بين السياسي \ العسكري   و  الثقافي \ المدني

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2006  02\ \07

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

 

لماذا فاز السياسي العسكري في وطن الحضارة والمدنية؟ لماذا تسطو أجواء العنف على الحياة العامة؟ لماذا لا يأمن العراقي على نفسه وأهله؟ سؤال بسيط ومباشر وإجابته أيها السادة تكمن في حقيقة ليست غريبة على العراقيين لفطنة معهودة في الذاكرة الشعبية، فكثيرا ما تمَّ تأكيد القول المأثور: "دالت الحضارة السومرية للغريب عسكريا ولكنها دوما كانت تنتصر ثقافيا" فتعيد الحياة والحيوية للشخصية الوطنية...

أما الحقيقة، فتكمن في أمراض المسخ والاستلاب والتشويه لعقل الجيل العراقي المعاصر، الجيل الذي عاش في ظلال سيف القسر والمصادرة وإرهاب الدولة وأجهزتها القمعية المتفردة في وحشيتها. وليس لظالم أن يمرِّر أحابيله وقراراته إلا بطريقين: الأول يتمثل في الأساس الذي يقوم عليه وجوده في تجهيل المجتمع ومنع حركة الثقافة فيه وتخريب أجوائها وتشويهها، والآخر يكمن في العنف المفرط...

من هنا كان عامل انحسار نتائج القوى الديموقراطية وقوتها الانتخابية والتضييق عليها بل خسارتها، قد جاء من ظلام الأجواء التي ورثها عن ذاك النظام الذي بذل جهودا مهولة في تركيزه على عوامل التخريب في الوسط الثقافي.. ومن ذلك تخريبه أجهزة الإعلام والصحافة والدوريات وتحويلها لمجرد أبواق تطبيل وتزمير.. وتخريبه منظمات الثقافة والأدب والفن وحرق كل النتاجات الإبداعية للعقل العراقي الصحيح..

وصارت التصفيات الجسدية الدموبة ومراجعة موجودات المكتبات العامة والخاصة أمرا مكرورا بشكل يومي.. حتى أن آلافا من المبدعين والمثقفين والأكاديميين والأساتذة هاجروا إلى المنافي القصية وبلدان الشتات هربا من مخاطر التهديدات المنفلتة من كل قيد حتى تلك التي كانت على عهد حقب العبيد...

إنَّ جملة هذه الأوضاع هي السبب الحقيقي لانتصار سلطة العنف والبلطجة وهي المؤهلة لإعادة سلطة العسكر وسطوتها الدموية وبؤسها وسخريتها من كل تفاصيل حياة الإنسان.. حيث يصير لبلطجية الميليشيات والعصابات والمافيات ولعسكر الأحزاب السياسية سلطة منفلتة تستبيح الأمور بطريقة همجية وحرب شعواء ليست بحاجة هنا للوصف حيث يكتوي بها أبناء شعبنا في جميع تفاصيل يومياتهم غير العادية بالمرَّة...

وفي مثل هذه الأجواء يُعامل الإنسان (المواطن العراقي) كذبيحة وأضحية لعيون سادة البلطجة وعصابات المافيا الحزبية.. وبعد أن كان [السيد الرئيس] صارت تلك العبارة تلبس قميصا جديدا فمنها عبارة بــ [أمر السيد] تعني أن لا مناقشة وراء تلك العبارة بل هي للتنفيذ وحسب حتى لو كان كرامة ذياك المواطن [العبد] و[عِرضه] وحياته بالتأكيد هي ملك [السيد] الجديد ولا عجب...

مَن أيها السادة، سادة أنفسكم وبيوتكم وحيواتكم وعراقكم الجديد؛ مَن ذاك السيد الذي يملك عليكم أنفاسكم ويمنعكم من إرادة الحياة، إرادة الفعل والقرار؟ مَن ذاك الذي يمكنه أن ينوب عن الله فيصيِّركم (مستغفرين) عبيدا له ولإرادته وقراره؟ من غير الذي يضعكم في قفص التجهيل حتى لا تعرفوا دينكم ولا دنياكم!

الوعي بأمور حياتنا.. والوعي بأمور دنيانا وديننا بثقافة متنورة بعلم وجب طلبه ولو كان في الصين كما يورد الحديث النبوي الشريف وولي الصالحين كان مدينتها العلم   وبوابتها، بل لم يقم إصلاح بغير علم وبغير إبداع وثقافة وعقل ولم يقم أمر ديني صحيح بغير منطق الاجتهاد واعتماد العقل وتحكيمه!

فلماذا ننصاع لمرجعيات مزيفة لا صلة لها لا بدين ولا دنيا غير مصالح وأطماع جشع مرضي لم ينزل به الله من سلطان!؟؟ الوعي والثقافة لا الجهل والتخلف؛ والعقل والعلم لا العتمة والظلمة هي التي تنير لنا ما ينبغي لنا فعله وما يجب أن نمضي به وتمنع كل تلك الأحابيل من استخدامنا في أتون المعركة...

أمس استخدم الطاغية جيشا من شبيبة العراق وطاقاته في حروبه العبثية وكان يمرِّر الأمور بمحاربة الفرس المجوس ونيابة عن الأمة العربية ودفاعا عن البوابة الشرقية وما إلى ذلك من ادعاءات واليوم قادة عصابات الموت الأسود وطاعون بلادنا الجديد يمرِّرون الأمور بالدفاع عن مظلومية آل البيت ومظلومية أبناء المقابر الجماعية وما إلى ذلك..

وكل ما كان يدعيه الطاغية بالأمس كان يتم تمريره بجمل حق أُريد بها أخس باطل وأردأه.. وهكذا يظل الطغاة والأوباش والحثالة يمررون أحابيلهم بجمل الحق التي تخفي تحتها مواتنا واستلابنا ومصادرة كراماتنا وأعراضنا وحيواتنا!!!

ليس لانتصار إرادة العنف والدم والعسكرة إلا أعمال التجهيل وظلامية فلسفة الحكام المسيطرين على السلطة فلا تجعلوا من أنفسكم مرة جديدة أخرى وقودا لحرب من نمط جديد ترونها لا تبقي ولا تذر في وطن المدنية!

أما كيف تنتصر إرادة الحياة وتعود الحريات والإرادة الأبية ونستقل بمطالبنا ونعيد حقوقنا فليس بغير وعي ما نريد وكيف نحققه.. وطبعا هذا سيأتي بنور العقل وتثقيفه وتهذيبه وبفتح الطريق واسعا للثقافة والعمل التعليمي والأكاديمي والبحث العلمي..

فلا تتركوهم يستبيحون الجامعات والمكتبات والمدارس ودور العلم ومعاهده ولا تتركوا لأحد أنْ يتدخل في شأن أستاذ أو معلم فأخلاق شعبنا تقول قم للمعلم وفِّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا؛ وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت والأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق.. وكل الأحاديث النبوية تؤكد على احترام العلم والعقل والاجتهاد ولم يكن فيها ما يقول تقديس عالم دين، فلا رهبنة في الإسلام ولا تقديس لإنسان أو عبودية وتبعية له والحديث يقول عامل يعمل خير من ألف عابد... أما العالم فهو من انتفع الناس بعلمه وليس من أخضع الناس لسلطان أوامر استغلال فاحشة!!! وصار يجري باسمه جنود الاعتداء على الناس كما يتفشى اليوم في شوارع عراق جريح بطعنات من كل حدب وصوب!!!

إنَّ شعبا لا يحترم علماءه، العلماء بحق وليس أدعياء علم باسم دين زيفا وافتراء ورياء  لايمكن إلا أن يُساس بتلك الطريقة الهمجية التي تستبيح فينا كل شئ بلا رحمة ولا إنصاف! وما يبقى لدينا هو أن نضع مرجعيتنا الحقيقية في علمائنا وأكاديميينا وأساتذتنا..

فقط في حال رعاية شعبية مسؤولة وجدية لمثقفينا وحماية ثقافتنا ونتاجها المبدع وتكريم ما أراد الله في كتابه العزيز تكريمه أي العقل الإنساني فقط في مثل هذا النهج سننتصر ولن يكون الانتصار للثقافة والمثقف حسب ولكن للشعب أجمع حيث سيزيح نور العقل ظلام التخلف والجهل وينهزم طغاة الزمن الجديد حيث لا يسمح عراقي لهم أن يزجوه في حرب ضروس ليضعوه في مطحنة تعود عليهم بما يسرقون ويستبيحون..

لأمانكم وأمن الوطن ولاستقرار الحيوات ولحفظ الكرامة والعِرض ولديمومة الخير وانطلاق البناء والعمل لنعمِّر الأرض التي أرادت كل الديانات أن تبنيها وجب إزاحة الزيف والرياء وجمل الحق التي يتسترون بها لفضح الباطل وأزلامه ممن يسطون على حيواتنا وعلى عراقنا.. فلا سلطة لعنف ولا سلطة لمال سحت حرام يحاولون بعد سرقته منّا أن يشترونا بفتات منه!!

فلتنتصر إرادة الحياة في انتصار الثقافة ولتقولوا كلمتكم لا تكرار لمصائب المسخ التي جرت بالأمس وليُلغى من معجمنا شعر المديح والتملق حتى لسيد شريف ولنوقف التشويه والاعتداء على معامل الفكر  من المدارس والمعاهد والجامعات ولنوصي أبناءنا وبناتنا باحترام العلم الحق والعالم الحق ومنع قدسية الزيف وتبعية أزلام العنف وعصاباته!!

هذه مشكلتنا وأوضاعنا في انتصار العسكري علينا، لا تنسوا أن نصرة عسكرة وميليشيا حزب ننتمي إليه يعني إيغال في الانتحار وفي تعذيب الذات واستلابها حقها في الكرامة والحياة الحرة الأبية... لا تصفقوا لحزب كما حصل بالأمس للبعث وما قادنا إليه من خراب..

لا تقدموا مسلحا على معلم مثقف مبدع بل ضعوا الكلمة المعرفة العلم ونورها جميعا في المقدمة تنتصروا لإراداتكم ولحرياتكم ولمستقبل أجمل وأفضل لأبنائكم وبناتكم.. وإلا فسيكون دهر آخر من الألم والخضوع للاعتداءات التي تجري بحق بنات العراق وأبنائه؟؟؟

فلا حرية ولا خير ولا أمن إلا باحترام العقل ومنطقه. باحترام الثقافة والعلم والمثقفين والعلماء حيث لا مجال بعد ذاك إلا للعلم والعمل ونورهما وبدء حياتنا في عراقنا الجديد..