متى وكيف يُطلق سراحنا من قمقم

سطوة ذهنية العقدة وفسلفة الخشية من الاضطهاد القهري؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           2006\  07 \ 03

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

مفهوم أن تسود أفكار بعينها في مرحلة بعينها أمر سبق أن أُشبِع بحثا.. فكل مرحلة بتشكيلتها الاقتصا – اجتماعية بكل توصيفات بنيتيها التحتية والفوقية تفرض سيادة طريقة تفكير تنسجم مع آليات العلاقات الخاضعة لقوانين التشكيلة والمرحلة التاريخية. وما خلـَّفه النظام القمعي السابق إلى جانب طبيعة المتغيرات في السنوات الثلاث المنصرمة هو تركيبة مشوَّهة من البنية الاقتصادية التي صعد فيها نجم نهَّازي الفرص وتجار الحروب والمواقف الطارئة بالتحديد سماسرة يسترخصون قيمة البشر وهم ينتشرون بمستويات اختراق أعلى مؤسسات ما يكوِّن الدولة اليوم  وأظهرت الأوضاع خلطة غريبة من العلاقات الاجتماعية من أنماط مختلف التشكيلات الاقطاعية وما قبل الرأسمالية تلك التي تحمل ثقافات مجتمعات زراعية وشبه صناعية  بكل ما في الأمر من تناقضات وصراعات وفقدان استقرار..

لقد سطا اليوم على الوضع العام حال من الارتباك السياسي  المُثار من جهات تفرض سطوتها المبرقعة بسلاحي القدسية الدينية الطائفية وبقوة الميليشيا المسلحة، ولقد طفا على السطح صوت بوق إعلامي خطير صار يؤذِّن ليل نهار في أسماع الناس بما يُعلن أمرا ويخفي آخر.. بالتأكيد استجابة لمصالح القوة التي سطت على الحياة العامة. إنَّ هذا الصوت المكرور يستهدف التعمية على ما يجري مواصلة لأطول وقت من الاستغلال وتضييعا لفرصة الكشف عن الحقيقة الراهنة...  

إنَّ ما تُرِك لنا من إرث على مختلف الصُعُد والمستويات أوجد لنا حال شيوع الجهل والتخلف والتشوهات الفكرية والسياسية، وأزمات في طبيعة الذهنية العامة وتهديدات وضغوط خطيرة للعقل الجمعي تجعله تحت حالة رُهاب من تجاريب الماضي القمعي الدموي.. وهنا يجري استغلال تلك التجاريب من جهة استدعاء المجازر الوحشية بحق الثورات الاجتماعية الإنسانية من أجل العدالة كما حصل عبر آلاف السنوات الشداد..

ولأن الذاكرة الشعبية لم تنسَ تلك الوقائع وهي لا تنسى بالتأكيد؛ ولأن الذاكرة الجمعية تحتفظ بالتجاريب، يجري اليوم توظيف استغلالي لتلك الآلية عبر استدعاء التجاريب التراجيدية المؤلمة لمزيد من تعميق حالة الرهاب والخشية والخوف من عودة تلك الآلام الجنونية.. ومن يمتلك مثل هذه المصلحة أيّ مصلحة خلق حال الرهاب الجنوني المرضي هو الذي يهمّه أنْ يحرّك أو يقف وراء تحريك أجواء الموت والدم...

ومن الطبيعي إبعادا للشبهات وتعميدا لخطة التعمية أنْ يكون هناك دوما بعبع العداء والعدو المستشرس الدموي، وأن يجري استغلال الأجواء والدفع بها باتجاه هذه الأوضاع القلقة غير المستقرة.. ومن هنا ينبغي التفكير بطريقة جدية ترتقي لمستوى يتصدى لحال الاختراق والسطو على الميدان السياسي العام وتتصدى لآلية سطوة الماكنة الإعلامية التي ظلت قرونا من الزمن تعزف على وتر تمزيق المجتمع الإنساني وإثارة لغة الحقد والضغينة ومن ثمَّ التحضير لثارات مفتعلة ليس لها من نتائج غير خدمة قوى الدم والموت والاستغلال..

فلقد قتل ابن آدم أخاه فترك فرصة لمن يفكر بلغة الثأر أن يمضي في مسلسل يخدم العنف والدم لا غير.. وشبيه هذا الأمر ذاته هو ما جرى من جرائم لاحقة فيأتي بعض الخبثاء ليصبوا الزيت في نار الفتن والاقتتال والتحارب كما كان في حرب داحس والغبراء التي أوقفتها الحكمة والعقلية السلمية في زمن غابر متخلف.. وأحرى بنا اليوم حقن الدماء ومنع التمزق ووقف التداعي والتوجه للاقتتال بقراءة تجاريب العقل والحمة والرشاد وليس العكس..

إنَّ بوق فضائيات دموع التماسيح هو ذاته بوق الأنظمة الاستغلالية وعصابات القتل ومافيات الجرائم والمتاجرة بحيوات البشر رخيصة... وهي تتكامل في فلسفتها مع ما يُسمى فضائيات النفخ في قربة الإرهاب ومسيرة الدم. أما مشكلتنا نحن أبناء الشعب المغلوب على أمره مع تلك الأصوات المنبعثة من أبواق فضائيات وصحف مطبوعة وأخرى إنترنيتية فتكمن في طبيعة المستهدفات؟

إنَّ مزيد التكرار والاجترار في بكائيات الحزن ولبس السواد وعزاءات لا تنتهي على مقتل بطل ضحة من أجل تثبيت الابتسامة والأفراح والتأسيس لمقدمات استقرار الحياة من أجل يعمّرها الإنسان ويبنيها كما أراد الرب وكما يريد الأخيار أن يبنوا الحياة صحيحة عقلانية فيما يريدها الأشرار كئيبة حزينة غير مستقرة منشغلة بالآلام والجراح بديلا عن الاستقرار والتفكير في البناء والعمار..

إنَّ فلسفة الكآبة والسكون وإخراس حناجر تصدح بتكبيرات العمل وإسكات الدعوات للبناء هي فلسفة غرس ثقافة الحقد والضغينة تلك التي تدعو للثأر من حفيد لم يسمع بما اقترفت يد جده التاسع عشر وليس له من اسم ذاك الجد ولا من فكره ولا من سلطته ودمه بل له من الاسم اسم آخر ومن الدم دم الخير والنقاء ومن الفكر فكر الخير ومن السياسة سياسة السلم ومن الإرادة إرادة الحياة والحب ولو بُعِث في زمن القاتل الذي يسمونه جده لوقف ضده ولتصدى له.. فهل هذا هو من نريد التربية على الثأر منه بعد مئات السنين؟!!

لقد تطهر دم الحفيد من دماء الحقد والاستهتار الذي كان قبل ألف وأربعمائة عام.. واستخدام مصطلحات ونحتها على شاكلة "بني أمية" و "أبي سفيان" ومسميات قبلية أخرى في ظل تشوهات العلاقات الاجتماعية ووجود بقايا من مخلفات مفتعلة للروح القبلي  هو أمر يدخل في لغة التربية على تمزيق المجتمع الإنساني وافتعال التشظي والتقسيم بطريقة تثير الأحقاد وفلسفتها وبدل حل العقد ومحوها يجري تثبيتها واختلاقها من جديد!

إنَّ  مواصلة النوم على وسادة تحتضن تحتها سكين الانتقام والصحو على بوق يكبِّر لأحاسيس الحقد والثأر لأمر يحتاج من باحثينا المخلصين، في مجالات علوم النفس والاجتماع والسياسة والفكر، لدراسات تتصدى لجريمة إشاعة حالات العيش بذهنية عقدة الاضطهاد والمظلومية الأزلية الأبدية..

لم يكتب الله لنا أن نحيا في عزاءات دائمة وحزن مستمر بل تؤكد الأديان على الانتهاء من الحزن سريعا والعودة للحياة والعمل والعيش في استقرار وفي مسيرة بناء ووسلم وخير وفرح.. فلماذا يؤكد من يسطون اليوم على الحياة العامة على نصب خيم العزاءات والأحزان ومنع رفع غير أعلام الألم والنواح والعويل وجلد الذات..

مَن من جيل اليوم شارك في قتل الحسين ليجلد ذاته؟ ومن من جيل اليوم شارك في التآمر عليه ليشعر بالخزي؟ وهل أراد الحسين لأحد من جيله أو من الأجيال اللاحقة أن يحيا حزينا متألما نادما؟ أم أنه استشهد من أجل أن يحيا الناس بالخير والسلم والمحبة؟ فلماذا نسمع لنعيق الغربان ونصم الآذان عن غناء البلابل وشدو الطبيعة؟ ولماذا نترك العمل والبناء والتربية على التآخي والتآلف والانسجام والتفاعل الإنساني البنّاء للنصرف إلى التربية الحقد والثأر؟ أليس الثأر مما حرّمه الدين المحمدي ورفضته الثورة الحسينية؟

هل يُحاسب قانون أو دين أو حكمة جماعة إنسانية أم الفرد على ما يرتكب وما يفعل؟ لماذا يريد [البعض] أن ينتقم  ويثأر ويُحاسب ويُحاكم أحفادا بعد 14 قرنا من الزمن؟ هل هذه الفلسفة صحيحة صائبة؟ وإذا كنّا نؤمن بدين يرفض ويحرم لغة الثأر والانتقام فكيف نربي بخلاف ذلك؟ ولنترك الصائب والخطأ لحين معالجة مصيبة فلسفة العقدة والعيش بها وبثافة المظلومية الأبدية.. فهل من الصحي وهل لعاقل أن يحيا بعقدة رهاب القلق من انبعاث قاتل مات من 14 قرنا؟

فإذا جرى الحديث عن قاتل جديد ولكل عصر [استغلالي] قتلته صرنا بعيدين عن لغة الرد الثأرية وصرنا إلى فلسفة علاج الحقد بالحب واسنبدال الضغينة والحرب بالسلم والتآخي.. فما بال السماع نصمها عن أنصار السلم  ونتركها مفتحوة على الآخر لدعاة الألم والحزن والاكتئاب والعزاءات؟؟

بالأمس واليوم وغدا يبقى الإنسان محبا لأخيه ولا جنة بلا ناس ولا خير بلا بشر يعملون ويفرحون ولا حياة بلا أفراح ففي قمة المأساة تزوج وعقد الفرح على الرغم من ألم اللحظة وفي قمة تراجيديا الحياة كان يبتسم أبطال الحرية ويسخرون من دعاة الحزن والألم وفي عمق الجراح كان التحدي الذي يطهرها ويشفيها فكان الفرح وكانت المسرات بلسم الحياة..

العراقي بالتحديد صاحب أغاني الحصاد حصاد خيراته التي جاءت بكده وعمله وصاحب حفلات الغناء والرقص القدسيين حيث معابده التي شادها بقوته وبفضل بنائه الشامخ الراسخ وبقدر مصاعب الحياة وهدمها لجهوده كان كل مرة يعيد البناء ويمضي فيه والعراقي صاحب الأفراح وأغانيها عبر العصور واليوم ما نحتاجه هو وعي بما مر بنا حيث كانوا يخفون أناشيد الفرح والحياة ويسمحون بأصوات الأنين والأحزان والبكائيات ويبثونها ليل نهار في مزيد من الإيغال بإشاعة فلسفة الحزن والكآبة  ووعينا الذي نريده اليوم هو وقف تلك الفلسفة وعقدة العيش بلغة القلق من الاضطهاد والمظلوميات لنحيا حياتنا الواحدة التي لا غيرها لنا فليس لنا إلا حياة واحدة واحدة فقط وواحدة لا غير توكيدا وليس لنا إلا أن نملأها خيرا وفرحا ومسرات وكفانا أحزانا وشجونا وآلاما وأنينا ولنشرع بامتلاك حيواتنا كما نريدها لا كما يخطط لها أعداء الحياة وأعداؤنا...

ولـْنـَنـْتـَهِ مصائب المظلوميات وفلسفة العقد والأحقاد والضغائن والثارات ومن ثمَّ افتعال التمزق والتشظي والاحتراب والاقتتال بين أخوة العائلة الواحدة متذكرين هنا أن العائلة العراقية الواحدة فيها من أصحاب الدين الواحد منَن يعتنق مذاهب مختلفة كأن تكون العائلة المسيحية الواحدة فيها من الكاثوليكي وغيره وفي العائلة المسلمة الواحدة في الشيعي وغيره فما مبرر نحت اصطلاحات التشاحن والاختلاف والتقاطع وتغذية أفكار الانتقام والثأر المحرمة أصلا في الديانات؟

ولماذا قبولنا بتسييرنا من أطراف العنف وتغذية مشاعر عقدة المظلومية الأزلية الأبدية ووساوس القهرية وأزماتها النفسية التي تعدّ وتحضِّر للتطاحن بين الأخوة؟؟!!!

الحل يكمن في واجب أن تسير كرنفالات الفرح في التحرر والانعتاق من نظام الاستغلال والقهر والاستلاب.. الحل يكمن في دراسات سياسية أكاديمية وعلمية نفسية واجتماعية تخص تلك المعضلات والبرامج التي تحملها الأحزاب السياسية ولنكن نحن المبادرين أعضاء تلك الحركات الوطنية والسياسية ومنها الديمية التوجه والطائفية لكي نراجع البرامج جميعا ونضع البدائل الصحية الصحيحة..

الحل أن يرتقي وعينا ونقول لأبنائنا نريد لكم العيش السلمي الآمن المطمئن ونريد لكم نزع الروح الانتقامي الدموي والتآخي ونريد لكم الحريات والحقوق الإنسانية كافة بلا تقليم ولا استلاب.. الحل أن تبدأ الشبيبة والطلبة والنساء والفتية والأطفال حملة عام كرنفال "السلم والحرية في العراق" ولتشترك في اللجنة التحضيرية لهذا الكرنفال كل الأطراف وللذي يرى أنه قادر على تحريك جمهور الشارع أن ينهض بمهمة التحشيد الجماهيري لأكبر لقاء شعبي اسمه"كرنفال السلم والحرية في العراق" وهو الكرنفال الذي يجب أن ينطلق بكل القوى موحدة بلا شعار ولا رداء ولا لافتة غير لافتة  السلم والحرية في العراق وغيرها لافتات الفرح والمسرة والاحتفال والاحتفاء بكل ما يعيد للعراقيين حقهم في الحياة الحرة الكريمة..

ولتجرِ في كل مدينة وفي كل مدرسة ومصنع وحقل وقرية ومحافظة وإقليم تمرينات أولية لذياك الكرنفال الذي ينتهي بأكبر احنفالية عالمية يقيمها العراقيون ضد الدم والإرهاب والعنف والضغينة والحقد والاختلاف، ليدخلوا بقرار شعبي سياسة جدية مسؤولة جديدة تفرض على كل الأحزاب والحركات والزعامات إرادة الشعب صاحب أول أغنية فرح أنشدتها الإنسانية في أول كرنفال إنساني للعمل والرزع والبناء ولحصاد ثمرات التعب والجهد المنتج خيرا ورفاها إنسانيا..

لكل عراقي الحق في كل أمر إنساني ولكن على كل عراقي واجب تجاه هذا الكرنفال الذي سنمحو فيه ما يفرضونه علينا من مآتم وأتراح وأحزان وعزاءات ومظالم فلننته من كل تلك الآلام ولنبدأ لأبنائنا رحلة حياة سعيدة جديدة بدل أن نترك لهم التخلف والألم والحزن.. فهل نحن فاعلون؟ أثق بأن إرادة الحياة أقوى وأبقى وستنبعث مشرقة بشمسها الساطعة محبة وسلما وعملا وبناء... وذلك بديلنا الذي نضعه في برامج اتحاد الطلبة واتحاد الشبيبة ورابطة المرأة وأحزاب الربيع والحياة في عراق المجد الحر وشعبه السعيد على الرغم من كل الخطوب......