سنديانة الصحافة الشيوعية العراقية تورق في زمن العواصف

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2006/07/31

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

واحدة من علامات العراقيين أنَّهم شعب يقرأ بشغف كبير. وهم يبحثون عن الكلمة بحثهم عن لقمة العيش، الأمر الذي مهَّد لأجواء قوية لرحلة الصحافة العراقية حتى في زمن العتمة وإهمال الحكومات المتعاقبة لمحو الأمية الأبجدية وللتعليم عامة في العراق.. فكان العراقيون لا يتوانون عن شراء الصحيفة ووضعها بأيدي مَنْ يسطيع القراءة منهم متطلعين لكل خبر أو نصّ أدبي أو ثقافي أو فكري أو سياسي أو اجتماعي أو لبيت شعر يلخص حكمة أو رأيا أو موقفا يمثل رؤاهم الحياتية...

ومن هنا فقد توجهوا للبحث عن تلك الصحف التي كان يتمّ توزيعها في الخفاء حيث الكلمة \ الحقيقة في ظروف مطاردة شعواء من سلطات تعاقبت على أجواء البلاد والتسيّد على رقاب العباد مقابل تلك الكلمة المداهِنة أو الكلمة المزيفة التي كانت تحاول إشاعة التضليل والتعمية على مجريات الأوضاع العامة... وهكذا كانت صحافة الحكومة والشركات والملاكين تتراكم في الأكشاك بمرتجعاتها المتضخمة فيما الصحف السريّة يتم تناقلها والتهامها وإعادة نسخها وتوزيعها في ضواحي الفقراء وحتى في الأرياف القصية...

وكان من أبرز تلك الصحف التي صدرت مذ الربع الأول من القرن العشرين هي الصحافة الشيوعية بما كانت تعبر عنه من مطالب كادحي العراقي من العمال والفلاحين والكسبة والمثقفين... وكان أبرز لوامع تلك الصحف التي انتشرت بين أيدي القراء هي الصحيفة الشيوعية الأولى التي صار يُحتفى بصدور عددها الأول عيدا صحفيا بارزا بعد عيد الصحافة العراقية ذلكم هو يوم صدور جريدة كفاح الشعب في الحادي والثلاثين من تموز يوليو 1935...

إنَّ الاحتفال بعيد الصحافة الشيوعية ليس احتفالا عاديا محدودا خاصا بالصحفيين، بل هو هو احتفال يتسم بالسعة والمشاركة الشعبية وبكونه احتفالا كرنفاليا جماهيريا تجري فيه ندوات فكرية سياسية وأنشطة اجتماعية وفنية إبداعية فضلا عن مناقشة أعمق مشكلات الواقع العراقي وظروفه المخصوصة في إطار من التفاعل بين مختلف وجهات النظر الشعبية ومستوياتها بسبب من تفتح الصحافة الشيوعية على تمثيل تلك الرؤى المتعددة المختلفة..

لقد عبرت صحافة مثل كفاح الشعب 1935 و جريدة الشرارة نهاية عام 1940  فجريدة القاعدة الصادرة مطلع 1943 عن أجواء الحرب الكونية الثانية ومطحنتها التي دارت بأيدي تجار الحرب على كواهل أبناء الشعب.. وواصلت تلك المسيرة صحف أخرى رفعت الصوت عاليا بفضح الجرائم المرتكبة بحق مصالح العراقيين ومطالبهم مثل: صحف العمل في العام 1944 و وحدة النضال والنجمة والاتحاد وشورش وجريدة الأساس وجريدة العصبة الناطقة باسم عصبة مكافحة الصهيونية بإشراف المحامي الشهيد محمد حسين أبو العيس فقدمت تلك المسيرة الصحفية ليس الزاد الخبري الثقافي حسب بل قدمت شهداء قرابين في مسيرة الشعب الكفاحية...

لقد شاع في الذاكرة الشعبية علاقة مباشرة بين كلمتي ثقافة وشيوعية وصار ذكر الشيوعيين يعني ذكر مصدر جوهري اساس وغذاء روحي للثقافة الشعبية العراقية.. كونهم كانوا الزاد الحقيقي للتعليم والتثقيف عبر أنشطتهم التنويرية  الممثلة لرؤى البسطاء وتصوراتهم وتطلعاتهم. ومن هنا كانت الأيدي تتلاقف صحفا أصدرها الشيوعيون في إطار من عمق اهتمامهم بالثقافة والإعلام حتى وهي صحف داخلية مخصوصة بالحزبيين من مثل الإنجاز و مناضل الحزب ونشرات أخرى صدرت في السجون مثل كفاح السجين الثوري 1954\1953..  وكان لصدور راية الشغيلة 1954  بشعار سلم وطيد.. وطن حر وشعب سعيد ردود فعل جدية على مستويات متنوعة كثيرة..

وقد لخَّص التطورات الضخمة للقاءِ بين الجماهير الشعبية ورؤى الشيوعيين الثقافية والسياسية حجم الاستقبال والدور المميز لجريدة اتحاد الشعب التي وُلِدت في 22 تموز 1956 وصارت بُعيد ثورة 14 تموز الجريدة الجماهيرية الأولى الأوسع توزيعا وانتشارا فكانت مدرسة صحفية غنية أثرَت الحياة حتى تغنَّت ألسنة الناس بإيقاع الأغنية الوطنية  [هيلا يا أبو جريدة] لشدّ العزم وتقوية الشكيمة مذكرين هنا بالشهيد عبدالجبار وهبي (أبو سعيد) ودوره في تلك العلامة الصحفية الشعبية المشرقة..

إذن هذه هي الصورة العريقة للصحافة الشيوعية العراقية.. إنَّها هناك حيث القراءة على أضواء الشموع الخافتة و"الفوانيس واللالات" تتم بأجواء سرية تامة ولكنَّ شعاع الحقيقة المستمد هنا بقي ينير ليل العراق ويشيع الأمل في أنفس العراقيين ويعيد الثقة ويلفّ الجموع حول شعارات العمل الأهم في كل مرحلة بعينها.. فجاءت  طريق الشعب  لتشكل المتابعة المشرِّفة لتلك المسيرة الرائعة والعلاقة الوطيدة بين الجماهير والصحافة الحقة المعبرة عن صوتها وتطلعها...

لقد كانت جماهيرية طريق الشعب قد تأتَّت من احتضان أوسع الأصوات المتنوعة المختلفة تجسد عبرها صوت من لا منفذ له ولا من يمنحه فرصة التعبير الجدية التي لا تخضع للتشويه والتأثيرات المرضية.. فمثلت الصحف الشيوعية بهذه السمات مسيرة توطيد لغة الديموقراطية في الحياة العامة مثرية تلك المسيرة بتجاريب تعمَّدت بدماء شهداء الصحافة الذين استرخصوا حيواتهم من أجل حياة كريمة مستقرة..

لقد أرعبت تلك الصحف المناضلة أعتى فاشية دموية حكمت العراق بالحديد والنار كما سلطة البعثفاشية وعصاباتها التي تحولت لسلطة الدكتاتورية وإرهاب دولة القمع طوال العقود الماضية... وكانت دوريات طريق الشعب وأسبوعية الفكر الجديد ومجلة الثقافة الجديدة الأساس الأكبر للتعبير عن مطالب العراقيين بدءا من أبسط مقوِّمات الحياة اليومية وتفاصيلها وحتى أبعد تلك المطالب وأوسعها كقبادة التحول السياسي من الدكتاتورية إلى الديموقراطية ما كان سببا لكون طريق الشعب أول صحيفة تصدر وتتداولها الأيدي بعد الإطاحة بالطاغية مباشرة...

     إنَّ من يحتفل اليوم بعيد الصحافة الشيوعية العراقية ليس الصحفيون العراقيون وحدهم بل يحتفي بهم كل أبناء عراق الحضارة والسلم والديموقراطية الذين يستذكرون بفخر واعتزاز مسيرة نضالية حافلة وسجل تاريخيا للصحافة الشيوعية مؤكدين تلك الرصانة والموضوعية ممثلة في تجربة ثرّة غنية لمسيرة تلك الصحف النجوم اللوامع في حياتنا العراقية.. ويسجل المحتفون بالعيد الصحفي الأبرز سمات تنوع الأصوات الوطنية المعبَّر عنها في تلك عيد صحافة اليسار الديموقراطية على اختلاف المشارب من أقصى اليسار إلى أعماق الاتجاهات السياسية والفكرية الأخرى..

وهم إذ يتذكرون بكلّ إجلال قرابين الصحافة الشيوعية الذين ارتفعوا بمطالب الشعب شهداء خالدين في قلوب جماهيرهم  يرون في كوكبة الشهداء وحاملي قلم الحق ونبراسه اليوم، يرون فيهم المنار الهادي للجيل الجديد وهو يواصل مسيرة العطاء عاقدا العزم على الوفاء الأكيد لمبادئ صحافة حرة نزيهة مدافعة عن قيم الشعب ومبادئه...

اليوم يقرأ العراقي الكلمة التي تعني اسمه وتعني مطالبه وتعني تطلعاته وتعني حاضره ومستقبله وهو يتابع بشغف تجاريب سبعة عقود من الكفاح والتفاني في خدمة الشعب والوطن حيث تورق سنديانة الصحافة الشيوعية العراقية في زمن العواصف وتثمر في زمن العقم وتقاوم كل محاولات قوى الإرهاب في التعتيم وفي إشاعة الظلمة والتضليل الجاري بأموال طائلة وراء  (ما يسمونه صحفا) المصنوع المزيف الذي يحاول إغراق الكلمة الحق معبر عنها في الصحيفة الجماهيرية طريق الشعب.

ولكن هيهات من تضليل شعب عاش جيلا بعد آخر على صلة وطيدة مباشرة مع هذه الصحف الشعبية والشعب هو من يؤكد مصداقية ذاته ويُعلي شأن أبنائه المكافحين في طريق الحقيقة التي لا حياد عنها إلا بتحقيق كل تطلعات جمهور شعبنا العراقي وهو يصبها في صحيفته الأولى نجمة الجبل والسهل إنَّها طريق الشعب.. الجريدة التي لا تتوقف عن قراءة خططها الصحفية في ضوء أصوات الناس  ومطالبهم وهي التي لا تتوقف عن مواصلة طريق الدراسة العلمية المتخصصة التي تهضم كل التجاريب العالمية الإنسانية لتضعها في خدمة تجربة طريق الشعب وكل الصحف الشيوعية العراقية ولتقدم بأفضل الصيغ الإعلامية وأرقى مستويات تجاريبها وتقنياتها كلمة الحق تامة كاملة واضحة مجلجلة تهدر بصوت البسطاء المحرومين محققة مطلب التعبير الحر بعيدا عن التزييف والتضليل والدجل.. وهنا فقط يجد القارئ نفسه حيث يعود ليقرأ أصابيح الحياة العراقية الأصيلة...

وبثقة عالية سيلتقي القارئ اليوم بكل حفاوة وتكريمِ بيوم الصحافة وعيدها وستقول الجريدة أنها وزعت اليوم بلا مرتجعات وأنَّ طلبا أكبر على نسختها وأن أصواتا جديدة تكتب فيها ودماء حية وقلوبا نابضة تنشد بأغانيها من جديد ولا يرى الناس أبا جريدة إلا في مَن يوزع طريق الشعب ويسير على هدى ضيائها مع فجر جديد وفكر جديد وثقافة جديدة في عراق جديد عراق تعددي تداولي متنوع الأطياف ديموقراطي فديرالي موحد يجمع الجبل والسهل في أخوّة أزلية أبدية تحيا بالمحبة والوئام والسلام..