المشكل في وضع الجامعة العراقية المذهل؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2006  02\ \18

tayseer54@hotmail.com E-MAIL: 

 

 

نشأت المؤسسة الأكاديمية العراقية بناء على تصاعد وتائر قواعد التعليم وتوسعاته  والحاجات المتزايدة لتطورات المجتمع العراقي الحديث؛ بعد تاريخ عريق من الاهتمام العام بالتعليم العالي والبحث العلمي، سواء في الجذور التاريخية لحضارة وادي الرافدين أم في التاريخ الوسيط حيث بغداد دار الحكمة وخزائن المعرفة وولادة الجامعة الأولى عالميا آنذاك "المستنصرية"... فكانت تلك المؤسسة العلمية المرجعية الأساس للعقل العراقي ولمسيرته  تمَّ وضعها حيث المكانة السامية المشرِّفة...

وعلى الرغم من أنَّ ولادة الجامعة لم تكن أمرا هيِّنا ولم تمضِِ مسيرتها من دون عقبات وعواقب كبيرة إلا أنَّ الأكاديمي العراقي ظل يتحدى الظروف المعقدة بخاصة لتلك الغزوات الهمجية للخطاب السياسي الردئ لنُظُم الدكتاتورية القائمة على مصادرة حريات العمل الأكاديمي المستقل  والبحث العلمي المكين وسار بوسائله المميزة متقدِّما من أجل المحافظة على قيم الجامعة وروحها الأكاديمي الصحيح..

اليوم وقد رحل النظام الدكتاتوري البغيض وقوانينه الاستغلالية استبشر الأكاديميون العراقيون بمتغيرات جدية في العامة، ولكنهم حال بقية العراقيين سرعان ما دخلوا قفص الاحتجاز من جديد وهذه المرة بأيدي أدعياء التديّن وحاملي الهراوة المعممة زيفا الزاعمين كذبا استظلالهم بشعار الأمر بالمعروف والعمل نيابة عن الإله على الأرض!!!

هنا نجد أن الخط السياسي الجديد ما زال عتيقا بترقيعاته وفلسفته وهو يعتمد الخطاب الديني علامة فارقة لتكفير المجتمع وسوقه إلى أتون يئن فيها الناس من ضيم الاستغلال واستفحال استباحته للقيم السائدة.. ومن الطبيعي أن ينشر [السيد] الجديد سطوته بالتحديد حيث ينبغي ألا ينافسه في مرجعيته وسوسِهِ الناس على وفق ما يشتهي ويريد أي طرف آخر!

ولأن المنافس في مرجعية الناس ليس غير العقل العلمي في الحياة العامة أو المؤسسة الأكاديمية، ولأنه في عصرنا لم يعد ممكنا أن نقول عن الأرض ساكنة لا تدور ولا أن نقول إن البديهة أو الحقيقة يمكن تغطيتها وإخفاؤها، لكل هذا تمَّ الإبقاء على المؤسسة الأكاديمية [الجامعة] ولكن يجب أن يسوقونها على وفق فسلفة لا تخرج عن سطوتهم ولا تسمح بمرجعية مخالفة لإرادتهم ومستهدفاتهم..

الطريق الجارية تكمن في اختراق الجامعة عبر جهاز إدارة محكم بالمطلق بفلسفة السواد والعتمة والتخلف بما يفضي لتمرير المحسوبية وكل الأمراض الجارية خارج أسوار الجامعة! كما جرى [تطويف] من جعل الحكم لفسلفة الطائفية وأزلامها عبر [محاولة] إسناد الإدارات الجامعية والعمادات ورئاسات الأقسام العلمية وتعيين الكادر التدريسي بطريقة انتقائية حيث خرج البعثي أو المبعَّث أو لقب بعينه من محافظة بالتحديد ليأتي الحكيمي والصدري والدعوجي وأضرابهم من أتباع الحركات الإسلاموية أي الزاعمة تمثيل الله [مستغفرين هنا] على الأرض بحجة لقب السيد وأمره المطلق!!!!!!! حيث لا رادَّ لأمر السيد فهو الأول وهو الأخير وهو كل التفاصيل والهوامش وليس الرئيس من الأمور فحسب!!!

الجامعة أو المؤسسة الأكاديمية أو بيت البحث العلمي تصطبغ اليوم بسواد وروح ظلامي حيث يريدون فرض دروس طقسية أو تتعلق بالفلسفة الطائفية أو ما كان يُسمى سابقا الثقافة القومية أو القومجية وهذا بديلهم أن نتعلم أسماء محسوبة وأن نرضخ لقراءة أمور طقسية بحد [الهراوة والغدارة] وغيرهما من أدوات الابتزاز... الجامعة كلها مسجد أو حسينية بحسب مكان وجودها وبحسب لون الهراوة الدينية في هذه الكلية أو ذاك القسم في هذه الباحة أو تلك!!! وسبحان الله فيما يفعلون..

إذ على عهد الرسالة والإسلام الصحيح كان الحديث النبوي الشريف يقول عامل يعمل خير من ألف عابد والأية الكرينة تقول: وقل اعملوا فسيرى الله ورسوله...  ولم نجد أمرا دينيا بتحويل تفاصيل الأراضين إلى مساجد لا تقيم الصلوات بقدر ما تقيم العزاءات والمقاتل وخطب المعممين زيفا و زورا!!؟؟

إنَّ جريمة استلاب الجامعة حقها في الاستقلالية التامة الكاملة، وفي أداء مهامها الجوهرية الكامنة في البحث العلمي، وفي التعليم العالي، وفي قراءة مشروعات البناء والتخطيط وتهيئة كوادر العمل وإعادة إعمار الخراب المهول؛ هي جريمة سافرة كافرة بحقوق العراقيين في الانعتاق من أزمنة القسر والإكراه والمصادرة كما يجري اليوم بأقنعة الخطاب الديني المزعوم..

ولابد لكل طالب وطالبة كما أولئك الذين اعتدت عليهم هراوات المتشنجين المتشددين من أبتاع أحزاب الخطاب الديني في البصرة وفي بغداد وفي كل محافظات الوطن العزيز، لابد لهم أن ينعتقوا من سطوة تلك الهراوات وبلطجتها.. ولابد لكل أكاديمي ولكل أستاذ جامعي وعالم أن يمتلك كامل حريته في البحث العلمي وفي إلقاء محاضرته بحرية تامة لا كما تمَّ الاعتداء بل تصفية عدد منهم لمجرد أنَّهم ألقوا محاضرات لم تعجبْ بعض المتخلفين من البلطجية التابعين لأحزاب التيار الديني!!

صحيح أن من القوى الموجودة أيضا على الساحة بقايا من النظام القديم لكن المشكلة ليست تشخيص هذا الفرد وذاك البلطجي، فهم جميعا يمضون في فلسفة واحدة اليوم هي فلسفة استغلال الخطاب الديني بطريقة تضليلية فيها الكثير من الادعاء والزعم الباطل والنادر القليل من الحق الذي يُراد التقنّع والغش والاختفاء والتضليل...

وعليه فالمطلب الأساس اليوم، يكمن في العودة إلى شعار الانعتاق من سلطة الخطاب السياسي والسياسي الديني بالتحديد.. فلم نخرج من نفق لندخل في كهف أو بئر سحيق العمق.. ولم نخرج من درس الثقافة الحزبية المقيتة لندخل في درس الثقافة الدينية الطائفية منها والمرضية الرخيصة...

إن المجتمع العراقي بل الإنساني لم يكن يوما مجتمعا ضد الدين الحق ولا ضد ممارسة الطقوس الدينية الصحيحة.. وليس مجتمعنا العراقي مجتمع تعارض مع قيمه الأخلاقية العليا، ومجتمعنا العراقي لم يخلُ يوما من قادته ومراجعه وأعلامه الدينية الحقة منها بالتحديد؛  ليأتي اليوم عدد من الساسة المقنَّعين الأدعياء ويلبسوا أعمّة وجلابيب زاعمين أنهم مراجعنا الدينية وأنهم السادة وأن الأمر الصادر عنهم لا ينطق عن الهوى بل هم يمثلون [مستغفرين هنا مرة أخرى] الله على الأرض!!!

أيها العراقي، طالبا جامعيا وطالبة جامعية، أيها العراقي أستاذا جامعيا وأستاذة جامعية لا تنسوا أنكم أصحاب عقل متنور واصحاب فلسفة الحرية والإخاء والعدل والمساواة والإنصاف والانعتاق من كل أشكال العبودية.. وأنكم منبر الحياة الحرة الكريمة.. فإنْ أنتم تركتم لمساحة البلطجية أن يسيِّروا فيكم الطريق فقد ضل مجتمعنا وساء السبيل حتى لا نجد أنفسنا جميعا إلا في مخالك ما ترون يوميا فقد عبرنا حافة الهاوية أيها العراقيون النجباء....

المشكل في وضع الجامعة العراقية المذهل يكمن في أنها كانت خرِبة لسطوة الجهلاء عليها من وساخة البعثفاشية وشراذم البعثسلفية وعناصر خدمة الطاغية ونزعاته المرضية؛ واليوم يستكملونها باستبدال خطاب الحملة الإيمانية للمعروف بفسقه وخروجه ويأتوا بالحملة الطائفية وفلسفتها الدينية القائمة على مسخ كل وجود إنساني وإخضاعه بالمطلق لإرادة الطاغية الجديد المتلبس عمامة وجلباب قرون الظلام والعتمة والتخلف ليُكرِهنا على لبس سواد تخلفه طبعا لغاية في نفس يعقوب!!

فما زلنا لم نبدأ إعادة الإعمار بل نسينا في ظلمة الدرب العسير وسطوة البلطجة كل شئ لأن السادة المعممين والمجلببين يشاغلوننا بأمننا ورعبنا على أبنائنا وبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا وأمهاتنا وجداتنا وشيوخنا ولا تستثنوا أحدا فلا أمان حتى لو توجهنا لأعمق كهوف بلادنا عمقا.. إنهم يحملون علينا بكل أسلحة البلطجة القذرة...

لنطهِّر الجامعة العراقية من كل ما ليس له علاقة بمهامها الحقيقية.. فهي ليست غير بيت العلم والمعرفة والبحث والتقصي العقلاني الموضوعي عن كل ما يخدم حياتنا ويجمِّلها ويعلي من شأن وجودنا الإنساني. أما الذي يريد أن يقيم طقوسه المزيفة أو حتى الحقيقية فقد عرف العقل البشري أن لكل أمر موضعه ومكانه وليس منطقيا وعقليا ولا موضوعيا وليس من صحة أن نفرض قسرا ممارسة أمر في موضع آخر..

ونقول للمترهبنين زيفا وللمعممين رياءا اذهبوا حيث مغارات الجهل والتخلف فهي كثيرة ويمكنهم أن يقبعوا ويقعوا فيها ولا من حسيب وى رقيب على ما يشاؤون هناك أما الجامعة وأما الشارع وأما الأماكن العامة كافة فليست ملكا لمنطق التخلف والعبث بحيوات الناس..  

إنَّ أول مهمات الحكومة الجديدة تكمن في البدء بحملة التطهير لا من بقايا النظام ومؤلفاته و [سخامها] حسب بل من البدائل الضلالية الظلامية الجديدة والعودة بالجامعة العراقية للانعتاق من جديد وإلى الأبد ولوضع خطواتها على طريق مسيرة علمية نزيهة مستقلة أكاديمية حرة صحية صحيحة وصائبة..

إنَّ ضبط تنفيذ اللوائح العلمية الأكاديمية أمر خطير ليس في حياة الجامعة بل في حياة مجتمعنا بالكامل.. كما أن إخراج البلطجية وإزاحة سلطتهم ومنع دخول الميليشيات الخاصة بأحزاب التأسلم إلى الحرم الجامعي ومنع التصرفات الرعناء لزعران السياسة الجدد وهم أنفسهم في كل عصر وزمن أمر واجب لحملة التطهير واحترام السلوك الأكاديمي ونظافة الجامعة..

 

ولسنا بحاجة للحديث عن أمثلة البلطجة فمئات من الأساتذة تمت تصفيتهم وآلاف غيرهم تحت سيف التهديد والابتزاز، وعشرات القرارات الجائرة التي شهدناها من مثل فصل الاختلاط في الدراسة الجامعية حتى أن أحد المعاهد كما في حالة نينوى كان الطلبة في الامتحانات عندما تم وقف المدرسين الذكور والإبقاء على موقف هدّد مصير الطالبات الحيارى في أمرهن وكيف صار غجأة حرام وكفر وإلحاد أن يدخل المدرس على تلميذاته المحجبات المنقبات وقد أمضين سنوات يدرسن عنده؟

هناك أمور أخطر وأبعد صارت تمشي خطوة خطوة زحفا على حقوق البشر ومصالحهم بحجج التدين والإيمان والتكفير والتعزير وقل ما شئت من أحاجي لا تعدو أبعد من كونها أقنعة مزيفة لجرائم قذرة بحق عراقيينا جميعا  وليس الطلبة والطالبات ولا الأساتذة في الجامعة فحسب!

ليبدأ الجامعيون العراقيون رحلتهم في تطهير جامعاتهم وتنظيفها من رجس الأدعياء المنافقين الذين لبسوا الزيتوني على عهد طاغية الأمس وها هم يرتدون الجلابيب والأعمة على عهد طغاة وبلطجية جدد!!!! وسيكون مع الأكاديمي العراقي كل شعبنا العراقي ومنهم مراجعنا الدينية الحقة الصحيحة ورجالات الدين من غير التكفيريين والسفيين والطائفيين فهؤلاء ليسوا مراجع ولا متدينين ولا علاقة لهم بدين أو مذهب أو طقس ديني أو تعبدي بقدر ما لهم بالبلطجة والجريمة والابتزاز والمصادرة والضلال والظلام.. فهل نقبل بهكذا وضع؟؟؟ المجيب هو المسؤول عن التطهير أيها الأكاديميون الأحرار...