العراقي بين الأحزاب الطائفية والأحزاب العلمانية؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2005\ 09\17

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

 

منذ انفتحت نافذة العمل السياسي من غير رقيب مخابراتي أو قمعي والأحزاب تتوالد في وطن الرافدين بمختلف المسميات والرايات.. ولكن المتابع السياسي الموضوعي يعرف كيف يفرز بين تلك الأحزاب ذات الثقل النوعي في الحياة السياسية وتلك التي لا تمتلك أكثر من مقر وجريدة رئيس تحريرها لم يتخرج بعدُ من صفوف محو الأمية وشوية دنانير أو حفنة دولارات في جيب الناطق الرئيس العضو وهو كل شئ في ذاك [الحزب]...

وتاريخ العراق السياسي المعاصر يقدم للمواطن العراقي مثلما يشهد للمتابع برامج الأحزاب والحركات السياسية الكبيرة منها والصغيرة.. وهي عادة ما انقسمت بين تيارات علمانية وليبرالية وديموقراطية في المراحل المتعاقبة في بلادنا؛ فيما ظهرت في بعض المراحل حركات أو تنظيمات للتيارات الإسلامية وأكبر منها [حجما] القومية بمختلف مساراتها وبرامجها..

لقد دفع العراقي بثقله خلف الحركات الديموقراطية اليسارية التي وجدها تقارع الاستغلال وتستهدف تحقيق مطالبه وتطلعاته ومصالحه، وبقي كذلك منذ نشأة التنظيمات نهاية عشرينات القرن الماضي ورافق مسيرته مع الحركة الديموقراطية العلمانية مسيرة الثورات والانتفاضات الوطنية المشهودة  متوِّجا إياها في ثورة الرابع عشر من تموز.. ولكن التجربة ذاتها تشير إلى مخاطر عدم الانتباه إلى حجم تأثير التدخل الخارجي كما حصل في عملية الإجهاز على ثورة 14 تموز المجيدة بأصابع إقليمية ودولية معروفة...

ولم تنسَ بعدُ الذاكرة العراقية المذابح والمقابر الهولوكستية بحق الديموقراطيين اليساريين العراقيين سواء في عملية اغتيال الثورة أم في عمليات المطاردة والتصفيات كما في سجون الطغيان البعثفاشي طوال العقود الأربعة الأخيرة... ولكن الجريمة بحق اليسار العراقي والعلمانيين ومنهم بالتحديد الشيوعيين لم تأتِ بأيدي الأنظمة الفاشية وحدها..

فقد تعاورت معهم قوى عملت على أسلمة السياسة وإدخالها في لعبة مقنَّعة هي لعبة التدين المصطنع المسيَّس ومن ثمَّ إدخال عامل التكفير الديني للتجريم السياسي ومن ثمَّ للإيغال في عمليات التصفية الجسدية والتطهير الفكري والسياسي كما حصل في فتاوى تكفيرية معروفة في ستينات القرن الماضي بالترافق مع الانقلاب الفاشي الدموي؛ وكما حصل ويحصل اليوم عبر استعادة تلك الفتاوى التكفيرية واجترارها وتذكير بعض ساسة الأحزاب الطائفية التي تتحكم بالشارع السياسي بها وعبر بلطجة ميليشياتها الإجرامية والإرهابية..

لقد صعد نجم تلك الأحزاب بفضل افتقاد البلاد للمؤسسة الحكومية الرسمية التي تحافظ على أمن البلاد والعباد. وقد سطت على الأغلبية في المؤسسة الحكومية والبرلمانية في ظرف غير مؤاتِ ِ بالمرة لبناء مؤسسة تخدم مصالح الناس الذين طال انتظارهم لمرحلة تستجيب لمطالبهم وحقوقهم.. كما سطت قوى إسلاموية أخرى على القسم الآخر من الشارع السياسي أيضا بفعل البلطجة والعنف الدموي كما يحصل في أسر محافظات في غرب العراق وشماله الغربي وبعض جنوبه...

الأحزاب الطائفية ببرامجها ليس لديها أكثر مما تراه العين اليوم من انفلات أمني ومخاطر جدية بتفتيت العراق بما لا يستجيب لتطلعات العراقيين وتمسكهم بوحدتهم الوطنية بل يتعارض معها ويتقاطع بدرجة التناقض المميت..والأمر ليس جملة عابرة ولكن إحساس الناس بالاحباط من انشغال تلك القوى [الطائفية] بعملية تثبيت أوضاعها وأقدامها في الواقع العراقي عبر مزيد من نهب أموال العراقيين ومزيد من من السطو على مقرات العمل الحزبي ومزيد من أسر العراقيين وتوجيههم حيث سياسة السوقة والرعاع بالاقتتال والاحتراب..

فالشارع فقد انضباطه ولكن الأدهى أن البيت لم يعد مأمونا لأهله!!!! وهكذا صرنا في حيص بيص المافيات والعصابات المتخصصة بالاختطاف والمتخصصة بالاغتيال المأجورة لمن يدفع وصار لرأس العراقي وكرامته وشرفه وعِرضه أثمان وتسعيرات!!!!  وصرنا بإمرة الميليشيات التي تعيث فسادا وبأمر السيد عبارة صارت لازمة تعترض أوجه العراقيين ولسان حالهم يسأل لماذا؟ فينتهون عند عبارة بأمر السيد!!!!

وهكذا أزحنا الطاغية أبو برنيطة ليأتينا الطاغية أبو عمامة وأزلنا سلطة الدكتاتور لتسطو علينا سلطة الطبر والساطور.. وما الطائفية إلا مشكلة المشاكل في برامجنا لإعادة إعمار الذات العراقية المخربة والوطن المستباح.. فأين الحل؟ وكيف الخلاص من الطائفية وأحزابها وميليشياتها؟

لست بصدد وضع مقابلة بين أسلمة الأوضاع العراقية وعلمنتها.. لأن العراقي إنَّما يريد حقوقه ويريد توفير حاجاته ومصالحه المستلبة. فهو يريد أمنه وأمانه وحقه في التعلم والصحة والخدمات الضرورية وفي العمل؛ وليس يهمه التسمية التي تأتي له بحقوقه كافة.. ولكن الأمر ليس أمر تسمية بل أمر برامج مسؤولة لا تتقنَّع وتتبرقع لغايات المخادعة والسطو عليه في وضع ردئ يعيشه بين نيران بلطجة الأحزاب الطائفية وضعف الأحزاب الديموقراطية وتشتتها واخفاقاتها......

من هنا جاءت لحظة التمييز بين سلوك أسلمة الحياة ومن ثمَّ التعمق أكثر وتوجيه الحياة توجيها طائفيا مضرا بمصالح العراقي هويةَ َ وتطلعات وحاجات ومطالبا؛ وبين الاستجابة لطبيعة الحياة الواقعية في مسار العلمنة المطابقة لتفاصيل واقعنا الوطني وما ينتظرنا من آمال مرتجاة لعراقيينا الشغوفين بأماني الخير والسلام والديموقراطية..

إننا مرة أخرى اليوم بمجابهة مع الشمولية المطلقة ومع أحابيل تمثيل الناس بالإكراه والبلطجة وبالتضليل المقنَّع، بلغة الأسلمة المزيفة وبلغة "مرجعية" ووقوفها فوق الجميع في هالة من القدسية المدعاة.. وهنا ينبغي التوكيد على حقيقة أن هؤلاء الأدعياء هم ساسة لهم مآربهم الرخيصة وليس منهم من مرجع ديني أو سياسي سليم ولذلك نجدهم يكفِّرون العراقيين جميعا ولا يبقى غيرهم مسلما يحق له \ بل يملك الحق الوحيد في حكم البلاد والتسيّد على رقاب العباد..

إن عملية أسلمة السياسة والحياة وعملية العودة لمرجعية مصنوعة موجَّهة وعملية اتخاذ المذهبية وتحويلها لطائفية مريضة وفصلها عن الاجتهاد الديني التنويري وحجرها في إطار مصطلحات مصنَّعة مختلقة كما في مزاعم الدفاع عن [مظلومية] فئة أو طائفة؛ هي بمجملها عمليات مقصودة لتكون قناعا للشمولية الجديدة المطلقة في مصادرة الناس وحقوقهم لمصلحة الأدعياء...

لا يكمن الحل إلا في عودة الحرية للصوت العراقي وعودة الحق في اتخاذ القرار للعراقي وفي تحويل المناصب والكراسي الحكومية وغيرها إلى مسؤوليات وطنية لا تخضع للفرد ولحساباته الخاصة بل للجماعة ولصوتها الحر المستقل وإرادتها غير الخاضعة لضغوط أو مصادرات أو اي نوع من الاستلاب  أو حتى التوجيه من أدعياء احتكار المعرفة والعلوم وحق الافتاء في ماهي مصلحة العراقي وما هي حقوقه!

وتلك الحريات وتلك الحقوق البعيدة اليوم بسبب من سطوة البلطجة والميليشيات الطائفية وقوى التكفير والإرهاب سواء منها المعلِنة شيعيتها أم المعلِنة سنيّتها على حد سواء فالطائفي ليس سنيا ولا شيعيا ولكنه يمثل فئة الضلالة السياسية والدينية.. وما للأسلمة ومشاريعها الطائفية ومسائل إعادة إعمار البنى التحتية التي تحتاج للمهندسين والاقتصاديين من خريجي الجامعات والمعاهد العلمية!!؟؟؟

المطلوب اليوم هو الديموقراطية وهو العلمانية أي الاستجابة لحاجات الناس في الماء الصالح للشرب والصحي والكهرباء والصحة وخدماتها ومياه الصرف الصحي ومعالجاتها اللازمة وأبنية السكن اللائق وتسخير الثروة الوطنية بعلوم ومعارف مناسبة وصحيحة للبناء وإعادة الحياة وإشراقها بدلا من العزاءات وطقوس الحزن والمآتم التي صارت أكثر من عدد أيام السنة وشدائدها..

العراقي بحاجة للفرح والحياة وبحاجة لامتلاك وجوده وليس لمصادرة أخرى فهل المرجع الذي يختزل العراقي ويسرق منه فرصة التفكير والقرار أم العلماني الديموقراطي الذي ينهض بمهامه على وفق إرادة العراقي وبرامجه النزيهة،  وعلى وفق ما يريد العراقي وما يتطلع إليه هو البديل وهو الحل؟؟؟

فلا ننسَ اليوم إجابتنا عن أسئلتنا المحورية وأن نتخذ لأنفسنا الحل الذي نريد بعيدا عن الزيف والنفاق والمراءاة وبعيدا عن التضليل الخاضع للأسلمة ولغيرها من شعارات الزيف الطائفية وليس الحزب الطائفي هو من يستجيب بعد هذا لمصالح الشعب العراقي وليس هو من سيستجيب حتى لحقوق طائفة يزعم الدفاع عنها وهو يستلبها حق التفكير والتقرير من دون اي مكسب غير مزيد من الاستعباد والإذلال!!!

وشعبنا المعروف بتنويريته وبحبه للعلم والمعرفة وريث الحضارة السومرية الإنسانية العظيمة هو من سيقرر مساره مع الأحزاب الديموقراطية العلمانية وليس مع شمولية جديدة أخرى تبدأ طغيانا آخر وتفتح نافذة للدكتاورية والعبودية مرة أخرى فيبعد عن كاهله مزيدا من الاستغلال وزمنا آخر من الاستلاب في ظل مَن يريد التحكم به وبمصيره وحرياته وحقوقه وشعبنا أعرف بمخاطر الحزب الطائفي وصواب الديموقراطية العلمانية التي تطلع إليها طويلا وحان له أن يفيد منها ويسخرها لبناء جنانه بتعميدها وتقويتها ودعم وحدتها وتطوير برامجها بتقديم مطالبه وإعلاء صوته بها..........