الحقيقة والممكن والادعاء

في الخطاب السياسي العراقي الراهن

2

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2006\  05 \ 30

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

أسئلتنا - هي أسئلة واقعنا - انصبَّت على مسؤولية من يقف وراء تفجر الأوضاع العراقية ومن يسطيع إعادة الأمل ومن نصدق خطابه وأين تكم الحققة من الادعاء وما الممكن المتاح لمعالجة الأوضاع؟ وقد قلنا إن المشكلة لم تكن مقتصرة على إزالة نظام الطاغية حسب مشيرين إلى أهمية العناية بمرحلة انتقالية منضبطة بسبب من عمق الشرخ الذي خلفه النظام التخريبي في أجواء مجتمعنا بكل المقاييس البشرية والمادية.. وإن الدليل على ما نقوله يكمن في طبيعة المشهد الذي لا يحتاج كثير عناء لتوصيفه بالانفلاشي بمعنى ما بعد المنفلت من الطوق والسيطرة إلى حد الخراب الشامل والوقوع في قعر الهاية!!

إنَّ مشكلة التغيير تكمن في الانقلاب السريع حيث جرى بتدخل قوات أجنبية لم تحسب الأمور بدقة بخاصة من جهة قراءة الوضع العراقي المخصوص ومطالبه وحاجاته. وكل ما قرأته انصبَّ على قدرات الدولة العظمى وقوات التحالف على السيطرة العسكرية وعلى دحر قوات الدكتاتور مع حياد حقيقي من جانب الشعب في المعركة التي جرت. أما الذي جرى إغفاله فكان كبيرا وجوهريا حتى أنه كاد يغرق المركب العراقي في تهلكة أبدية إنْ لم يغرقه بعدُ  بالفعل!

لقد جرى إغفال الحاجة  كبيرة الشأن والأهمية لمؤسسات الدولة ومنها تلك التي تهتم بالأمور الأمنية وتنفيذ سلطة القانون في دولة بالحجم السكاني للعراق وبالحجم الخطير لحالة فتح الحدود بلا أية حراسة لا جدية ولا عادية.. وقد يكون أمر حلّ الجيش العراقي قد جرى خطأ بغير قصد أو بسياسة مقصودة  مثلا بهدف جرّ العناصر الإرهابية إلى الميدان العراقي؛ ولكن النتيجة ظلت واحدة، خراب ومزيد من الدمار وتعقد الوضع وانفلاته من عقاله!

كما جرى إغفال القدرات الحقيقية للعناصر التي أطلقها الطاغية قبيل هزيمته مباشرة ودور العصابات المنظمة في تسميم الأجواء. هذا فضلا عن قدرات العناصر والمجموعات الإرهابية التي دخلت في ظل غطاء الانفلات الواسع للمنافذ الحدودية في ظل أوضاع خدمت حركتهم بطريقة أكثر من مثالية من جهات وجود الأسلحة والأعتدة التي تركها النظام المهزوم إلى جانب أموال طائلة لا يمكن إلا أنْ تكون ذهبت إلى جعب الإرهابيين السرقة...

أما الأمر الآخر الذي أشرنا إليه فيكمن في مخاطر الاختراقات الشاملة على جميع المستويات.. فالاختراق الأول مخابراتي الطبيعة والآخر عسكري عبر عاملي الميليشيا العراقية العائدة والمحمَّلة بأصابع الاختراق البعيد والعصابات المنظمة الموجهة مافيويا، إقليميا ودوليا.. ولم يعد لنا وزارة داخلية ودفاع بلا تأثيرات واضحة للقوى الإقليمية والدولية فيما تلعب بعض تلك الأجهزة بالكامل دورها في عمليات الاغتصاب والتقتيل والاختطاف والاغتيال والتخريب في أجوائنا المخربة أصلا! وتواصل الاختراقات مشهدها لتصل حدَّ التغييرات الديموغرافية بدفع عشرات ألوف بل مئات ألوف الإيرانيين حتى صار اللسان المتداول في بعض المناطق فارسيا وصارت العملة الإيرانية متداولة عاديا في بعض المحافظات بله في بعض أحياء بغداد العاصمة..

إنَّ المشكلة تتضاعف عندما نجد قوى عراقية بالتحديد إسلاموية التوجه تخضع بقياداتها وعديد من قواعدها ومن ثمَّ برامجها وخطابها السياسي تتحدث عن أولوية لمصالح دول إقليمية قبل أية مسؤوليات تجاه مصالح شعبنا وفئاته وأطيافه.. ومن هنا جاءت مخاطر تعميق الأزمة بلغة متخلفة للطائفية الممهورة بأصابع دول إقليمية تدعي سنيتها أوشيعيتها ودفاعها عن طائفة على حساب أخرى  عبر خطاب ديماغوجي من مثل الحديث ليل نهار عن مظلومية هذه الجهة أو تلك...

وهكذا جرى اختراق لا الوضع الديني المستقر الهادئ عبر قرون من الزمن بل الوضع الاجتماعي والسياسي الراهن وهزّه بعنف في قواعده ومن ثمَّ تهديد النسيج الاجتماعي ووضعه في حال من الاستفزاز والضائقة لدفعه إلى مزيد من التفجر بالعزل الطائفي حتى داخل المؤسسة العشائرية القبلية تحضيرا لأهداف لم تعد خافية..

ومن هنا فسيكون للعراقي أول أمره معالجة أمر الاختراقات التي صارت قواها لا تخشى التحدث بأعلى صوت وفي أعلى مستوى فهل غير سلطة القانون والدستور العراقي لحسم الأمر... وهل غير تطهير القوى والحركات السياسية من برامج القوى الإقليمية ومن العناصر التي تحرص على الاستماتة خدمة لأسياد خلف الحدود الوطنية... وهل غير ضبط عمل الأحزاب والحركات على وفق قانون وطني الهوية؟

إنَّ مَن يساعد على عملية التطهير هو إلزام تلك الحركات بآليات العمل الديموقراطي داخليا وبالخضوع للغة القانون من جهة إشراف القضاء الوطني.. إلى جانب تعزيز لغة العمل المؤسساتي وتحديد جدّي لأنشطة الأفراد وسلطاتهم.. وبطبيعة الأمر سيكون لآلية سلطة المؤسسة فوق سلطة الفرد وبخاصة سلطة مؤسسات المجتمع المدني الدور الأكثر فاعلية في تطبيع الوضع العام ومزيد من دفعه نحو الاستقرار.. فقوى الإرهاب والعنف والطائفية تدفع إلى إضعاف مؤسسات المجتمع المدني وتحللها وانهيارها التام المطلق فيما الرد لا يكون إلا بتقوية تلك الأجهزة والمؤسسات وتفعيل دورها...

إنَّ دمقرطة الحياة العراقية العامة لا تعني تفكيك العمل المؤسساتي ولا تتعارض مع تقوية سلطته بل تعني إشراك مزيد من الجمهور في تقرير المصير وتحديد التوجهات الصائبة لمسار الحكومة، السلطة الوحيدة بشرعية الدور الشعبي فيها.. وسيكون من مهام كل القوى السياسية الموجودة في الميدان والقوى الاجتماعية والمدنية وحتى منها تلك الفئوية والقبلية العشائرية لكي تحافظ على مصالح أبنائها في الإطار الوطني، أن تقف مع منطق تقوية الدولة ومؤسساتها ووضوح سلطتها وقوتها القانونية..

ومن هنا أيضا فنحن بحاجة لتوكيد عملية تثقيف وتوعية مسؤولة من قبل مجموع أجهزة الإعلام والثقافة والارتقاء بمهامهم وتوسيعها ودعمها في البرنامج الحكومي بقوة سواء بالدفاع عن المثقفين وحمايتهم وحراستهم من السهام الموجهة إليهم أم بدعم مشروعاتهم وتوفير الإمكانات الضرورية  واللازمة لتلك المشروعات والبرامج التي  تبدعها حركة الثقافة..

لدينا بدائل ستراتيجية يلزم الدفاع عنها:

1.                       معالجة إشكالية الميليشيات باعتماد المعالجة المناسبة على وفق منطق خصوصية إقليم كردستان وحركته القومية التحررية على أساس من رفض استمرار عمل البيشمركة بصفة ميليشيا والتحول بها إلى قوى نظامية لتعمل بشرط أن يجري تأهيلها بقيادة عسكرية وأمنية متخصصة ومهنية تنهض بالمهام والمسؤوليات المناطة بها على صعيد كردستان المحدد قانونا.. ويجري التعامل مع مجموع الميليشيات العراقية على الأساس القانوني الملزم للجميع بما يمنع عملها العسكري قطعا والتحول بها بتأهيلها للعمل في المجالات المدنية والعسكرية والأمنية بانتساب فردي لا يخضع إلى الارتباط الحزبي المسبق المشروط...

2.                          منع الأفكار والنزعات الطفولية في الخطاب السياسي واعتماد الدراسات البحثية والاستقصاءات الرسمية الحكومية المحايدة التي تنظر لمصالح العراق الديموقراطي الفديرالي الموحد لا العراق الطائفي المتشظي المجزَّأ وعليه يُحظر الدعاية لتفكيك الوطن ولتقسيمه على وفق منطق طائفي أو فئوي ضيق بالتحديد هنا الحديث في براقع وادعاءات فدرلة العراق في جنوبه ووسطه؟! على أنْ يعدّ هذا مسّاَ َ بالأمن الوطني وتُحال مشروعات الأحزاب والحركات بالخصوص إلى الجمعية الوطنية وهذه تشكل لها اللجان المتخصصة لدراستها وتقديم التصورات الموضوعية قبل التعرف لاستقصاء رأي المواطن بالخصوص..

3.                          معالجة سرقة الثروات الوطنية بكل أشكالها من النفط والمعادن إلى الآثار والأعمال الفكرية والثقافية مرورا بأية ركائز تتشكل منها الثروة الوطنية بمحاربة الفساد بخطة تساهم فيها الخبرات الدولية بشكل مباشر..

4.                 حل قضايا دستورية عالقة ومنها أيضا قضايا التعديلات المنتظرة في الدستور نفسه.. إلى جانب قضايا تفعيل المجالس البلدية وحل إشكالية المدن المشتركة بين الأقاليم العراقية حلا يستجيب لحالة التنوع من جهة وللحقائق التاريخية والراهنة التي تفرض الاستجابة لها موضوعيا وليس على وفق رؤى أو أهواء هذا الطرف أو ذاك..

5.     تحديد القوى الأجنبية الدخيلة ووقف أنشطتها قانونيا وتقليم أظفار الاختراقات الأمنية والمخابراتية وتلك التي تدفقت للإخلال بالتوازنات السكانية وفي مثل هذه الحالات لابد من الالتفات إلى مصالح العراقيين أولا مع مراعاة حقوق الإنسان بروح مسؤول..

6.      مساءلة الحكومة باستمرار بخصوص السياسات الخارجية المتبعة وطبيعة العلاقات مع المحيط الإقليمي والدولي ومساءلة كل فرد في أنشطته وتصرفاته ونتائج تنفيذه لبرنامج محدد... كما ينبغي تفعيل لجان النزاهة وتطوير عملها إلى جانب تفعيل لجان الرقابة وهيئاتها.. وهو الأمر الذي سيكون جزءا من فعاليات أشمل لتوضيب المسارات وتقويمها باستمرار.. 

7.       معالجة المشكلات الداخلية الاقتصادية منها والاجتماعية ومن ذلك مشكلات البطالة بتوفير فرص العمل المناسبة وتعديل ظروف القدرات الشرائية ووتوفير الحلول الفورية الناجعة لأزمات السكن والصحة والتعليم والخدمات العامة ..

8.      عقد مؤتمر المصالحة الوطنية بلا استثناء إلا لقوى الجريمة والتقتيل وتلك الرافضة لمسار السلم والتسامح والتصالح الحقيقي القائم على العدل والإخاء والمساواة في وطن الحرية والوحدة والديموقراطية والتعددية والتداولية... على أن يتوافر من هذا المؤتمر قيادة وطنية مشتركة تتساوى فيها أصوات كل القوى المجتمعية للأطياف العراقية بخاصة منها قوى الديانات والقوميات القديمة التي درج المصطلح الظالم على تسميتها بالأقليات...

9.      وليس أخيرا أن تمتنع الأطراف كافة عن استغلال المناصب الحكومية والمسؤوليات الدستورية لتوجيه الدفة لمصالح حزبية ضيقة ومن ذلك  انتهاز الفرص في ليل أدلج لتمرير قرارات مصيرية وستراتيجية على حساب حاضر العراقيين ومستقبلهم. ولابد هنا من تأجيل القرارات المصيرية واتخاذها خارج المرحلة كونها مرحلة طوارئ وظروف استثنائية في جوهرها واللبيب يعرف من يسميها مرحلة العمل الدستوري الدائم والاستقرار السياسي وهي في حقيقتها مرحلة ملتهبة في هاوية جحيم العراقيين... وليس مناسبا أن تُتخَذ قرارات السلم في زمن الحرب وفي ظل الاحتلال الغربي منه والشرقي وفي ظل انفلات الأوضاع القانونية والدستورية وعدم وجود مؤسسات دولة حقا وصدقا فضلا عن إمكان تمرير الأمور المصيرية بطريقة المقايضات الطائفية والمصالح الضيقة بما لا يدخل في الحساب أية مصلحة وطنية...

 

إذن فنحن في تصوراتنا ورؤانا هذه إنما نقدم رؤية للمناقشة لمفكرينا وزعاماتنا السياسية والاجتماعية ليضعوا لمساتهم بالتحديد في طريق التسامح والمصالحة وإلغاء زمن الفرقة والاحتراب ومن يحاول تغذيته ومقترحنا على المواطن أن يواصل مشوار ليس لديه فيه خيار آخر بالتحديد مزيد من احترام سلطة القانون ودعم مؤسسات المجتمع المدني لأن طريقه هنا ليس بغير توكيد لغة التسامح من جهة ولغة القانون واحترامه من جهة أخرى وتلك هي مسيرتنا في ظرف معقد تماما..

ونليس ختاما لهذه الحلقة من سلسلة ما بين الحقيقة والادعاء أنْ نؤكد على أننا نحن الذين نعبر عن أنفسنا ومطامحنا وتطلعاتنا وليس أيا من الزعامات والمرجعيات لأن لغة الديموقراطية تعني أن نختار طريقنا ومسالكنا وليكن صوتنا مع كل يد تبني ومع كل صوت يعلو بنا ولنا في وطن حر سومريّ الجذور عراقي الهوية لا غريبها ولا أجنبيها.. ولنا عودة وحديث في الأمر...

يتبع