كلمات في رمضان: نمطية العقل بين سلطة الرتابة وسطوة التكرار؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

26 2006/09/

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

يحتاج المرء منّا أن يخلو لنفسه في حالة من الهدوء والسكينة بخاصة عند سماع أداء بعض الإيقاعات أو النغمات الموسيقية أو التراتيل والأناشيد وحالات التغني المرفقة بالقص والاستذكار لواقعة أو حكابة بعينها.. وتحقق حالة الإنصات والاستماع كثيرا من أهدافها النفسية الروحية كونها مفردة من مفردات الغذاء الروحي والحاجات النفسية التي تتوافق مع البناء الذي وُجِدت فيه الشخصية الإنسانية.. ومن هنا كان تأثير الأوبرا في زمن بعينه ومكان بذاته إذ تربى الناس في ذاك الزمكان على نمطية محددة فاستجابت لتلقي الأوبرا براحة نفسية تامة..

ومثل ذلك حداء البدوي ومواويل الريفي ودبكات أبناء السهل والجبل ومثلها الالتفات بانتباه وتأثر عميقين إلى شجن الأداء في استذكارات الصوفية ومواليدهم وفي عزاءات ومقاتل صارت جزءا من الذائقة السمعية ومن جماليات التلقي بما يُشعِر براحة وتفريغ نفسي في حال الاستماع لتلك الأداءات وهو ما يمكن قراءته في أي تجمع للنسوة والملاية التي تقرأ عليهن بإيقاعها المعروف وفي أي تجمع لمواكب طقوس التعزية المشهورة في بلدان الشرق العربي..

إنَّ مسألة شيوع إيقاع بعينه بخاصة في حال التهادي والرتابة والتكرار ما يحيلنا إلى قراءة السبب الذي يقف وراء حالة تلقيه براحة نفسية حيث نعرف أن جماليات التلقي تعود في بعض ما تعود إليه إلى مسألة التوافق والتناسب والتوازن وهذه أمور تنسجم مع حالة توليدها المبنية على تكرار الاستماع إلى إيقاع بعينه حتى يُصبِح لازمة نفسية بل حاجة ثابتة يتطلب تحقيقها بين الفينة والأخرى..

المشكلة هنا ليست في نوع الإيقاع وطبيعته (الحزينة مثلا) فالحزن ذاته جزء من الطبيعة الإنسانية وحاجة نفسية يتم عبرها وعبر آليتها تفريغ الشدّ والتوتر بطريقة أو آلية  مطلوبة بحسب شروط بعينها.. المشكلة في الجوانب السلبية لحال التنميط حيث ثبات التوصيف وتكراره بطريقة تفرض القسر بآلية الاستلاب والاستبدال والإحلال حيث يتم استلاب مكونات الشخصية الإنسانية من جهة قبول التنوع والتعدد والتلون واستبدال الطبيعة البشرية الغنية بحالة الأحادية وبالتحديد منها غلبة طابع الحزن الثقيل وتطبيع الشخصية عليه بإحلال سمات التفاعل النفسي بروح القبول والتوافق لا الرفض للنمطية وسياقها..

ومن نافلة القول أن نقول: إنَّ شخصا من دول التقدم التكنولوجي لا يمكنه الانسجام مع إيقاعات طقوس التعزية بمثل العقل النمطي الذي أُكرِه على الاسترخاء بسلبية لتقبل حالة ثابتة أحادية عبر تطبيعه بسلخ شخصيته الإنسانية الثرة الغنية.. وعلينا هنا أن ندرس بالتفات ونباهة وبوساطة علماء النفس والاجتماع العراقيين حالات التنميط التي جرت على الشخصية العراقية بخاصة تلك شخصية الإنسان العادي البسيط امرأة أو رجلا ولو أن المرأة تعاني من أشكال التنيط التي تكاد تشل عقلها وتحجب عنه نور الفعل وحيوية الحركة وروح الوجود الإنساني القويم..

لقد وُلِد الإنسان حرا صفحة بيضاء صحيحة وهو ما تؤكده الديانات الإبراهيمية والأيديولوجيات والفلسفات الإنسانية المختلفة. لكن المشكل يمكن في كيفية بناء منطقه العقلي وفي مجتمعنا سادت طوال العقود الخمسة المنصرمة حالة من الاستبداد والترويع والهلع الناجم عنها وهذه كلها عوامل أساس في إ‘داد الشخصية لسلبها من قيمها وغناها الروحي.. وجاء هذا من طبيعة السلطة السياسية التي ظلت متعاقبة تقوم على دكتاتورية متنامية متصاعدة حتى دخلت سلطة الدكتاتورية وماكنتها الدولتية لتدخل لا بين الزوج وزوجه بل بين الفرد وذاته فصار الرقيب الداخلي يتحسب لكل نأمة فيحظرها ويمنعها حتى تُقتلع وتُمحى من الشخصية ليبقى الإطار الفارغ الخالي محشوا بإرادة السائد طغيانا وبهتانا..

وهناك سلطة دكتاتورية القيم الاجتماعية المتولدة عن مثل هكذا نظام وهي عادة ما تكون ارتدادا ورجوعا إلى ماضي الظلام والضلال نقوصا وانتكاسا بسبب من الاستلاب القيمي ما أدى إلى خواء الشخصية الاجتماعية وعزوفها عن الوجود الاجتماعي الراقي السامي وصرنا أمام أداء مرضي لحركة العلاقات الاجتماعية الجمعية والفردية..

وبهكذا تفريغ لا يتبقى سوى التنميط الأحادي للمنطق العقلي السائد وهو الأفق الذي يحجر على العقل البشري ويحدده بقيود وشروط فيما الأفق النفسي المشدود لا يُتاح التفريغ من توتره المستمر إلا عبر آليات [سلبية] في بعض أوجهها المعنى الذي نشير فيه إلى آليات تعتيم حيوات الناس وجعلها لا تسترخي إلا على إيقاعات بعينها عادة ما تكون إيقاعات رتيبة للحزن وتذكر   كل ما يحيل إلى الأسى والألم...

إنَّ عامل التكرار المتصل المستمر على مسمع الطفل وهو ينمو وعلى مسمع الفتى وهو يكبر والشاب \وهو يستقر على حالة بعينها  هو المقدمة التي تخلق أسس التوافق بين الشخصية وبين استقبالها لحن الشجن الحزين وإيقاع الرتابة الذي يُثقل كاهل الذات من دون أن تدري فيما مظهر الإحساس أنها ذات تفرّغ  أشجانها وآلامها.. وتلك أمور تعود إلى اختلاق حالة تنميط العقل وحجره في قوالب ثابتة رتيبة مكرورة..

ومن هنا فليس لنا اليوم في معالجة الأوضاع العامة أن نحرم مجموع جيل اليوم من معايشة حالة التوافق مع الشجن ولكن من الضروري أن نُوجِد وسائل جدية مناسبة لتنشيط الذاكرة الجمعية لتفعيل غنى الشخصية الإنسانية ثقافة ومنطقا عقليا يرفض الاستقرار والركون للرتابة وقبول التكرار الذي يستلبنا وجودنا البشري الحق.. ولابد من التعاطي مع قيم التغيير التي لا تصطدم مع الذائقة بقدر ما تعمل على شفائها من النغمة الأحادية بعنايتنا بتنوعات نغمية وبإيقاعات متنوعة وبتدريج قيمي جمالي يعيد للبنية النفسية الروحية العراقية حيويتها البعيدة وعمقها لا الانفعالي المحدود المشروط بل الوجداني الإنساني الثر المعتمد على الفاعلية ومنطق العقل المتمدن لا رد الفعل المتفجر المتطرف..

ومن هنا أجدني في أجواء رمضان ونفحاته الطيبة أدعو لتنويعات روحية نفسية بموسيقا الشروق والفرح والعمل والحركة والتغيير وهو ما ينتظر الفن العراقي ومبدعيه صورة صوتية تداعب الروح العراقي المنعتق للتو من أحادية الطغيان ولا ينبغي أن نسلمه لطغيان من أي نمط يُدَّعى بخاصة الاستلاب المغلف بادعاءات دينية مذكرين هنا بأن الديانات عُنيَت بتوكيد غنى النفس البشرية وتنوع قيمها الجمالية النفسية الروحية وثرائها ومنعت حجرها ودعت لانطلاقها في فسحة إعمار كل شيء والروح الإنساني فوق الأشياء وسيدها بلا منازع..

فلنرفض تنميط العقل وحجره وتقييده ولنبدأ ستراتيجنا للتنوير العقلي الروحي ولنبني شخصيتنا هيوتنا العراقية كما كانت في جذورنا الحضارية السامقة نورا مشعا وغنى روحيا لا يتقيد بمنطق الاحتباس والاستلاب والمصادرة وفرض قيم أحادية مشروطة.. ونحن أدرى بأنفسنا وحاجاتنا التي لا يجب تركها بعد اليوم رهينة حبيسة بلون ونمط يجلدنا فنتلذذ بألمنا وكربنا وحزننا.. ولنتنطلق حناجرنا بمعزوفة التنوع ضد التنميط والرتابة وسقم تكرارِ نواحِ ِ جائر يقتل فينا ما أودعه الله من جمال وخير وحيوية...

ولنا ملتقى في أمسية رمضانية كريمة أخرى...