضية الإبداع والحراك الثقافي، وبخلافه سنعيد الأوضاع حيث منع الإنسان من الإفادة من المنجز الإنساني المعاصر ومن درجة التطور البشري ثقافيا إبداعيا ..

وإلا متى يمكن لبدوي أو ريفي أو حتى لابن المدينة أن يقرأ ويتثقف ليستوعب آليات التذوق الإبداعي للقيم الروحية الكبيرة للإبداع الثقافي لعصرنا؟ إذا لم نستطع أن نوفر له حقيقة الفرصة المناسبة لمثل هذا التذوق.. إنَّ كتابة الدستور وصياغته صياغة عقلانية تنويرية هي الحقيقة الوحيدة التي تخلق الفرص المؤاتية للمثقف لكي يمارس نشاطه ويتفاعل مع الآخر ويوصل رسالته الإنسانية الحقة إلى المجموع العام..

من جهة أخرى يلزم للدستور العراقي في مرحلة تأسيسية لانطلاقة الحرية أن يوثق مسألة تكوين منظمات الثقافة ومؤسساتها ويشخص كينونتها في مواد واضحة وأن يدعم فلسفة التأسيس الثقافي الوطني والإنساني  ويحرم كل ما دون ذلك ويمنع ما يعرقل حركة المثقف ويوطد ما يحفزه للعطاء الموضوعي ليرسخ الصحي الصحيح بدل المرضي المستشري حيث الثقافة بل الامثقف نفسه يُباع في السوق رخيصا!

ما نريده من الدستور التوكيد على التعددي وعلى التنوع وعلى قبول الآخر وعلى إحياء التاريخ المتحضر والعطاء العقلي الناضح ويسمح بكل ما هو بنائي سليم بل يدعم مسيرته ويرسخها.. فالحديث عن الثقافي في الدستور أمر ليس من العابر  أو البرغماتي بل هو جوهر العقد الاجتماعي بين المواطنين الممثل لاسم الدستور ووجوده...

فهل سنجد المؤسسة الثقافية محمية دستوريا؟ وهل ستمتلك تلك المؤسسة الحصانة الجدية المسؤولة  بدلا من عمليات المصادرة الفكرية، الدينية (حالة التكفير على سبيل المثال)  التي تسمح بهدر دماء المثقفين؟ وهل ستجد المؤسسة الثقافية الصياغة الملائمة في الدستور بما يستجيب لحجمها النوعي في حياتنا المعاصرة؟ وهل ستشمل الحصانة الجامعات ومؤسسات الدراسات ومراكز البحث والمعارض والمسارح والمكتبات والروابط والاتحادات الثقافية وهل سنشهد البرلمان الثقافي الحقيقي الوجود؟

....

أسئلة كاثرة ولكننا بحاجة لتفعيل العمل من أجل دستور ينصف الثقافة والمثقف بعيدا عن المزايدة السياسية أو المناقصة الأيديولوجية المتسترة بعباءة الدين والحقيقة في ذلك تظل سياسية بحتة بما يتعارض مع قيم الإنسان الجديدة ودور المثقف بتقديم تلك القيم...