من أجل ألا تتكرر مآسينا

بأيدي المجرمين من أعداء الشعب العراقي

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

23\02\2006

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

تتوزع الضربات العشوائية لقوى الإرهاب الدموي لتنال من مجموع أبناء شعبنا أطفالا وشيوخا، رجالا ونساء وكذلك لتتعرض لكلِّ قيم شعبنا الروحية والدينية والثقافية ورموزها الشامخة مشيرة بأفعالها الشائنة تلك إلى همجيتها وحماقة سلوكياتها وجهالتها الظلامية  الأمر الذي لم يعد من تفسير له على الرغم من كل الأقنعة ومحاولات التستر، إلا معاداتها لمصالح أوسع فئات شعبنا المسالِم...

من هنا لابد لنا ألا نتوقف عند أعمال الإدانة اللفظية من بيانات وتصريحات؛ إذ أنَّ ذلك على أهمية توكيده لا يمكن أنْ  يكون فاعلا بحق إلا بوساطة مرافقة سياسة جدية حكيمة وحازمة في ملاحقة الجُناة والضرب على أيديهم بقوة القانون وسلطته الناشطة...

إنَّ أوضاعا كالتي تجري في بلاد الرافدين لم يكن صحيحا بالمرة تركها على ما حصلت من مسارات فأولا انهارت كل مؤسسات الدولة وخرجت عن ممارسة مهامها من دون بدائل وثانيا تمَّ حلّ الجيش والقوى التي كان يُفترَض أنْ تكون مسؤولة عن الأمن العام وسلامة حياة المواطنين؛ وثالثا لم تنشأ بالسرعة الكافية الأجهزة الأمنية الحقيقية القادرة على الإيفاء بمهامها في الظرف القائم وليس آخرا أنَّنا دخلنا معمان أمرين خطيرين هما: سطوة العصابات وقوى العنف الدموي من جهة وسلطة الميليشيات الحزبية غير المنضبطة بقانون إلا  مفردات مصالح أحزابها وسياساتها الضيقة  والأمر الآخر حالات الاختراق الخطيرة على جميع مستويات وجودنا الوطني وهياكله المؤسسية..

فماذا سيكون الحلّ لمثل هذه الأوضاع؟ هل سنكرر سجالنا المنطلق من نظرة هذه الفئة أو تلك هذا الحزب أو تلك الحركة؟ أم أننا سنجابه مسؤولياتنا تجاه مصالح أبناء شعبنا العراقي وحقوقه ومفردات حاجاته وقيمه المنتظر ممارستها في أجواء سلمية للانطلاق بمسيرة إعادة إعمار الذات المخربة والحياة العامة المدمرة؟

إنَّ القوى التي تنافست اليوم في انتخابات وطنية عامة هي ذاتها التي درست أمر التغيير وحددت الأشهر الستة قبل الانتقال إلى الأوضاع العادية ثم وجدت بدراسات أخرى أن هذه المدة أقصر من أن تحقق ضبط الأوضاع فاختارت أربع سنوات من الأحكام المركزية المشدَّدة لتنطلق بعدها الأوضاع الاعتيادية. وقد كان الخيار موضوعيا ومنطقيا إذ لا يمكن أن نبدأ مشوار العمل العادي من دون تطبيع الأوضاع والانتقال التدريجي بعد عقود الدكتاتورية والطغيان ومؤسساتها المفرغة من مصداقية خدمة المواطن العراقي والمخرِّبة لكل مسارات حياتنا السليمة...

فما الذي جرى لكي تتغير أجندة الحركات والأحزاب الوطنية وتمضي على وفق أجندة مختلفة كان أولها حلها القوى الأمنية الحارسة للأمن الوني أم للسيادة الوطنية.. لا بأس فهذا أمر ارتبط بإرادة القوات الأجنبية وفلسفتها.. ولكننا بحاجة لمنطقنا وأجندتنا الخاصة في أوضاعنا التي تداعت بطريقة متسارعة نحو هاوية مخاطر لم يعد محتملا الاستمرار بتداعياتها المهولة!

إنَّ المقاربة بين المفروض في ترسيمات الإجراءات المعروفة ومنها إقرار الدستور وإجراء الانتخابات في ظل شروط سلطة العصابات والميليشيات الحزبية وانفلات أوضاع البلاد بعيدا عن خضوعها لسلطة قانون أو دستور، وبين المرتجى من حلول مسؤولة.. هي مقاربة تحيل إلى سفسطائية بل جدل بيزنطي من نمط لماذا الانتخابات إذا كنّا سنذهب إلى حكومة وحدة وطنية؟

والذي يطرح السؤال هو ذاته الذي يحمل كل التناقضات التي أدخلت إلينا دوامة الانفلات بل [الانفلاشية] بدلا من تطبيع أوضاعنا وتقريبها من [الديموقراطية] .. ولابد من كفى حقيقية للجريمة المرتكبة بحق شعبنا بكل أطيافه ومكوناته.. لابد من كفى  بوجه قوى الجريمة من عصابات أبطالها آلآف من المجرمين الذين أطلق سراحهم الطاغية قبل أن يولِّي هاربا ومن آلاف من أوباش النظام المهزوم الذين يقترفون آخر ما بأيديهم من جريمة تجاهنا ومن آلاف من القوى التي اخترقتنا إقليميا ودوليا ومن آلاف من القوى المنفلتة العقال في غياب القانون وسلطته...

إنَّ الحزم والحسم مطلوب اليوم بقوة حيث ينبغي أن نخلِّص ونطهِّر مؤسسات وزارتي الدفاع والداخلية والمخابرات (ينبغي منحها درجة وزارة) وأجهزة الأمن الوطني من كل الشوائب المرضية الخطيرة التي تسللت إليها ولا يكون ذلك إلا بتعيين وزراء بعيدين عن الحزبية الضيقة والولاءات الرخيصة والميول المرضية.. وعليه فإنَّ هاتين الوزارتين هما أولى الوزارات التي وجب الانتباه إليهما مع تشكيل مجلس أمن وطني يرأسه عضو مجلس الرئاسة لا رئيس مجلس الوزراء، من دون الانتباه للتنسيق وتوحيد الجهود كافة..

إذن سيكون علينا هنا فصل رئاسة مجلس الأمن الوطني ووضعها بمرجعية مجلس الرئاسة الذي يتكون من الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس الأمن الوطني الذي ينبغي أن يكون نائبا لرئيس الوزراء كي يجري التنسيق والعمل المشترك عبره ولمنحه السلطة الكافية في مرحلة من مسيرتنا يتحدد مداها على وفق إمكانات ضبط الأوضاع وتنقية الأجواء وتطبيعها قبل الشروع بالأنشطة في ظروف معتادة طبيعية...

ولن يكون بمقدور جهة أن تفي بضبط الأوضاع إلا حكومة مسؤولية جماعية أو حكومة وحدة وطنية تتمثل فيها مجموع  الأطراف السياسية والاجتماعية العريضة لقوى شعبنا الفاعلة من غير إقصاء أو إلغاء.. أما التعكز على حكاية دع قوة بعينها تتحمل مسؤولية الاستحقاق الانتخابي فلن تؤدي إلا إلى مزيد من التداعيات وليس يهمنا اليوم إخراج تلك القوة من الميدان بعد أن تقع فريسة فشل فهذه حكاية صراعات حزبية ضيقة فيما مصالح الشعب اليوم قبل الغد أهم بكثير من التنافس السياسي ضيق الأفق...

إنَّ الجدية والروح الموضوعي يؤديان إلى خيار وحيد لعراقنا الجديد، عراق اليوم والغد وهو ليس خيار تجميع قوانا سويا في البرلمان المنتخب عبر تشكيل مرجعية سياسية لحل الأزمات وتجاوز المنعطفات تظل مفتوحة على تفاعل مستمر في خط ساخن لمعالجة كل الأحداث الجارية وإزالة ما يحيق بشعبنا من مخاطر..

وخارج هذه الحالة سيكون الطريق مفتوحا لمزيد من الاختراقات ولمزيد من التجاوزات وحالات افتعال الأزمات التي قد تؤدي في واحدة منها إلى مالا يمكن الرجوع بعده إلى حتى الحالة القائمة اليوم! ألا ترون بعد كل حادث طائفي ماذا يحصل وماذا تظهر من دعوات وردود فعل متشنجة متشددة وكيف تمضي الأمور لمزيد من لغة تبادل الاتهامات وقلق الأوضاع بطريقة مريعة!

فإذا كنا نسطيع اليوم تجاوز بعض تلك الأزمات فقد لا نسطيع ذلك في مرات قابلة! وعليه فلابد من المرور إلى طريق تبادل الثقة وتعزيزها بحكومة وحدة وطنية.. ترقى لمسؤوليات تطبيق ما تمَّ التوافق عليه في مؤتمرات قوى الشعب العراقي قبيل سقوط النظام فتلك الاتفاقات ما زالت حية ومهمة ومطلوبة التنفيذ والأيام تثبت والوقائع تبرهن على صحة ما تمت صياغته من برامج..

ولا تعارض بين حكومة وحدة وطنية والمضي بالاستحقاق الانتخابي ومفاعلة المسارين مع بعضهما أمر مؤمل من الجميع .. إذ ما زلنا بحاجة لجهاز حقيقي هو المرجعية السياسية الفاعلة داخل البرلمان الوطني.. ولأن القوى اليوم تختلف وتمتلك حساسيات تجاه التوازنات القائمة فلابد من تشكيل المرجعية السياسية على أساس من نظام الفيتو وتعادل المسؤوليات والصلاحيات بين الأطياف قوميا حيث العرب والكورد والكلدان الآشوريون السريان والتركمان والصابئة والأيزيدية ودينيا من المذهبين الشيعي والسني والمسيحيين والمندائيين وكل أصحاب الديانات القديمة فضلا عن عدد من المستقلين الذين سيمثلون الحركات السياسية بخاصة منها القوى العلمانية...

ولعل مثل هذا التشكيل هو البديل المؤقت لبرلمان اتحادي حيث كنّا اقترحنا في مرحلة سابقة أن تتشكل الجمعية الوطنية من مجلس وطني ومجلس القوميات... ولكن بعامة لابد من التركيز المباشر اليوم على ضبط أوضاعنا وتركيز قوانا وتفاعلها مع بعضها بعضا لكي نخرج من عنق أزمتنا الخطيرة، وإلا فإننا سنجابه أمرا عجبا...

إنَّنا أمام وقف الاعتماد على الإدانات اللفظية والتحول إلى زمن الحسم والأفعال المؤثرة والجدية المسؤولة عن تحقيق ما ينتظره أبناء شعبنا من أمن وخبز نظيف وعمل وإعادة إعمار كل الأمور التي تخدم مواطنينا بعد أن خسروا من حيواتهم أثمن ما يمكن الحديث عنه.. فهل تريدون المزيد من الخسائر والتضحيات..

كفى ولنبدأ اليوم... كفى مآس.. كفى أحزان.. كفى آلام.. كفى تفجيرات.. كفى ظواهر الاختطاف والاغتصاب وجرائمها.. كفى جرائم القتل العشوائية وعلى الهوية.. كفى مداهمات واعتقالات اعتباطية وعلى الهوية.. كفى بطالة.. كفى لا مسؤولية تجاه صحة الناس.. كفى إهمال للتعليم وتشويه له.. كفى حملات ضد الأساتذة والعلماء.. كفى جرائم ضد الصحفيين والمثقفين.. كفى جرائم ضد الأطباء والمهندسين.. كفى جرائم ضد الآثار ورموز الثقافة والتحضر والتمدن.. كفى جرائم ضد ممارسة حرة لطقوس روحية ودينية مقدسة.. كفى جرائم ضد رموز فئات شعبنا الدينية والحضارية.. كفى جراح.. كفى مواجع وأوصاب.. كفى ظلام ومظالم.. كفى تضحيات بلا مقابل.. كفى خسائر بلا طائل.. كفى لكل ما يعادي العراقي ولنبدأ رحلة قطار الحياة الجديدة...

هل سيتحقق هذا  أيها الساسة بالتحديد الذين تتولون اليوم مقاليد السلطة؟ أم سينتظر شعبنا ردحا آخر غير معقول وغير ممكن من الزمن؟؟!!!