الحقيقة والممكن والادعاء

في الخطاب السياسي العراقي الراهن

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2006\  05 \ 28

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

مَنْ المسؤول عن كل هذا الهول من المشهد الدموي السائد في الحياة اليومية للعراقيين؟ ومَن القادر على إعادة الأمل في العودة للحياة الآمنة التي افتقدها العراقيون منذ عقود من الآلام والمشكلات؟ ومَن نصدِّق خطابه السياسي ووعوده ممَّن تسلَّم السلطة مذ سنوات ثلاث أسوأ من عجاف؟ أين الحقيقة وأين الادعاء وقناع إخفاء الكذب لجرائم يجري تمريرها؟ وما الممكن والمتاح وما وسائل العلاج الحقة في أوضاع اليوم عراقيا؟؟؟

الإجابة عن هذه الأسئلة لا يمكن أنْ تأتي في موجز حكائي فالتعقيدات القائمة اليوم هي نتيجة لعقود من الصراعات ومن الأحكام المريرة التي مسخت المشهد العراقي وحولته إلى هذه الأوضاع الكارثية ورهنته هناك في قعر الهاوية.. ومن سينتشل الوضع من هناك ليس قوة بعينها لوحدها ولا مخلِّص يحمل في كفيه إعجاز أسطوري لا وجود له! ونحن نعرف هنا أننا في الأمس كنّأ مقطوعين عن أهلنا في أيصال خطابنا إليهم، فما بالنا اليوم؟

الحقيقة أن المشكلة ليست في إزالة نظام الطاغية القمعي باسمه الصدامي البعثي فالمشكل في جوهره لا يكمن في فرد وحوشيته بل في طبيعة النظام الذي حكم وجوهر سياساته وآليات تسلطه... وفي حال إزالة اسم فقد يأتي بديل بل بدائل أسوأ. إذن التغيير يتطلب بديلا مختلفا نوعيا يكمن في نظام كامل من الآليات النقيضة.. حيث بديل الدكتاتورية والقمع ليس غير الديموقراطية وآلياتها جوهريا.

وهنا نتحدث عن الحريات الحقة ونظام عمل مؤسساتي في الحياة العامة يضمن الحقوق الإنسانية كافة.. كما أننا في الوقت الذي نتحدث عن الانعتاق من لغة الخطاب الشمولي وتسلطه الذي صادرنا بكل كينونتنا وتفاصيل آليات قمعه واستلابه لوجودنا العراقي الإنساني، ينبغي أن نتحدث في الوقت ذاته عن حريات حقيقية وانعتاق ميداني صحيح يوفر فرص الحياة الإنسانية الكريمة.. ولكن: هل حقا نحن نحيا مثل هذا الانعتاق؟

ما يجري من تفاصيل يخبرنا أو يقول الآتي: هناك أوضاع (انفلاشية) بمعنى انفلات وهدم وتخريب ومحو لوجود واستئصال من الجذور. وأسبابه تكمن في سحق الدولة ومؤسساتها طوال العقود الأربعة الأخيرة واستكمال ذلك بوساطة أخطاء جوهرية في السنوات الثلاث الأخيرة وما يعمق تلك الكارثة يكمن في كون البديل يقوم اليوم على انعدام الثقة بين مجموع الأطراف العراقية واستخدامها ميليشيات وقوى مسلحة مخترقة تماما وبوضوح وفي أعلى هياكلها وبرامجها من قوى لا تكتفي بعدم وجود مصلحة عراقية صحيحة لها بل هي تتعارض وتتقاطع وتتناقض مع تلك المصالح العراقية الحقة...

وطبعا هذه أول القوى المؤثرة التي احتلت الميدان العراقي.. وتوصيفها يكمن في كونها قوى مسلحة مدربة على  ضرب أهدافها في سلطة عسكرية عاتية كسلطة نظام الطاغية المهزوم ولكنها ليست مدربة حقا على أن تكون قوى دفاع وطني وحرس وطني وبعض تلك القوى التي أعلنت وجودها لاحقا هي قوى مسلحة مافيوية وعصابات منظمة بأهداف لا تلتقي لا من قريب ولا من بعيد مع وجود استقرار أو مع مؤسسات دولة تحكم فهي قوى فوق الدولة..

القوى الأخرى التي دخلت منتهزة الظروف الانفلاشية (المنفلتة) هي بعض المهجرين من نظام الطاغية ولكن الذي عاد في ظل هذا السبب الموضوعي الصحيح هو قوى إقليمية مقصود من ورائها دفع أكبر حجم ممكن من التغييرات السكانية بالتحديد الفارسية لتشكل لاحقا واقع حال وأرضية خصبة يتم استغلالها لاطلاق مشروعات السلطة الإيرانية التي تعتقد أنها موجودة أبديا ونحن نحمل روحا مرحِّبا بكل إنسان يرى أن عيشه هنا في أرض الرافدين ولكننا في الوضع القائم لا نسطيع استقبال أحد في أجواء غير مستقرة وهي أجواء لا تسمح بغير ضرب مصالح شعبنا ومن ثم ضرب استقرار المنطقة والعالم..

لقد دخلت هذه القوى وصارت تؤسس لمنطق وجودها بشراء المباني وبناء الدور والمؤسسات وتصفية وجود العراقيين في الكانتونات التي أقاموها بل أنهم توسعوا حتى احتلوا محافظات عراقية بالكامل في أبرز مصالح العمل الاقتصادية بالتحديد حيث لم يعد من معلم سياحي أو معمل أ مصنع أو حقل أو حتى مدرسة وجامعة إلا وصارت ملكا بأيديهم!!! وساهمت العناصر التي احتلت مؤسسات الدولة على دعم هذا التوجه حتى أن تلك (الأحزاب) باعت الجنسية العراقية لعشرات آلاف من القادمين بمقاصد بعيدة المدى..  

إنَّ هذه الحقيقة هي التي تقودنا إلى كون الحل الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا من خلال آلية تأسيس الدولة العراقية ومن خلال تنشيط عمل مؤسساتها النظيفة غير المخترقة.. وعلينا أن نتذكر أننا بحاجة لتعزيز الثقة بشعبنا بوصفه نسيجا متلاحما بخلاف السياسة الطائفية المفروضة قسرا علينا بقوة السياسة الدولية وأخطاء تصوراتها للحل وبقوة الميليشيات الداخلة إلينا من خلف الحدود وأحزابها الطائفية...

وعلينا أن نتذكر أن كل التغييرات التي تجري اليوم في ظل الاحتلال [المقنَّع] هي تغييرات محرمة في القوانين المحلية والدولية ويجب التوافق على أننا سنعود إليها غدا رسميا ونعيد التعامل معها على وفق ما يقوله شعبنا العراقي في استفتاءات مباشرة تخص الجنسية والهوية والملكية ملكية كل شبر عراقي يبتاعه الدخلاء ولن يكون لمثل هؤلاء من وجود في سماء العراق وأرضه يوم تستقر أوضاعنا حيث سيحاسب العراقيون كل من وضع يده في مسيرة إثارة المشهد الدموي الراهن وفي طريق اعتراض مسيرتنا نحو عراق جديد تطلعنا إليه طويلا هو عراق التعددية الديموقراطي الفديرالي الموحد...

إذن نحن في مشهد دموي يحياه العراقي في الوطن ويحسه العراقي المهجري ونشترك فيه جميعا بكل آلامه وجراحه.. أما سبب الأمر فيبدأ من عقود التخريب لنظام الطاغية ولا ينتهي بسنوات الاحتلال بل يتصل ويمعن في الجريمة بوساطة أحزاب الطائفية وسياساتها التي تغطي بقناع خطابها وادعاءاتها تمثيل مصالح طائفة أو أخرى، تغطي على تدخلات وأصابع إقليمية مثلما تغذي بقوة ميليشياتها أوضاعا انفلاشية (تخريبية تدميرية دموية)...

لقد صار العراق في ظل الوضع الراهن مرتعا لأنشطة مخابرات أبعد الدول وأفقرها في عالمنا وليس الأمر حكرا على دول إقليمية أو كبرى بعيدة أو قريبة، نائية أو مجاورة! وصار العراقي لا يأمن على نفسه حتى في بيته! وهو يذهب إلى المعمل والجامعة واحتمال اغتياله أو اختطافه أو اغتصاب حق له واستلابه أكبر من أي يوم عاشه مرة في حياته الملأى بالمرارة والقسوة والعذابات...

لكن الحل لا يمكن أن يكون في بندقية أخرى تُضاف إلى ما هو موجود في الحياة اليومية بكل المتفجرات ولعلعة الرصاص إذ سيكون ذلك مساعدة جدية لمزيد من الفوضى في وقت نحن أحوج ما نكون إلى تكوين مؤسسات الدولة وتعميدها وتوطيد مسارات عملها.. لضبط الشارع العراقي وتعزيز الأمن وتمكين الإنسان من أمانه واستقرار يومياته.. وطبعا لابد من أن يكون الأمر معمدا بمخاض عسير ولكننا لابد من أن نواصل مسيرتنا بكل مصاعبها نحو العمل المؤسساتي بتطهير المؤسسات وبثقة بين أطراف العمل السياسي من باب التوافق والتسامح والمصالحة...

وأولا نصرّ جميعا على حل الميليشيات وإبعادها عن التأثير على الحياة العامة ومصادرة الرأي وحق التعبير فنحن لا نستطيع اليوم عقد اجتماع أو مظاهرة مهددة بميليشيا أو عصابة ولا يستطيع أستاذ أن يمارس مهامه حتى في توضيح مسألة رياضية أو فيزيائية بحتة من دون تعرض قوى ظلامية بائسة له ولا يستطيع امرؤ أن يلبس ما يريد أو يشرب دواء يحتاجه من دون تصريح من جاهل دعي يعتمر عمامة سوداء أوخضراء!!

وعلينا هنا أن نجرِّد الميادين كافة بلا استثناء ونزع أسلحة الناس بطريقة مرحلية حيث يجري توفير قوى أمنية لكل منطقة يبدأ إخلاؤها من السلاح بدءا من محاور من شمال العراق وجنوبه وشرقه.. وتكون الخطة أولا بضبط الحدود من قوات عراقية كافية تساندها قوات أجنبية دولية توافق على القيام بمهماتها كاملة تامة مع تعهد إقليمي من دول الجوار والدول الإقليمية بالمساعدة رسميا.. ويجري التحقيق في أي اختراق ويكون هناك عقوبات ملموسة معينة مسبقا لكل مسؤولية عن حالة الاختراق..

الخطوة التالية تكون بتوسيع قدرات الداخلية وتطهيرها من الاختراقات ومنع أي من قوى الأحزاب الموجودة وميليشياتها من الدخول لهذه القوة الوطنية للدولة العراقية ومؤسساتها.. وتـُمنح التدريبات والأسلحة الوافية والخطط المناسبة للبدء بحملة إخلاء البلاد من التسليح الفردي والجمعي حيث تبدأ عملية تنفيذ الخطة محافظة محافظة وناحية ناحية وكل منطقة يجري إخلاؤها يجري حمايتها بكثافة طارئة مع تسويرها بطوق أمني لحمايتها من الاختراق مجددا على أنْ تشدد العقوبات في تلك المناطق المحمية على كل من يثبت عودته لحمل السلاح لأي سبب كان... ويمكن الاستعانة بقوى دولية بالخصوص تخضع لأمرة الخطط العراقية الخاصة بالدولة فقط.. ولا تخضع المؤسسة الحكومية في الدفاع والداخلية لأي سلطة للأحزاب القائمة...

ويجري مباشرة في كل ميدان يجري تطهيره البدء بمشروعات اقتصادية مهمة وتشغيل المرافق التعليمية والصحية والخدمية بكل طاقتها مع فتح الفرص لمشروعات لشركات أجنبية محمية أمنيا بالكامل ويكون التشغيل من أبناء المنطقة أولا ومن مناطق أخرى يدخلون في ظل حالة أمنية مخصوصة..

تسير هذه الخطى تدريجيا وباستمرار متسارع لمحاصرة أوكار الإرهاب والعنف الدمويين بكل مسمياتهما.. مع إعلان رسمي لكل أجنبي وغير عراقي بضرورة تسجيل سبب وجوده وطبيعة نشاطه وحركته وسكنه أو المغادرة الإلزامية الفورية.. وبالتأكيد يجري هذا مع احترام كامل للحق الرسمي في تأشير إقامة لكل صاحب حق فيها.. كما ينبغي التنبه للقادمين بغطاء التسلط الإيراني والدعم اللوجستي الكامل لهؤلاء من أطراف محلية وخارجية..

وينبغي هنا ألا نسجل اتهاما لحزب بعينه ولو حمل لغة الطائفية كما في الأحزاب والتيارات الدينية الطائفية ولا إلى جهات سجلت تكوين أحزابها مؤخرا غطاء لممارسات إقليمية أو دولية أو توجهات محلية ما.. ولكننا ينبغي أن نـُلزِم جميع هؤلاء بلغة الخطاب الرسمي الموحد المحمي دستوريا ولا طرف يعلو على القانون وسلطته..

وينبغي أن نتخلص من لغة هذا كان من حزب مهزوم وذاك من نظام قديم مأفون أو من قوى قادمة مع الوضع الجديد ونبدأ سياسة التسامح والتصالح بين العراقيين في ظل مسيرة بسط سلطة القانون.. وغدا بالتدريج يكون العراقيون هم الذين يقررون عبر استقرار مؤسسات دولتهم من يبقى ومن يُحظر ومن يُحاسب وكيف، وليس من الصائب أن نلجأ للغة الانتقام من متهم ركب مركب سياسة أو فلسفة لا نرضاها فنعود بهذي السياسة الانتقامية لنهيئ للوضع فرصة الدوران بنا إلى الخلف عبر لغة الانتقام والجريمة تلك فيما الصحيح أن نسير على وفق لغة مؤسساتية قانونية بديلة...

علينا وهذا مجرد مقترح للتداول والمناقشة أنْ نفرز بين الادعاء ولبس الأقنعة وبين الحقيقة التي يمثلها فرد أو مجموعة أو طرف! فمن العجب أن نمضي وراء دعيِّ ِ يتشدق بالدفاع عن مصالحنا أو مصالح طائفة ويتحدث عن مظلومية وهو لا يتقدم على ادعائه ذاك خطوة لمصلحة ولو فرد عراقي واحد حتى من الطائفة التي يدَّعي الدفاع عن مصالحها.. ولنلقِ بتلك الادعاءات جانبا ونستخدم لغة السلم والهدوء في التوجه لأهدافنا في تمكين مؤسسات دولة القانون من العمل..

ولنسحب ثقتنا وأصواتنا الانتخابية من القوى الموجودة لنعيد حساباتنا نحو حل واقعي لا يكون في الرحيل إلى سماء الأحلام والأوهام بل يحيا بيننا على أرض الواقع والحل الذي يحيا بنا ولنا يكمن فينا وفي أصواتنا ومواقفنا ولنعلن موقفا صريحا من أشكال الدعاية السياسية الرخيصة التي تفرض علينا تعبيرات طقسية من مزيد أحزان وآلام وتذكر لمظلوميات الدهر مذ سومر وحتى اليوم فيما أحزاننا ومآسينا اليومية منسية ولا من معبر عنها اليوم...

نحن من سيعبر عنها أنفسنا ومباشرة ولنتحدث بوضوح عن آمالنا وأحلامنا وتطلعاتنا وليكن صوتنا مع كل يد تبني وصوت يعلو بنا ولنا ومن أجل مطالبنا ومطالب أبنائنا وجيل ينمو في عراق جديد عراقي الهوية لا غريبها وأجنبيها.. ولنا عودة وحديث في الأمر...

يتبع