الشعب مصدر التشريع وكاتب الدستور الأول

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005  07\ \  04

E-MAIL:  t.ayseer54@hotmail.com

 

في العصر الحديث لتكوين الدولة شهدت أول أمرها الاستعمار الأجنبي الذي بقي ينادي بكونه يحكم البلدان لتخلفها ولعدم قدرة أهلها على حكم أنفسهم. بمعنى عدم امتلاكهم المعارف الكافية في شؤون الحياة؛ ما يعني حاجتهم لمن يخطط ويرسم ويكتب لهم قوانينهم ومفردات حياتهم وتوجيهها!

وفي التاريخ نقرأ أن الحاكم كان باستمرار يتحجج وبتذرع  لبقائه في الحكم والسلطة بأنه الأرشد وصاحب العقل الذي يدير للناس حيواتهم وهم لا يستطيعون ذلك لقصور فيهم وفي إمكاناتهم الفكرية ودرجة وعيهم ويستبدل وجوده الفردي بهم أي يلغي وجودهم وحقهم في تقرير مصائرهم..

وهكذا لم يكتب الإنسان (الفرد أو الجماعة \ الشعب) مصيره بقلمه ووعيه ما اضطره ليكتبه بدمه وكفاحه المرير. ولم يحصل على حق من حقوقه من دون ذياك النضال الذي شهدته البشرية من أجل انعتاقها ومن أجل أن تؤكد وعيها بمسار حياتها وحقها في كتابة تفاصيل تلك المسيرة وطبيعتها..

لقد كانت ثورات العبيد والصعاليك والزنج وغيرها البراكين الإنسانية التي رفضت القيود التي عملت على تكبيل الإنسان ووضعه في زنازين الخدمة والعبودية للطغاة الذين حكموا بالحديد والنار وكان ديدنهم باستمرار أنهم يحكمون باسم المقدس وباسم الآلهة على الأرض..

إذ كانت قوانين الاستغلال الفاحش تُكتب بأسياخ العبودية الحامية التي يدبغون بها جلود البشر بعلامات مالكيها! فكتبوا القوانين والدساتير بين طرفين لا مساواة بينهما ولا عدل ولا حتى الإخاء الإنساني بأبسط أشكاله! وبرروا ما كتبوه وما فعلوا باسمه بأنَّه أمر السماء وهم ينفذونه!

فصار الإنسان مهضوم الحق يقرأ في العقد بينه وبين الحاكم، أن ذلك يُكتب بين طرفين أعلى وأدنى،  مُهاب ومُهان، سيد وعبد أو مقدس ومستباح مستعبد.. ولكي تثبت العلاقة المختلة وتترسخ كان لابد من إدخال فكرة المقدس تلك في كتابة العقود بين الحاكم والمحكوم.. علما أن العقود بين الناس جميعا ليست إلا ضوابط يحتكم بها طرفا التعاقد لكيفية حل التشاكل بينهما في حال الاختلاف ولتمشية أمر الاتفاق على وفق تصور مشترك بينهما..

وبالعودة للدين والمقدس في حياة الإنسان كانت الديانات الوثنية وغيرها تعبير عن المرحلة التاريخية وطبيعة الرؤى التي عولجت بالمنطق البياني والفكر الأسطوري الذي استلب طويلا حق الإنسان لصالح مستغِلـِّيه.. حتى تأتي ديانات العدل والتسامح فالمسيحية وما أكدته من التسامح والعدل والمساواة والإسلام وما أكده من تكريم الإنسان ومنع استغلاله أو إهانته واستخلافه بعمله على الأرض وأمره بوضع ما يراه لتعمير الحياة وتسييرها...

فـ "لا يغير الله ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم" أي أن الإنسان مخيَّر لا مسيَّر وهو الذي يحدد لنفسه ما يرى "وقل اعملوا فسيرى الله ورسوله..." و"عامل يعمل خير من ألف عابد" و "لا إكراه في الدين" فمن حيث الجوهر لا إشارة لفرض أو قسر في الدين وصار على الدولة ألا تكون دولة أكليروس القرون الوسطى وما شابهها أي ألا تكون دولة دينية وامتنع فرض الدين فيها بالقسر أو استغلال المقدس لسلطة حاكم أو تشريع يعقده مع مجموع الناس...

فالعقد مشروط بالتوافق الإنساني بما لا يكون فيه لا إكراه ولا إجبار ولا قسر ولا طغيان طرف على آخر ولو بـ "مثقال ذرة".. من هنا صار للبشرية أن تكتب عقودها بينها على أساس من التوافق والاتفاق على أساس من ضمان حق الأول والآخر وعلى أساس من العدل والمساواة بين طرفي العقد بما لا يميل لفرض رؤية طرف أو فكره أو سياسته أو فلسفته أو إيمانه واعتقاده بل لكل من أطراف التعاقد حقها فيما ترى في حياتها فكرا وفلسفة واعتقادا ولكن عليها الإيفاء بما في العقود بينها من شروط وضوابط طالما هي اتفقت ووقعت تلك العقود..

فإن كان في العقد ما يشي بإكراه سقط عنه كونه توافق واتفاق وسقط عنه أن يكون ملزما للطرفين.. وصار قسرا من جهة على أخرى واستغلالا واستعبادا بما لا يقبل به صحيحُ دينِ ِ ولا شرعة عادلة.. وبالتأسيس على ما تقدم ولأن الدستور في بلاد بعينها هو عقد بين مواطني تلك البلاد ما جاز لطرف أن يفرض في الدستور فقرة أو ديباجة تشير لما يختلف عليه طرفا العقد.. ومن هنا صار لزاما تسجيل كون العقد مصدره توافق المتعاقدين واتفاقهم الحر وما خلا ذلك يصبح استبدادا وجورا..

أي أن مصدر عقد بين بائع ومشتر توافقهما على  مقايضة أمر بأمر ومصدر عقد بين أفراد مجموعة هو نظامهم الداخلي المتوافق عليه كما في الحركات والنقابات والجمعيات وغيرها ومصدر العقد الاجتماعي بين أبناء شعب من الشعوب هو توافق مجموع الشعب على صيغة للعيش وضوابط لتوجيه حيواتهم مشتركة في بقعة من الأرض (الوطن) وتحت راية لوجودهم الوطني المخصوص..

أي أن مصدر التشريع لوطن وأناس يعيشون في كنفه هو الشعب الذي يحيا في إطار ذاك الوطن.. ومصدر السلطة والتشريع هو الدستور المكتوب بعمل الناس وكفاحهم ووعيهم ومنطقهم العقلي البشري.. وبالعودة إلى كل ما ذكرنا يكون مصدر التشريع هو الشعب ومصدر السلطات هو الشعب ولا توجد اي ذريعة لفرض رؤية حزبية تزعم أنها القراءة الأصح للحياة لمجرد ادعائها بتمثيلها المقدس وغيرها لا يمثل الدين ولا المقدس..

إن هذه الفكرة ذاتها هي فكرة بشرية ليست دينية ولا مقدسة ولا قبول لأي إسقاط [بشري] منها في وجوب الفرض والقسر وتثبيت رؤياها المؤدلجة بما تزعمه القراءة الدينية الوحيدة للنص المقدس.. وعليه فما يخص التعاقد البشري والعمل البشري الإنساني يظل حرا لا  سلطة عليه إلا التوافق بما يكون الأفضل في خيار الناس لحياتها ولضوابط تلك الحياة في ما يسمونه العقد الاجتماعي أو الدستور..

ولا يجوز خلط الأوراق بين الديني والمدني بخاصة في بلاد تتعدد فيها المجموعات الدينية والمذهبية حيث لا يجوز فرض أحد الخيارات على البقية لأي حجة كانت.. فالصحيح هو القبول بالآخر على أساس من العدل والإنصاف والمساواة أمام القانون الذي يمثل العقد بين الأطراف المختلفة اعتقادا ولكنها المتفقة دستورا أو قانونا أو ضوابط حياة ومسار إنساني حيث القانون تعبير عن ذاك التوافق..

ويبقى على الدستور أن يحفظ لكل طرف في إطار شعب بعينه حقوقه حيث تـُكتب الصيغة الأنسب بعبارة "الشعب مصدر السلطات والتشريع الذي يحفظ لكل مكوناته حقوقهم في طقوسهم وشعائرهم تامة كاملة ولا تنتهي حرية طرف إلا حيث تبدأ حرية الآخر المحفوظة من أنْ تُمَسّ ومن كل تجاوز" فلا يرد ذكر الدين بما يتعارض ومصدر التشريع ولكنه يرد بما يتفق وحفظ مكانته واحترام قدسيته ومنع التجاوز من باب حقوق الناس في خياراتهم الدينية المذهبية الاعتقادية...

في حين سيكون تثبيت أي نصوص دينية بعينها على وفق رؤى الأحزاب السياسية التي تدعي تمثيلها الديني والمقدس أمرا يتنافى والدين نفسه كما قرأنا ذلك في أول مقالنا ويتنافي مع العدل والإنصاف في التعاقد البشري لتقديم رؤية طرف على آخر.. وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة البحث في مسألة تغييب مصطلح "الشعب مصدر السلطات والتشريعات" لصالح مزاعم أحزاب الطوائف الجديدة وهي أحزاب لا يقبلها نص ديني منصف وبعضها يكفر بعضها الآخر على وفق منطق التعارض بين قراءتها وتفسيراتها الدينية المذهبية أو الطائفية المرضية المتأخرة بل لا يقبل المجتمع بأغلبيته من مختلف الأديان أن يجري تكفيره واختصار الرؤية الدينية الصائبة في رؤية حزب "ديني طائفي" بعينه حيث ستبقى فلسفة تكفير المجتمع القراءة الأشد نكاية بالدين ليس من باب تطرفها حسب بل من باب أن الدين الوسط وأن الدين العدل والإنصاف وأن الدين العمل الحر والاختيار الحر فلا إكراه في الدين..

وليقل لنا بعد ذلك أصحاب مزاعم تمثيلهم السماء والإله والمقدس أي تعارض بين العقد الاجتماعي المدني (الدستور) الذي يكتبه الناس لتوجيه حيواتهم وتصريف أعمالهم وحفظ حقوقهم جميعا على قدم المساواة والعدل في الاعتقاد وفي ممارسة الطقوس؛ وبين الدين الحق ونصوصه المقدسة؟؟؟  أين التعارض في كون الشعب مصدر التشريع والمقدس الذي ينص على تكريم العقل وحرية الإنسان ومنع إكراهه وأنه هو الذي يختار تغيير حاله وعليه العمل والتقرير بنفسه مخيرا لا مسيرا؟؟؟

لنعد إلى عبارتنا التي تمثل حقوقنا الإنسانية التي لا نبيعها لأي كان من أولئك الذين يتاجرون بنا حيث يسطون ويسيطرون فإذا وعى الشعب وانتفض ألزموه بالخضوع باسم الدين والمقدس ولنراجع تاريخ الذين يزعمون الأمر وقراءاتهم للنص الديني ومصداقية أمرهم ليتبين ألا حافظ للدين غير حرية الشعب ومرجعيته في كل أمر ومن بينها أمر اعتقاده وصحة خياره...