العراق وهيمنة "البازار" على السلطة؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005  08\ \23

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

 

ظل العراقيون منذ فجر السلالات أناس يميلون إلى وداعة وألفة مع محيطهم منصرفين إلى العمل وانتاج الخيرات في حال من التحدي لثورات غضب الطبيعة من فيضانات تدميرية وغيرها ومن معالجة نتائج الغزوات التي تعرضوا لها ما جعل الانكسارات العسكرية المؤقتة تنهزم أمام رسوخ ثقافتهم المتحضرة المتمدنة...

وبقي تكوين العقل العراقي المعاصر على وفق منطق حضارة متفتحة أبت على الانكسار والخضوع لظروف الاضطرار والقسر والإكراه المتأتية من اشتداد الصراعات الدولية والإقليمية منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة وحتى يومنا هذا..

من جاء تمسك العراقيين بمسمى وطن الرافدين ليمثل تضمينا مسؤولا لشعورهم بوحدة نسيجهم الوطني القائم على احترام التعددية والتنوع في تكوين المجتمع العراقي في ماضيه وحاضره.. وسجل التاريخ العراقي باستمرار القديم منه والحديث ثوابت العقيدة الوطنية العراقية كونها أعمق وأرسخ من كل التفاصيل التي تطبع المجتمع بفسيفساء التلون والاختلاف أحيانا...

وصارت الهوية العراقية الثروة الوطنية الحقيقية للعراقي الذي ركز على أنشطة البحث الإنساني المعرفي وعلى العمل المنتج مبتعدا بوضوح عن فلسفة السوق وتبادل البضائع بالمعطيات السلبية للعملية وبتسطيح قيم الإنسان وتهميش وجوده.. فوقعت الشخصية العراقية أسيرة الارتهان لسلطة غاشمة تاجرت به وبسماته طويلا!؟

لقد تعاقبت على العراقي أهوال جمة نتيجة تلك السلطة الغاشمة، كان أقربها سلطة الطغيان التي امتدت حوالي الأربعة عقود.. تلك السلطة التي لم تسقط إلا بعملية قيصرية خضعت لكل مقاييس التشويه ليدخل العراقي اليوم في دوامة أخرى؛ وليخضع لسلطة "بازار" جديد يديم المتاجرة بعراق الخيرات المتحولة لنقمة على العراقي!!!

البازار الجديد سلطته لا تختلف سوى بحجم العنف ونوعه وكيفيات استغلاله.. أمس كانت الأجهزة القمعية مؤسسة على سطوة إرهابية على مؤسسات الدولة العراقية بالخصوص تحويل أجهزة أمن المواطن والوطن إلى أجهزة استعباده وساتلابه.. وكانت تلك الأجهزة تنهض بواجبات مؤسساتية من باب تصريف أعمال الدولة وحركتها ولكنها بالأساس كانت الحارس الأمين لسلطة بازار العنف السياسي وطغيان الدكتاتور المستبد وحاشيته...  

وفي عراق اليوم لا توجد أجهزة حقيقية لمؤسسات دولة مستقرة لسببين الأول أنها لم تكن موجودة طوال العقود المنصرمة بل ما كان هو أجهزة قمعية (تمثل الطاغية) مارست تصريف شؤون الدولة وما أن انهار الطاغية حتى زالت تلك المؤسسة والأمر الآخر خطيئة حلِّ فوري مستعجل لهياكل "مؤسسات" الدولة البوليسية ما سمح للتشوهات الخطيرة أن تنطلق من عقالها في مجتمع متضخم المشكلات...

وفي عراق اليوم دخلت البدائل خطيرة من كل حدب وصوب فمن قوات أجنبية تعمل على وفق مصالح وسياسات ليس للعراقي يد حقيقية في توجيهها ومن اختراقات إقليمية بمستويات لم يشهدها عراقنا القديم ولا الحديث... حيث لم تدخل القوى المحيطة بقوات منظورة ليخوض معها العراقيون صراعهم ولكن الدخول هذه المرة جاء مقنَّعا بأردية عفى عليها الزمن؟؟؟

ها هو البازار الجديد يأتينا مسلحا بعنف آخر هو عنف البلطجة الملتصق بكل أنماط الطغيان التي مرت على العراق والعراقيين ليدخل هذه المرة برايات المافيات وعصابات السرقة والاغتصاب وميليشيات الموت واستباحة الحياة الإنسانية وقيمهاوهكذا يصطبح العراقيون بسرطان استشرى في الجسد الوطني!!

وليسفر الإرهاب عن سلطته الجديدة ليبدأ فصل آخر من قصول مجازر العراقيين ومقاتلهم.. وأرضية السلطة الجديدة تمر في ظلال انعدام مؤسسة دولتية مرجعيتها العراقي أو هويته وفوضى بلا أول ولا آخر  مفتعلة بتقصد وعمد وشلل خطير في إرادة الفعل والقرار في بقايا القوى الوطنية العراقية التي ظلت مربوطة إلى مسلخ الطغيان مفصولة عن جماهيرها بسلطة الدم المستباح...

أما عناصر سلطة البازار الجديد فتتشكل من عصابات الطيش التي تحولت إلأى عصابات منظمة مدربة ومجهزة مدعومة وحتى موجهة.. ومافيات بارتباطات أجنبية وميليشيات بمرجعية إقليمية أبرزها ميليشيا ملالي إيران ومجموعات الطاعون الأسود العائدة لإرهاب التأسلم السياسي المتطرف...

وعقلية كل هذه الفرق والجماعات ليست أكثر من عقلية فأر جائع متعطش للدم موبوء بالطاعون.. أو ذهنية مريضة بجنون سادية دموية كخفافيش الليل المدلهم.. فكيف بنا وهذه القوى تدخل بديلا عن عودة المهجرين والمنفيين وتدخل بعشرات آلاف الحشر لا البشر وتدخل مدججة بأسلحة الموت ومتفجراته القذرة؟

إنَّ توصيغ الحال العراقية لم يعد يمكن اختزالع ولكن سلطة البازار اصطلاح يمكنه أن يعبر عن طبيعة الشر والدموية وطغيان رؤى الاستلاب والاغتصاب والاغتيال التي لا تقف عند حد بعينه فهي لا تكتفي بسد جوعها وجشعها بل تسري نحو مزيد من البشاعات لمصلحة بالتأكيد ليست محدودة بمرجعية تسمي نفسها عراقية كعادة كل طغاة الأمس واليوم والغد...

إنَّ البازار الجديد أبشع من كل ماسبقته لأن قانون الاستغلال يكمن في تزايده وتضخمه تمهيدا لانفجاره وزواله إلى الأبد..

ومن هنا يبدأ وجه الأمل العراقي المستند لإرادة الشخصية العراقية المتحضرة وقوة الحق فيها وصحة الأداء حيث استنرنا بتجاريب أمسنا وضياء دروب غدنا.. وستنزاح عنّا غمة الريح الصفراء من ملالي شرقنا ومشايخ غربنا ومن كل مجاهل الماضي المظلم والحاضر المعتم...

أيها العراقي الطيب، لم تؤمن يوما بعقيدة مزقتك ولست بحاجة لعقيدة بديلة تشظيك كما تفعل قنابل الحشر وليس لنا إلا عقيدتنا الوطنية التي لا تؤمن بعمامة مزيفة ولا عباءة مضللة ولا سيف لقوات "غدر" أو سحر وسينقلب السحر على الساحر لأن السحر الأسود وهم وضلال والعقيدة العراقية حقيقة وإيمان وحتما سينتصر الحق ويزهق الباطل لأن الحق هو العراق والعراقيين ومصالحهم والباطل كل دخلاء الأمس واليوم ....