ثورة الرابع عشر من تموز بين أهدافها ووسائلها

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005  07\ \14

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

سجل الباحث الأكاديمي والسياسي المنصف لثورة الرابع عشر من تموز يوليو 1958 كونها ثورة وطنية ديموقراطية في مضمونها ومستهدفاتها.. وقد اعتمد ذلك على قراءة طبيعة التغييرات التي أحدثتها الثورة وتبنتها في مسيرتها..

فلقد حرَّرت أبناء الريف العراقي المستغَل من قيود النظام الاقطاعي ووزعت الأرض على الفلاحين وسنَّت قوانين إصلاحية بالخصوص.. وعملت على تحرير المرأة وتقدمها ومساواتها الإنسانية عبر قانون الأحوال الشخصية ومجموعة إجراءات سياسية مخصوصة.. وأطلقت عددا من الحريات التي سمحت بالتجمع والتظاهر والتعبير عن الرأي وكان من بين ذلك حرية الصحافة التي فسحت المجال لقفزات نوعية في توزيع "اتحاد الشعب" على سبيل المثال...

وحرَّرت الأرض العراقية من سطوة امتياز الشركات النفطية الأجنبية بتأميمها أكثر من 99% من الأرض العراقية فضلا عن بدئها مشروع شركة النفط الوطنية وانعتاق العراق من كتلة الإسترليني... وتحرر العراق من حلف بغداد ومخاطره بل وجهت له الضربة الحقيقية القاصمة..

ومن الطبيعي لأي قارئ لمثل هذه الخطوات أن يجد تشخيصه متجها إلى إبراز الجوهر الوطني الديموقراطي للثورة.. بخاصة عندما يتابع تنامي المد الجماهيري في التعاطي مع التنظيمات السياسية اليسارية الديموقراطية  والليبرالية وحرياتها في التعبير بأشكاله المتنوعة المختلفة..

ولكن هذه الأهداف وغيرها لم تستكمل شروط مسيرتها بخاصة مسألة إجراء الانتخابات الوطنية العامة وتشكيل المجلس الوطني المنتخب، ومتابعة تطوير الحريات العامة مثلما تعلق الأمر بتشكيل الأحزاب والجمعيات والنقابات وهو ما جرى أحيانا التراجع عن بعض مكتسباته عندما جرى التضييق على أبرز تلك الأحزاب الوطنية اليسارية منها والديموقراطية...

فصرنا نتابع وجود آلاف المعتقلين بسبب الرأي أو المعتقد؛ كما جرى تصعيد الصراع بين القوى والحركات السياسية بطريقة تصفوية اتسمت بأقسى سلوكيات العنف والدموية.. وفي الوقت الذي جرى غض النظر عمَّا كان يُحاك من أعمال زعزعة النظام السياسي العام وأعمال استهدفت اغتيال الثورة، تمَّ نزع أسلحة حُماة الثورة وطوردوا واعتقلوا!!؟

وكانت فلسفة عفا الله عمّا سلف ومنح القوى المعادية للتغييرات الوطنية الديموقراطية مقابل تشديد الخناق على القوى الثورية والديموقراطية؛ كان كل ذلك من الثغرات التي وقعت القيادة السياسية للدولة بالتحديد زعيم الثورة العسكري غير الخبير في التعاطي مع تطوير العملية السياسية..

إذ أن نجاح الثورة ومسيرتها طوال الخمس سنوات من التحديات، عاد إلى جملة أسباب موضوعية ولكن لكل تغيير قواه التي تتقدم به وتستطيع تطويره.. وما جرى لاحقا هو العكس إذ تنامت قوى الثورة المضادة بدعم خطير من قوى إقليمية ودولية وهو ما جاء حسب تعبير بعضهم بقطار المخابرات الأجنبية.

واستتبع الأمر (انقلاب شباط السود) تصفية دموية لعشرات ألوف العراقيين مستهدفين الشيوعيين الذين قادوا النضالات الوطنية طوال أيام الثورة ومسيرتها التحررية، حتى إذا أتموا تلك الحرب القذرة أعادوا تعديل السلطة (انقلاب تشرين) وتلميع وجهها المعادي للحركة الشعبية وتطلعاتها..

إنَّ أبرز أخطاء الثورة جاء ناجما عن الاستمرار في التعاطي مع أداتها التي جاءت بها إلى واقعنا وهي الأداة العسكرية ممثلة بالضباط الأحرار وحركتهم التحررية الوطنية المسلحة.. وهذا (أي الثورة المسلحة) يظل صحيحا في منطقة الشروع بالثورة ويُفسَّر توظيفه بتمسك الحكم السابق بالسلطة عبر استغلال الجيش والأجهزة القمعية وعنفهما، لكن استمرار قيادة الثورة ومسيرتها من قبل الضباط الأحرار فضلا عن الاختراقات والثغرات التي أشرنا إليها، لا يمكن إلا القول بأنَّه طعن الثورة نفسها في مقتل!

والسبب واضح بيِّن حيث أن المضامين والأهداف الوطنية الديموقراطية تبقى في حال من التعارض والتناقض مع الأدوات العنفية المسلحة.. ولا يمكن التقدم بالعملية السياسية الديموقراطية بأدوات العسكر والأجهزة الأمنية ولا تحتمي الديموقراطية بالبندقية بل باعتماد الصوت الشعبي نفسه..

وعليه فقد كان التقدم بالمنجزات وطنية الجوهر ديموقراطية المستهدفات في تعارض خطير مع بقاء تشكيلات الزعامة العسكرية للسلطة السياسية.. وهو ما سهَّل بوضوح إمكان اغتيال الثورة صبيحة 8 شباط من سنة 63 الملبدة بالغيوم السود المكفهرة..

إنَّ عامل توظيف الحماية اعتمادا على إخلاص قادة الثورة من الضباط الأحرار لم يكن بكافِ ِ أمام كل تلك القوى المعادية التي تحالفت بينها مستندة إلى تخلل واضح في العمل السياسي من جهة وإلى أصابع أجنبية وضعت كل ثقلها في المعركة هنا في بغداد..

والصحيح أن تستند الحماية إلى إجراء انتخابات حرة نزيهة وديموقراطية في وقت كانت القوى الوطنية الديموقراطية هي سيدة الشارع العراقي.. ولكن ذلك القرار كان معكوسا في اللحظة الحاسمة للذروة في الصراع بين القوى الشعبية نصيرة الثورة الوطنية الديموقراطية من جهة  وأعدائها من جهة أخرى..

إنَّ تلك التجربة في التناقض بين الأهداف الوطنية الديموقراطية لمضامين الثورة وتوجهاتها وبين الأدوات والوسائل التي استمرت في التعاطي بها، هي التي أوقفت لا تطور الثورة بل كانت السبب الرئيس لاغتيالها نهائيا وترك العراق والعراقيين نهب الريح السوداء طوال العقود اللاحقة التالية

وهذا ما ينبغي أن نستفيد منه في تبيِّن التغيير السياسي الذي حصل في واقعنا العراقي بعد هزيمة الدكتاتور في معركته مع القوات الأجنبية التي دخلت في ظروف معقدة للعراق الجديد، ما يتطلب القراءة الموضوعية المناسبة لتصحيح تطور الأوضاع لصالح الشعب وليس أعدائه..

وتلك القراءة تقوم أولا على وحدة القوى الديموقراطية الوطنية اليسارية والليبرالية ووقف زحف القوى الطائفية التي تخترق الواقع وتستغله من جهات عديدة منها الأصابع الإقليمية والدولية المعادية للعراق ومصالحه ومنها استغلال قوى العنف الدموية من ميليشيات ومافيات بعينها فضلا عن استغلال ماكنة إعلامية تضليلية ما يتطلب أعلى مستويات العمل الوطني الموحد؛ الفاعل بحيوية ونشاط بمستوى المسؤولية المناطة بالقوى الحية المخلصة...