العراق إلى أين؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

15\03\2006

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 يعيش العراق اليوم أزمات متداخلة متعاقبة وانفلات أوضاع حدَّ إلغاء الوجود الوطني العراقي ووضعه على شفا هاوية تمزيقه وتفتيته مع مزيد من علامات سحق العراقيين ومصالحهم وحقوقهم الإنسانية.. في غابة من الميليشيات والعصابات ومافيات العنف الدموي والاتجار بالعراقيين وليس بمنتجهم الحضاري المادي فقط!!!

وفي ظل مثل هذه الأوضاع لا تجد بعض الزعامات العراقية مندوحة من التمادي في ترك الأوضاع على ما هي عليه لتعزز مكاسبها الانتهازية النفعية الضيقة.. فنحن بصدد وضع شاذ من جهة تتشعب توصيفاته بتشعب المخاطر التي يحتويها حيث يوضع العراق تحت قبضة أوضاع الطوارئ والمهالك من جهة أخرى..

فهناك الاختراقات الأجنبية الإقليمية والدولية وهناك واقع الحال المرضي الموروث عن عقود الطغيان ومخلفاته من السوقة المجرمين مطلقي السراح من ذوي الأحكام الثقيلة والمتوسطة والخفيفة من مجرمي السجون إلى جانب المدرَّبين من أعضاء الأجهزة القمعية المنحلة وهوسهم المريع بمواصلة حربهم الدموية القذرة ضد أبناء شعبنا جميعا وضد التطلعات في محاولة إعادة إعمار البلاد وترميم الذات المخرَّبة..

وهناك مطامع القوى المتحكِّمة في الواقع العراقي الجديد المتمثلة في عصابات أعمال الخطف والمتاجرة بالإنسان وأعمال الاغتصاب والمصادرة لا لأملاك الناس بل لحيواتهم مع سطوة بشعة على الشارع العراقي لسلطة الجهلة الظلاميين من متدربي ميليشيات حزبية لم تتعلم أكثر من لغة قذف النار باتجاه أي بناء وأي حياة إنسانية قويمة...

وفي ظل أوضاع منفلتة للحياة السياسية وعدم وجود توافق على أداء وطني موحد وبرنامج وطني موحد، لا نرى في مثل هذه الأجواء إلا مجموعات وشخصيات تتصدى للإدارات المشوَّهة عمدا لمهمات بعينها كثير منها يجري في طيها عمليات سرقة ثروات شعبنا وخيراته من جهة ومحاولة تعزيز مراكز سلطة لهذه الجهة أو تلك من باب التحسب لمستقبل الأيام بطريقة خذ ما يمكن الآن واستعد للتمكن من أي موقع في الغد...

ومن كل تلك الكيفيات المرضية المشوَّهة تواصل بعض القوى و"العناصر" الضغط والمزايدة برفع أسقف مطالبها المتلفعة بـ"راية" لهذا الحزب أو تلك الحركة أو القائمة الطائفية أو الفئوية بأغطية وتبرقعات مزيفة لا تنطلي على أبسط الناس إدراكا للمجريات.. في حين يقف أبناء شعبنا وهم أحوج لفعاليات تضمن سلامتهم وأمنهم ولقمة عيشهم نظيفة بلا غصة في أوضاع تشترك عديد من المؤسسات الحكومية بالضد من تلك المطالب الإنسانية وليس تنفيذها!

وأبرز تلك المؤسسات هو اشتراك ما يُسمى "وزارة الداخلية" بعمليات من نمط تصفية السجناء وتعذيبهم وبكل ما هو محظور دوليا بالخصوص.. هذا إلى جانب سياسة ثابتة لمداهمات وعمليات خطف واغتصاب مباشرة بأيدي عناصر من الداخلية بقطع النظر عن مساهمة غير مباشرة لعناصر أخرى في التغطية على جرائم شبيهة أو في عجز الوزارة وأجهزتها بعامة عن ضبط الأوضاع المنفلتة وعن تأدية مهامها الرئيسة ولو بنسبة مؤية تحفظ مسارات تفاصيل الحياة اليومية للمواطن..

ولدينا وزارة دفاع ينبغي أن تضبط حدود العراق وتضبط سلامته وسيادته الوطنية الداخلية والخارجية في حين ليس لدينا من كل ذلك إلا فتات إعلامي هزيل لما يسمونه العملية السياسية في القضية العراقية فيما مجريات الواقع العراقي تشير لاستمرار حاجتنا لوجود قوات أجنبية على وفق اتفاقات دولية وإلى شوط غير قصير من أجل أن يكون لدينا جيش الدفاع الوطني الذي يمكنه توكيد سيادة عراقية تامة صحيحة...

وباستثناءات تخص قوى وشخصيات وطنية تكافح بجهودها لترسيخ المؤسسة الحكومية الصحيحة، ليس لدينا بعد ذاك إلا طوفان من أسماء بعض وزارات تعمل بمؤسسات ودوائر مزروعة أو مخترقة بأصحاب المصالح النفعية التي لا همَّ لها إلا ما مرَّ ذكره من جرائم أبسطها يعاقب عليه قانون أي بلد بأقسى ما يتيحه القانون لحماية الشأن العام... فلدينا وزارة كهرباء وليس في البلاد كهرباء ولدينا وزارة بلديات وخدمات ولا خدمات للمواطنين؛ ولدينا يافطة أخرى لوزارة نفط في بلاد تطوف على بحيرات النفط الأكبر في العالم ولكن المواطن لم يعد يحصل على غاز ولا على نفط وأيّ من مشتقاته..

صحيح أن الوضع موروث بأوبئته من زمن عمل على إلغاء المؤسسة الحكومية لصالح مؤسسة خدمة الطغيان وصحيح أننا بصدد قوى إقليمية ودولية  تخترقنا وصحيح أننا بصدد قوى مرضية مشوهة في الحياة الداخلية العامة في الوطن تسطو على الأجواء؛ إلا أنَّه ليس من الصحيح أمام كل ذلك أن نقبل بمهادنة مع التشويهات السائدة والاستسلام لها أو الردّ المتشنج الذي يقع هو الآخر في دائرة  تمنح الاستمرارية لانهيار الأوضاع وترديها أكثر وأكثر..

إنَّ مجريات قضية تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات والاختلافات بخصوص أول أمورها بما يرتبط بشخص المرشح لرئاسة الوزارة هو جزء من تجليات الأوضاع وتبعاتها في بلادنا بالتوصيف الذي أوردناه هنا.. وقد تكون مثل هذه القضية واحدة من أهم تلك التجليات المنتظر حلها بأداء وطني بديل لمخلفات سياسة المحاصصة  الطائفية التي انطلقت من تأسيس كان الأخطر في حياتنا الوطنية..

لقد كان أمر المحاصصة هو أول الطريق لتسليم القوى الطائفية مقدرات بلادنا ومصادرة جديدة أخرى لإرادة  أبناء شعبنا مثلما جرى له بالأمس القريب.. ومن الطبيعي في كل دول العالم عندما تنتقل من الطغيان إلى الديموقراطية تحتاج لتوكيد سلطة قوية تطمِّن حاجات الشعب أولا وتشرف على مشروعات إعادة البناء وتصحيح المسارات وليس إلى توزيع الحياة العامة وتقسيمها بين القوى الحزبية بخاصة منها الطائفية التقسيمية..

ولكي تُضمَن مصالح الناس كان ينبغي حظر القوى التي تضمِّن برامجها أو تثبت بممارساتها الفعلية طائفية الاتجاه أو دينيته وأسلمته وتطرفه وفي جميع الدساتير لمختلف البلدان يوجد هذا التحديد القانوني الدستوري وبلادنا أحوج لتنفيذه فضلا عن توكيد أهمية وجود فقرة بالخصوص في الدستور!؟

ومع ذلك فقد كانت مجريات الأمور قد اتخذت من ذاك الاتجاه دربا لمزيد من التقسيمات الطائفية ولمزيد من التجاوز على تطبيع أوضاع المواطَنة والهوية الوطنية.. وتمَّ إخضاع الحياة العامة لفلسفة لم تكن في ذهن أبناء شعبنا العراقي يوما وحركاته الوطنية كما تمَّ فرض مفردات التقسيم الطائفي بحجج وذرائع مزعومة للتغطية على برامج منها تخدم جهات ليس بين أجندتها مصلحة وطنية عراقية...

والسؤال بعد ذلك هو: العراق إلى أين في ظل هذه الأجواء والوقائع المعقدة؟

هناك سيناريوات عديدة للإجابة عن هذا التساؤل.. نختزل منها اثنين باتجاهين متعارضين هما الإيجابي والسلبي؛ فالأخير يشير إلى أنَّ السلطة ستبقى بأيدي قوى المحاصصة وانشغال تلك القوى أو إغلاقها على مستهدفات حزبية ضيقة  ومن ثمَّ تعريض البلاد والعباد لمزيد من المخاطر بل المهالك..

ذلكم هو أول الطريق إلى اتجاه العراق ليس إلى التقسيم أو الإلغاء من الخارطة حسب بل إلى كوارثية المستنقع التالي حيث حروب طاحنة جديدة أخرى. ففي ظل سلطة الطغيان والدكتاتورية المهزومة خيضت الحروب بحجة حراسة البوابة الشرقية والدفاع عن الأمة العربية ومصالحها وحقوقها وغدا كما اليوم يزعمون ويعدّون للحرب (الأهلية هذه المرة) بذريعة حراسة إقليم الجنوب وحماية شيعة كذا وعترة كيت والدفاع عن مظالم أولئك  بافتعال وادّعاء الاقتصاص من أخوتهم؟!!

إنَّ  كلَّ عراقي، شيعيا كان أم سنيّا، يدري بقناعة تامة أن الأمور لا تؤخذ بالثارات وأنَّ مظالم التاريخ لا تُستعاد بالاقتصاص من الأخوة أو بالاعتداء على حقوقهم واغتصاب وجودهم فلا حرية لطرف باستعباده لطرف آخر.. ولا حياة سليمة تقوم على حياة معتدى عليها من أية جهة...

كما إن تاريخ مظالم شعب لا يحتكم لقراءة جزئية بل إلى موضوعية النظر في ذاك التاريخ.. ومن هنا وجدنا النسب الكبيرة والعالية للوحدة الاجتماعية والسياسية بين مكونات الشعب العراقي بمختلف أطيافه.. وأن لا جهة تريد مصلحة العراقيين وبرامجها تتوكأ على تغليب أو تقديم مصلحة عراقي على آخر.. فالحقيقة لا تكمن إلا في حقيقة واحدة هي أن مصلحة أي عراقي تكمن في تداخلها وتكاملها وتفاعلها إيجابيا مع مصالح العراقي الآخر بل العراقي وحدة واحدة في تنوعه وليس فيه طرف هنا وآخر هناك وضفة هنا وضفة هناك..

إننا إذن نحن الذين ينبغي لنا أن نتصدى لوحدتنا فنؤكدها ونحافظ عليها كما فعلت الأجيال التي سبقتنا.. ونحن مَنْ يوجِّه الأمور إلى اتجاهها الإيجابي بخيار يوقف من مدّ الطائفية والمحاصصات السلبية التي تبحث عن تفكيك العراق إلى مقاطعات متعارضة المصالح متناقضتها!!

وتابعوا معي ما فعلته القوى الطائفية فزعيمها الأول الذي يقعي عند أقدام مرجعية معممة مفروضة على دولة جارة، يوقع أول تسلمه السلطة أوراق تعويض تلك الجارة مائة مليار دولار مثلما يوقع على إلغاء مكسب المجتمع العراقي من ثورة 14 تموز 1958 بخصوص قانون الأحوال الشخصية الذي انتصف للمرأة وحقوقها ليحاول فرض أحكام المرجعية الظلامية باسم الدين زيفا وافتراء وهو ذاته الذي يطالب بترسيم حدود! بين ما يسميه المحافظة السنية (الأنبار) والمحافظة الشيعية (كربلاء) على وفق توصيفه وعبثه السياسي!!

وزعيم آخر للائتلاف الطائفي المعني يطلق سراح المجرمين والمتجاوزين [وربما  الإرهابيين]  للجارة "المحمية المقدسة" في أول مرحلة تسلمه السلطة ويفاوض دولة جارة أخرى بالضد من مصالج جناح من أجنحة الوطن وشعبه في نهاية ولايته؟!! وكثيرة هي جرائم أوضاعنا  التي تسبب بها أولئك القادمون بسمومهم من وراء الحدود ليس أقلها عبث ميليشيات معروفة بأحوال العراق في بصرتنا الجميلة الفيحاء وفي نجفــنا وكربلائنا العزيزتين وفي غيرها من بقاع عراقنا الجميل المستباح.

أما بعد،

فرسالتي في عراق مفترق الطرق أن لا وجود لنا ولا لهويتنا الوطنية ومن ثمَّ ليس لنا أن نجد لحقوقنا وكرامتنا وقيمنا بل وجودنا الإنساني الكريم النظيف بغير عملنا نحن من أجل فرض أجندتنا الوطنية واستحقاق حيواتنا الإنسانية..

ألسنا نحن المستباحين في حيواتنا وتفاصيل يومياتها العادية؟!! أليس أمننا وأمان أبنائنا ومستقبلهم وحاجاتهم هو ما نفتقده في ظل أوضاع الجريمة والانفلات القائمة؟؟! إذن من المعني بأن يفرض أجندته الوطنية؟  ألسنا نحن الذين نحدد اتجاه البوصلة؟!! أم أن الطائفي الحزبي هو الذي يحدد لنا ما نريد لمجرد إعلانه أنه مقدس وأنه مرجعنا في ديننا وفي دنيانا؟

هل نقبل بإلغائنا وإلغاء شخصياتنا وخصوصياتها ليقرر عنا مرجع سياسي أو ديني "مزعوم القدسية" فيما نحن نُستلب فلذات أكبادنا بالاختطاف والاغتصاب والتقتيل؟؟؟ إلى متى نحني رؤوسنا للذل والخضوع والخنوع لكل من ادعى أنه زعيمنا البطل الضرورة وقائدنا إلى حرب من حروب الدمار باسم الغد الزاهر الموعودين به والذي لن يأتي بالتأكيد عبر طريق تلك الحروب والفتن وأفاعيل التمزيق وبعثرة الجهود؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

إنْ نحن واصلنا استغفال أنفسنا ودفن رؤوسنا في رمال النعام وترك العابثين يقررون عنّا لأنهم من أدعياء عترة أو شيعة أو سنّة أو طائفة أو أخرى، فلنقرأ على أنفسنا السلام ولا عهد لنا بعد زمن غير بعيد وليس هذا هو المشكل بل الأكثر استشكالا أننا مطلوبو الرأس والإذلال والاستعباد، لهوية عراقية حملناها يوما، ولابد من الانتقام منها لصالح مرضى الثأر والانتقام من مياه المتوسط ومقدس تراب الهيكل المزعوم في أورشليم والصراع مع الكلدان الآشور وحتى مقدس تراب قم وعرين طهران الساسانية ومواقفها من حضارة تراث الإنسانية مرورا بكل رعاديد الأرض ونفاياتها..

ولكننا نحن الذين نقول: إننا باقون ومسيرة الانتصار لإرادتنا العراقية واستقرار أوضاعنا وتطمين حاجاتنا ومطالبنا والاستجابة لحقوقنا كاملة هي مسيرة بدأت ولن تنقطع بتلكؤ العملية السياسية وتشوّهها بمفردات أو أجندات غريبة عنا....

وليعلم الساسة الموجودون اليوم أنهم سيكونوا الرقم التالي إذا تمادوا في تنفيذ أجندات غير وطنية.. وأقفلوا على مستهدفاتهم الضيقة وكفى بالحكيم مشورة المجرب وشعبنا الأكثر تجاريبا في طريق حضارة عمرها العشرة آلاف من الأعوام... فليتعظوا ويصححوا المسار وليتحرك شارعنا لفرض سلطته ولا ينتظرنَّ زعامات دخيلة بل ليبدأ مشوار حركة الشارع من أجل فرض الأجندة الشعبية الوطنية...

أليس هذا هو طريق الإجابة على سؤال العراق إلى أين؟ المنطق والعقل يقولان بلى العراق أما إلى التفكيك والإلغاء أو إلى إعادة  الإعمار والبناء ومن يحدد ذلك هو فلسفة صحيحة تكسب الشارع من القوى الوطنية أو تراخِ ِ يُفقِدُها الشارع فيترك زمامه لقوى العنف الدموي ولإرادة الاستلاب والمصادرة.. وعلى خيارنا سيكون الجواب الأدق على سؤال العراق إلى أين؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟