الحزب والناس والديموقراطية والعراق الجديد؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

26 2006/09/

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

مرَّ العراق بتعاقبات بين فسحة لا تشكل أكثر من كوّة ضيقة للممارسات في الحريات السياسية وبين مقصلة طغيان الدكتاتورية المقيتة. وفي جميع الأحوال عرف العراقيون كيف يعبرون عن مستويات تطور وعيهم السياسي ونضج التجاريب الوطنية والطبقية وتنامي أداءاتها المؤسساتية. ومن ذلك تلك التوجهات التي أجمع عليها العراقيون في تحقيق الديموقراطية بوصفها الآلية التي تعزز وحدتهم الوطنية المهددة والمتنفس الذي يفسح لهم حرية التعبير الحقيقية بعيدا عن استلابهم حقوقهم المشروعة..

ولقد ناضل العراقيون بطبقاتهم الكادحة بالتحديد، من أجل مطامحهم وتطلعاتهم.. ومضوا في طريق الانعتاق بثبات وتمسك بمنطلقات وطنية وطبقية في مسيرة معقدة لا هوادة في معركة الأمل والتحدي. وعرفوا كيف ينظموا أنفسهم في جمعيات ومنظمات وفي أحزاب سياسية منذ بواكير القرن المنصرم فكانت ولادة الحزب الشيوعي العراقي وتأسيسه حدثا مميزا في الحياة الوطنية العراقية. إذ عبر ذلك عن عمق الوعي الطبقي والوطني وعن حجم التحدي الذي حملته الفئة الواعية المتقدمة من أبناء شعبنا..

ومصداق تمثيل تاسيس الحزب الشيوعي العراقي لدرجة الوعي المتقدم لدى أبناء شعبنا العراقي وفئاته الكادحة هو التسارع الكبير لنمو الحزب وتوسع جماهيريته وقيادته أبرز المعارك السياسية منذ ثلاثينات القرن الماضي وتسيّده الساحة السياسية في الأربعينات حتى بات يشكل تهديدا ستراتيجيا للسلطة الحاكمة ما دعاها لأعنف حملة تُشن على حزب سياسي عندما أقدمت على إعدام قادته وزج رفاقه وأنصاره في السجون..

ومن هذه العلاقة المتينة بين الحزب الشيوعي والناس المبنية على مصداقية برامجه وتعبيرها عن طموحاتهم وأهدافهم  جاءت توصيفات المجتمع العراقي لكون الشيوعيين الأكثر ثقافة ووعيا فصاروا يعودون إليهم في تساؤلاتهم واستفساراتهم وفي مفردات ما يستفهمون عنه وعن الحلول الناجعة له وخلّدت الذاكرة الشعبية العراقية حتى يومنا هذا من بسطاء العراقيين ورجال الدين وشيوخ العشائر وحتى العلماء والأساتذة والتكنوقراط، خلّدوا حقيقة تقدم الشيوعيين ثقافة وامتلاكهم مفاتيح التحليل الموضوعي الدقيق للمشكلات ولحلولها...

وكان ما يعضّد هذه الحقيقة التفاعل الوطيد بين الناس والشيوعيين والتفافهم حولهم وانتظار ما يقدمونه في مسيرة العمل الوطني والطبقي.  بخاصة عند استقراء الشيوعيين لرؤى الشارع السياسي والاجتماعي واستفتائهم لأصوات الناس في برامجهم وفي قراءاتهم الواقع وفي مقترحات الحلول التي يأتون بها..

فحتى في أشد الظروف قسوة في المطاردات البوليسية الدموية التصفوية كان الشيوعيون لا يتوانون عن استقراء رؤى الناس قبل أن يخطوا مفردات برامجهم. وعلى هذا التأسيس نجدهم اليوم بوصلة المسيرة الصائبة ورايتها الخفاقة من أجل غد أفضل.. لقد قدم الشيوعيون برامجهم وتصوراتهم معروضة على مجموع العراقيين والجيل الجديد من أبناء العراق الذي ظل مسلوبا صوته ينبغي له في أول تجربة ديموقراطية أن يشارك في قراءة نصوص البرامج ومفرداتها لأنه يملك حق تدقيق ومراجعة برامج الأحزاب التاريخية العريقة التي مثلت وتمثل مسيرة الوعي السياسي الوطني العراقي.ز

كما أن الحزب الشيوعي العراقي يعتقد أنه مطالب بتقديم برنامج وطني ديموقراطي يعني مجموع أبناء شعبنا في المرحلة الراهنة وهو ما يعني ظاهرة مهمة في فرضية مشاركة وطنية ديموقراطية واسعة في مراجعة البرنامج الوطني الديموقراطي انطلاقا من كون الديموقراطية تتأسس أولا وقبل كل شيء على المشاركة الجدية الفاعلة في رسم خارطة طريق الحياة العامة ومتغيراتها وتطوراتها..

وإذ يُفسِح الحزب الشيوعي العراقي فرصة وافية لجماهير الشعب وفئاته ونخبه للمشاركة في قراءة برامجه فإن ما يتبقى يكمن في الارتقاء لمستوى المسؤولية لكل صوت عراقي لكي يقول كلمته في الخطة السياسية للحزب وفي التصورات والمعالجات التي يقترحها.. وعلى مجموع القوى السياسية الأخرى أن تبدي رؤاها ومعالجاتها وتتبادل التصورات من أجل إنضاج المشروع الوطني الديموقراطي في ظرف دقيق يحتاج للمشاركة الفاعلة من مجموع القوى الوطنية..

إن تلك المشاركة ستعني بالتأكيد تصويتا صريحا ليس للحزب الشيوعي العراقي بوصفه حزبا عماليا اشتراكيا بقدر ما يعني وضع أصابعنا جميعا على الجرح وعلى وسائل العلاج في زمن تشتد الهجمة على أبناء شعبنا. والعاقل منا يعرف أنه من دون التفكير الجمعي ومن دون التشاور ومن دون توحيد الجهود ومن دون التفاعل الجدي المسؤول لا يمكننا أن نخطو باتجاه استقرار أوضاعنا وسنمنح قوى الإرهاب فرصا إضافية للضرب فينا ومزيدا من الخسائر  والتضحيات من شعبنا..

كما إن أية فئة تبقى بلا مرجعية وبلا رأس وبلا برامج دقيقة وخطط ترتقي للمسؤولية لن تحظى بمطمح لها فكيف بنا ومطامحنا اليوم ليست أقل من بناء العراق الجديد العراق الديموقراطي الفديرالي الموحد.. لا يمكن هنا إلا أن نمضي في حوار واسع ومناقشات عميقة وتشريح مسؤول لكل فقرة لنصل إلى نتائج مرتجاة لا نلقي بعدها اللوم على جهة أو فئة أو جماعة بل لننخرط في العمل الحقيقي ونخطط سويا لبرنامج وطني ديموقراطي شامل ونطلب يومها من الحزب ورفاقه أن يمضي بنا في مسيرة تنفيذ البرنامج الذي نضعه نحن العراقيين لا غيرنا ولا فئة محدودة منا بل مجموعنا مجتمعين..

إنَّ الحزب الشيوعي العراقي إذ يقدم مشروعه الوطني الديموقراطي في وقت يعلن بوضوح أهدافه البعيدة الستراتيجية في تحقيق العدالة الاجتماعية  بأسس الاشتراكية، إنما بفعله هذا يرى بنضج ما يمكن الحديث بصدده اليوم وما يُجمِع عليه أوسع فئات شعبنا وما تفرضه وقائع راهن يومنا من متطلبات محددة بالمشروع الوطني الديموقراطي..

وعليه فسيكون لدخول رؤى مختلفة أيدولوجيا وفلسفيا في مناقشة برنامج كهذا توكيد لقصدية التفاعل والوحدة الوطنية وسيكون هذا مؤشرا جديدا لعمق تمسكنا باحترام الآخر رؤية وفلسفة سياسية ومن ثم تبادلنا التصورات والتفاعلات الإيجابية بما يعزز من تربية جماهيرنا على مسيرة الديموقراطية الحقة التي ننشدها..

أما منع قوانا من المشاركة في مناقشة برنامج وطني فيعني أن القوى التي تمنع ما زالت تحيا بعقلية منقوصة في خلفيتها الفلسفية للديموقراطية أو أنها تعزف على وتر خدمة أعداء العراق الجديد أعداء طموح شعبنا في التعامل مع مبادئ الديموقراطية بمصداقية تامة وبروح الشفافية والوضوح..

إذن ننتظر اليوم أوسع حملة وطنية على مستويات الإعلام والفضائيات العراقية للارتقاء بمهمة العمل الجمعي الواسع ومن الصحافة العراقية بمختلف توجهاتها أن تعلن مناقشتها ورؤاها للبرنامج الوطني الديموقراطي المقترح كما ننتظر من المنظمات والجمعيات والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني عقد جلساتها بالخصوص وإبداء رايها الواضح الصريح المباشر ولكل حقه في عرض رؤيته..

أما الجهة المؤملة بالتأكيد لمناقشة حاسمة وفاعلة فتقع شعبيا على عاتق نقابات واتحادات الشغيلة ونخبويا على الأكاديميين المتخصصين لكي يُعمِلوا تشريحهم الدقيق للبرامج والمفردات المقترحة ولينتهوا إلى نتائج جدية مسؤولة ومعالجات ترتقي لطموحات أبناء شعبنا في أحزابهم التي تشكل العلامة الأهم في مسيرة تحقيقهم دولتهم المؤسساتية الجمعية التي يُخترم فيها الإنسان وحقوقه ووجوده ومطامحه..

ومن جهة الشيوعيين أنفسهم عليهم تقديم أبعد جهد للوصول إلى أبعد القرى والقصبات وأبعد الناس وألا يركنوا لانتظار أن تأتيهم الرؤى والملاحظات بل أن يؤكدوا مسيرة الرواد من مؤسسي الحزب الذين قادوا الشارع السياسي العراقي ويذهبوا بأنفسهم إلى أبعد صوت ولابد من جلسات مهمة للحوار مع الأكاديميين والتكنوقراط المتخصصين من مختلف التوجهات قبل أن يدخولا قاعة  مؤتمرهم الثامن بمطأنينة لرصد الواقع بكل دقة وموضوعية وموفقية..

فهل ستشهد الساحة السياسية بمؤتمر الشيوعيين نقلة نوعية في المشهد الراهن.. أم يفوّت العراقيون والشيوعيون الفرصة لصالح أعداء المشروع الوطني الديموقراطي؟