ما الذي جرى ويجري وما المطلوب للخطوة التالية من مسيرة كتابة دستورنا الدائم؟
الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005  08\ \30

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

تمَّ تمرير مسودة الدستور على أساس أقل من نصف توافقي؛ أي على أساس تبادل الاستجابة لأنصاف حلول لمطالب فريقين عراقيين رئيسين.. فيما جرى إهمال واضح لصوت الشعب العراقي بمجموع فئاته ومكونات بنيته الشعبية من طبقاته وفئاته الواسعة.. حيث تمت إعادة تقسيم افتراضية للشعب على أساس أن الأحزاب هي الأصل المتبوع والشعب هو الفرع التابع.. فعلى وفق التصورات والرؤى الطائفية لتكوين أحزاب ما يُسمى بالأغلبية البرلمانية صار الشعب مقسَّما على طائفة الشيعة وطائفة السنة وصار الممثل الشرعي الوحيد هو أحزاب وحركات وعناصر طائفية التوجه والتفكير!!!

وهكذا أُعيد العراق لمراحل تاريخية انتهت منها المجتمعات البشرية منذ مئات السنين بل كان عراق الأمس البعيد أول من وُلِدت فيه دولة المدينة (سومر) القائمة على التمدن والتحضر وليس الرجوعية باتجاهات تكوينات مجتمعية انعزالية كما حصل في مراحل الاندحار والهزيمة في التاريخ الإنساني يوم صارت نقابات الطوائف المعتكفة المنطوية على ذاتها مخافة مخاطر الاندماج في المجتمع ويوم كانت دويلات التشظي والتشطير والاستغلال الطائفية فرصة محو حضارة مركبة كما حضارة الأندلس.

والحديث جرى بصدد إنجاز نسبة كذا وكيت من الدستور مقاسا بالسنتيمترات والأسطر والأرقام وليس بمحتويات صياغته ولا بمضامينه الجوهرية التي كُتِبت بلغة سياسية لا قانونية دستورية كما ينبغي وكما كان المؤمل أن يجري الأمر في بلاد القوانين.. فقد وجدنا الثوابت الوطنية العراقية ملتبسة جرى تعميتها ولفلفتها بعبارات منمقة..

فأولا حقوق الإنسان جرى طمسها باستمرار بصيغة له الحق (بالتذكير) على ألا يتعارض مع ثوابت هذا الدستور وديباجته وفلسفته.. وعندما يُشار للمرأة يجري تشديد آخر بتوكيد على ألا يتعارض مع الشريعة والفقه من منطق الفقيه الوصي وليس من منطق النص الديني المقدس.. حيث الحق هنا هو الحق المشروط بولاية شخص يحكم بأمر الله فارضا وجوده حاكما مطلقا سلفا تُحال إليه المرجعية في كل أمر وشأن..

ووجود الأعراق والقوميات والأديان تمَّ منحها عطية بوصف كل تلك المجموعات العراقية الأصيلة تابعا ناليا لهيمنة ما يُسمى الأغلبية ولفكرها ومعتقدها.. وأي حق لها يمكنها ممارسته يجب أن يقف عند بوابة الفقيه المتأسلم وولايته ووصايته ويظل مشروطا بموافقته على قبول تلك الممارسة.. فهناك دوما أصل وفرع حاكم و محكوم بطريقة دافع الجزية من الموالي المحكومين بدولة دينية بعينها...

والدولة الجديدة هي دينية ليس لقصد الدين وتطبيقه والدفاع عن ملتزميه ومعتنقيه بل لتوجهات طائغية بعينها تنتصر لمظلومية تاريخية تُعلَّق برقبة طائفة بعينها عن سابق قصد لتشطير المسلمين وتوليد الاحتراب بينهم.. كما أن هذه الدولة الدينية ليست دولة احترام المدني ووجوده لأنها دولة المرجعية وولايتها حيث يجري منح المرجعية الدينية استقلالية ومرتبة منزهة بقدسية الأماكن المقدسة وقدسية أصحابها المنتزعة لإسقاطها على شخوص سياسية من زمننا بهدف أن يحكمها الولي الفقيه بالمطلق أو المقدس...

فيما نعرف ما علمنا التاريخ إياه أن الدولة "الدينية" المفترضة تاريخيا لم تكن وهي في عراق الحضارة  إلا دولة معارف وعلوم وتفتح وحاملة مشاعل تحرر حيثما قرأنا منها مسيرتها المؤسساتية المدنية [بخلاف زاويتها المعتمة حيثما مررنا على الجانب المظلم من وجودها ومزاعمها "الدينية"] وتلك الدولة كما قرأنا عنها لم تخضع لنظرية الولي الفقيه ورجل الدين وأما الدين فلم يرد فيه ما يقبل صومعة عزلة واعتكاف أو ما يخيِّر عابد مؤدِ ِ للطقوس الدينية ليل نهار على عامل بل عامل يعمل خير من ألف عابد كما ورد في الحديث النبوي الشريف.. وعليه فإن فلسفة تمرير ولاية الفقيه والدولة الدينية في عصرنا أمر يحمل في طياته لا التراجع عن مكتسبات المدنية والبشرية وشعبنا بل يعرضنا لمخاطر همجية طغيان أقسى وأعتى من طغيان الدكتاتورية الدموية المقيتة المهزومة.. حيث يأتينا بطغيان واستبداد بوجه كالح متهرئ وليس جديدا بل خلِقا من قرون العتمة والظلمة...

وفي مسودة الدستور المقترح للتصويت بلا تعديل ولا مناقشة تضارب بين مادة وأخرى وبين محتوى باب وآخر فضلا عن غريب الصياغة اللغوية في بلاد النحو والأدب وعلوم اللغة، وكأننا عُدِمنا أو حرمنا وجود علماء اللغة ليظهر علينا الدستور بأغلاطه وأخطائه اللغوية ما يحيل لأخطاء مضمونية في قراءته وتفسيره ويثير مشكلات قانونية دستورية في قابل الأيام...

وفي حقيقة أمر من تمثله مسودة الدستور يمكن القول إنَّ الحاضر هو قوة حزبية تدعي انتسابها بل تمثيلها لطائفة ومظلوميتها.. فيما طبقات الشعب وأحزابها ومنظماتها التي تمثلها بحق، هي المغيَّب الأكبر وليس مزاعم تغييب "الطائفة السنية" فلقد جرى عن عمد وقصد تغييب القوى الشعبية ومؤسسات المجتمع المدني... فلا المهندسين البُناة ولا الاقتصاديين ولا السياسيين الأكاديميين ولا القانونيين ولا الأساتذة والعلماء ولا النخب الثقافية والمبدعين ولا ممثلي العمال والفلاحين والنساء والطلبة والشبيبة، ليس كل هؤلاء هم من جرى تمثيلهم في لجنة الصياغة...

وعليه فالقارئ الحصيف يرى بوضوح وجلاء اختزال المجتمع العراقي وتمثيله السياسي بحزب أو مجموعة أحزاب طائفية بعينها.. وإذا كان لهذا القارئ أن يعلق ويقول إن الأغلبية الانتخابية هي التي فرضت هذا التمثيل فللقارئ نفسه أن يسأل مطالبا بالإجابة عن سرّ إلحاق الدستور بفعالية انتخابية بحتة وجعله مجرد استحقاق انتخابي من جهة المتحرك الفاعل الموجِّه لعملية الصياغة ومن ثم في عملية التقدم لإقراره باستفتاء سيظل في نطاق الاستحقاقات الانتخابة الصرفة؛ وهو أمر غير ممكن القبول به بالقطع...

إنّ عملية كلفتة كتابة دستور بلغة سياسية شوهاء لتمرير مخططات بعينها ينبغي ألا تنطلي على قوى المجتمع العراقي الحية والصراع الحقيقي لا يجري بين أحزاب "شيعية" وأخرى "سنية" ولكنه يجري بين الطائفية ومخاطرها وفلسفة دولة دينية محكومة بولاية الفقيه من جهة وبين كل الشعب العراقي من نساء ورجال من شبيبة تمثل الأكثرية من شعبنا المبتلى ومن طلبة واساتذة وعلماء ومفكرين ومهندسين وبالتأكيد من الطبقة العاملة ومن الفلاحين وهما أكبر تشكيل لبناء الحياة وتقدمها وسيرها لخدمة انتاج الخيرات المادية والروحية لشعبنا..

إنَّ الديموقراطية يمكنها أن تقبل بوجود كل التيارات السياسية ولكن ليس من الديموقراطية هيمنة فريق على آخر ولقد سقط ادعاء فريق الأحزاب الطائفية منذ اللحظة التي استغل فيها أغلبيته البرلمانية لينحرف بصياغة دستور البلاد والعقد الشامل بين مكونات المجتمع العراقي ويجعل الدستور مجرد استحقاق انتخابي مصورا عدم التوافق بين عدد من الأطراف يمكن إيقافه وحله باختزال القضية الوطنية الكبرى بجلسة تصويت برلمانية حتى لم يكلف نفسه منحها فرصة إجرائية برفع الأيدي...

إن الدستور استحقاق وطني شعبي يمثل توافق إلزامي إجباري فيه أن تُحترم جميع أو أغلب الأصوات الممثلة لطبقات الشعب وفئاته ومن مهزلة الزمن أن يُلغى الوجود الشعبي ويصير الأمر للعبة الانتخابية .. أي لنذهب إلى صندوق الاقتراع ونستفتي والصندوق مضمون معبأ سلفا بالبطاقات كما حصل في الاختراقات الخطيرة في آخر مثالين الأول عندما فاز الطاغية المهزوم بمائة بالمائة من أصوات الشعب ولا عجب ولكن العجب عندما فازت الطائفية في ظلال ديموقراطية حراسة [الميليشيات المسلحة  وعصابات العنف السياسية] تلك الصناديق المقدسة؟!!

بلى ونعم للاقتراع والاستفتاء ولكن في ظلال الديموقراطية وليس هيمنة الهراوة والعصا.. الخطوة القادمة تكمن في قراءة المتخصصين والحركات السياسية الديموقراطية وقوى الشعب فردا فردا للمسودة وإبداء الرأي منذ اللحظة لكي نقول الرأي لا بوصفه تحفظا مرميا في سلال المهملات وأدراج النسيان فيما استباحة الحق العراقي تحتفل على أشلاء أبناء شعبنا...

لابد من دراسة مخرج مسؤول للظرف الذي صرنا نواجهه وللآلية التي نسير فيها.. فغدا يمكننا إجراء الاستفتاء على سبيل المثال في سؤالين  وليس سؤال مع أوضد ولكن في سؤال الموافقة بالإجمال بنعم أو لا وسؤال أي الأبواب أو المواد معنرض عليها بتسجيلها رقما وهكذا قد يصير بهذا وسيلة لمراجعة النص من قانونيين وتحال مسألة الإقرار لثلثي الجميعية الوطنية اللاحقة..

وهذه مجرد فكرة أعرف أنها لا تنسجم مع مفردات إجرائية مرسومة ولكنها بادرة لكي نفكر بأيهما الأجدى إقرار الصيغة وتمرير ما أُريد لنا تمريره قسرا أم رفضه والعودة لكتابة من جديد وفي حال العودة هل سنعود باختزال قوانا الشعبية ومكونات مجتمعنا العراقي بطريقة الاستحقاق الانتخابي أم سنعود بطريقة صائبة صحيحة؟؟

الخطوة التالية تكمن في يد الشعب حيث بدأت تتكشف له الأمور وصار يعرف أكثر وأكثر بفضل توسع شرايين الحياة من جديد مثل عودة المياه إلى أهوارنا ومثل عودة الطاقة لميادينها ومعاملها وإلى بيوتنا العامرة بالأنفس الأبية الكريمة المعطاءة.. وعلينا أن نبحث عن قوتنا هناك بين صفوف المظلومين بانقطاع الكهرباء والماء والمحرومين من الخبز والحرية حيث لا نصغي حسب بل ننقل الصوت ونعليه ونرقى به وبمجد اسم العراقيين وتطلعاتهم وبريق أعينهم اللامعة بالأمل واسعا متفتحا عظيما..

لندرس الأمور ونضع الخطوات التالية المنتظرة على وفق اصطفافات وتحالفات جدية مسؤولة ترقى لمستوى المسؤولية وتكون المفتاح للتالي من الحركة والخطو إلى أمام.. لا تتركوا الفرصة تضيع مرة أخرى لمراحل تاريخية أخرى وتسلِّموا الشعب لأيادي الضيم من جديد فلقد مرَّت سنوات عجاف تحت أستار دفاع وتبجح الطاغية عن الشعب ومشى كما نعرف جميعا في جنائز ضحاياه ولا نريد اليوم مزيدا من جنازات الضحايا يمشي خلفها القتلة ليذرفوا دموع تماسيح فرحين بنجاحاتهم في اغتيال صوت الناس بعد سرقته...