العراق وكف العفريت ومحددات الحاضر والمستقبل؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

27 2006/09/

E-MAIL:  tayseer54@hotmail.com

 

 

1.    الوضع العراقي وأمراض الماضي ومخلفاته السلبية

 

مع كل مجابهة لموضوع مصيري في العراق تطفو حالة من التوتر والتأزم السياسي. وهكذا سارت وتسير الأمور في ظل ظروف انطلاق مسيرة الانعتاق والتأسيس لدولة  محا أرضيتها نظام دام أكثر من ثلاثة عقود.. وفي ظروف وجود مركب متناقض في قمة الهرم السياسي الجديد بعض عناصره تجهل آليات العمل المؤسساتي أو تتشوش عندها مفردات العمل الديموقراطي، هذا فضلا عن حالات الاختراق وتبعية عناصر معينة لتأثيرات قوى إقليمية ودولية مختلفة المصالح والمطامع..

ولأنَّ العراق في حال من التأسيس لمفردات مؤسسات دولة جديدة تماما ولأنه مُحارَب في محاولاته توفيرمتطلبات رحلة التأسيس وبسبب من اختلاف أجندات بعض القوى المعنية بإعادة هيكلته وإعداده عن أجندات الحاجات الحقيقية للشعب العراقي ولمؤسسات دولته الوليدة، فإننا أمام مشهد يكاد يمضي في ظل مزيد من آلام الفوضى والعوَز للتخطيط الستراتيجي والتكتيكي اللذين يأخذان بمصالح الشعب والوطن..

والكارثة تبدأ من وجود شخوص في هرم الدولة بعضهم لا يملك أوليات معرفية تكفيه لحل مشكلاته الشخصية فكيف بنا وهو يمتلك أمر القرار بشأن تسيير أمور دولة بحجم العراق بكل عمقه التاريخي وتنوعات تركيبته السكانية! وتتأكد من جهة أنَّ من جاء بكثير من تلك الشخوص عقود نفعية بين إدارة [ومرجعية] القوات الأجنبية وتلك الشخوص التي جاء عديد منها لمنافع ونوازع فردية بحتة.. ومن الطبيعي أن تأتي تلك العقود بأجندة تنفذ التصورات والخطط لتلك المرجعيات الدولية ولمرجعيات إقليمية فُسِح لها المجال لتأخذ مكانة خطيرة في توجيه الوضع العراقي..

ومن الصحيح هنا أيضا أن نقول: إن الإرادة الوطنية العراقية ليست خالية الوفاض بل هي من الثقل ما جعلها تتقدم حثيثا في إطار تشكيلات الدولة العراقية على مستويات كبيرة ومهمة ومن ذلك تطويرها العملية السياسية باتجاهات تفعيل دور القوى حاملة الأجندة الوطنية وتطوير أداء المؤسسات الوطنية تدريجا.. وعمليا نحن لا نمتلك إلا خيار السير في هذا النهج الوطني للعملية السياسية من أجل تطهير مؤسساتنا وتعميد دولتنا بنهج وطني عراقي الهوية والهدف.. في ظرف هزيمة الدكتاتور ونظامه القمعي ومجيء ظرف مؤاتِ ِ تاريخيا لعمل التغيير الجذري على أسس وطنية ديموقراطية.

في هذا الوقت بالذات يحاول أعداء العراقيين خلط الأوراق بمزيد من دفع الأوضاع نحو سطوة قوى الإرهاب من جهة والإبقاء على مكانة مميزة لجهاز الفساد الإداري والمالي على أعلى المستويات إلى جانب اتهام كل وطني وبرامجه بأنه من النظام المدحور وبقاياه أو من جهات معادية للشعب ومسيرته الجديدة!؟ غضلا عن فلسفة التخوين هناك فلسفة الخانات المسبقة التي تضع قطاعات بعينها خارج العملية السياسية من دون النظر لواضع الحال فيما إذا كان بالإمكان بل من اللازم لحل مشكلات عديدة إقفال بعض الملفات الثانوية اليوم أمام ملفات التهديدات والمخاطر المتفاقمة...

ويلزم هنا التوكيد على خبث أساليب الاتهام الجاهزة من نمط تهمة بعثية الانتماء التي تعني عمليا تسقيط الشخص بمجرد توجيه التهمة على وفق نظرية عاشها شعبنا طويلا في ظل النظام السابق عندما كان يريد الشطب على شخصية يتهمها بالعمالة والخيانة والتبعية لطرف ما وينتهي من الشخصية بالتصفية!! وتحولت اليوم هذه الأداة من يد نظام دموي استغلالي بشع إلى يد عناصر في أجهزة الدولة الوليدة أو عناصر اخترقت مؤسساتنا وحياتنا السياسية وراحت تستخدم التهمة كيفما اتفق في محاولة لإشاعة الارتباك والتقاطعات وعرقلة المسيرة السياسية..

المشكلة أن بعض قوى العراق الجديد من شخصيات [بعينها] تستخدم اللغة نفسها من حيث تدري وتتقصد لرؤية ما في تخطيطها وسياستها المخصوصة أم من حيث لا تدري ولا تقصد إعادة إنتاج فلسفة النظام السابق سوى أنها تجهل ما ترتكب من استخدام أدوات مرضية تنتمي لزمن ينبغي تطهير أوضاعنا من رؤاه وأدواته المعنية هنا.. ومثل هذا الأمر يتطلب عملية تربوية بعيدة المدى عميقة التأثير...

وما يتعلق بمشكلة لغة الاتهام المتعارضة مع منطق الديموقراطية وآلياتها بالتحديد التهمة الجاهزة ببعثية شخص أو آخر  ومن ثم تسقيط ذاك الشخص  بمجرد الاتهام، يلزم أن نراجع مبدأ الاتهام بوصفه مبدأ يعود لزمن مدحور بكل مضامين فلسفته المرضية.. وبقدر تعلق الأمر باختلاق عقدة أو بعبع اسمه البعثيين والبعثية يلزم الانتباه إلى أننا نمتلك آليات مؤسساتية صحية تستطيع معالجة أمر الجريمة التي تمت في ظل البعث وحزبه الصدامي الفاشي وذلك يتمثل في مرجعية القرار [تماما] للقضاء العراقي الذي ينهض بمهمة القصاص من المجرمين والاستجابة لمطالب الضحايا ومعالجة آثار الجريمة كاملة على وفق منطق قضاء عادل نزيه بعيد عن أوهام لغة الاتهام والتسقيط  إياها...

 إنَّنا على يقين من أنّ توصيف "مَن تلطخت أيديهم بدماء العراقيين" يلزم أن يكون تشخيصهم ومحاسبتهم ليس بلغة الانتقام السادية ولا بلغة التصفية التي تستخدمها عصابات الجريمة ونظمها المعادية للمنطق السديد ولعدالة العمل المؤسساتي للدولة الوطنية بل عبر مؤسسة القضاء العراقي الجديد النزيه الذي يلزم أنْ تتوافر له كل الفرص التي تمنحه حرية العمل المستقل العادل لأداء مهمته في تحديد من يُستبعد ويُستثنى ويُعزل أو يُعاقَب... على أن تتقدم مهام هذا القضاء عاجلا  ومباشرة الآن وبلا تلكؤ أو تأخيرلكي لا نترك فرصا أخرى لبقايا المجرمين من مواصلة جرائمهم عبر اختراقنا، وذلك بإعداد الجهاز القضائي ومنحه الميزانيات الوافية للإعداد المؤمل...

 

2.    مؤثرات السلب والإيجاب ومنطق المعالجة الموضوعية لإشكالية الفديرالية

 

ويبدو لي اليوم أنه تحت لغة هذا متهم تجري محاولات تمرير مشروعات أقل ما يُقال عنها: إنها لا تصب في مصلحة العراق الجديد وبالتحديد مشروع الفديرالية المطروح على وفق رؤى طائفية واضحة.. والمشكل أننا صرنا نجد بعضا من أسماء تصدرت العمل السياسي اليوم تتحدث به بطريقة تجافي الموضوعية.. وتستخدم لغة الاتهام التسقيطية في معالجاتها..

والأمر يكمن في تلك الحجج التي نراها في الأفكار التي تجد أن الفديرالية مبدأ ديموقراطي غير قابل للجدل ومن ثم فإن مشروعات أحزاب بعينها [هنا المقصود بالتحديد أحزاب الإسلام السياسي الطائفية] غير قابلة للجدل وهي صيغة يلزم للعراقيين تنفيذها فيما كل من يقف ضدها هو (متهم) أما بالبعثية! أو السنية! وهما التهمتان الجاهزتان اللتان صارتا تترددان على ألسنة عديد من الكتّاب..

وأعيد قبل إبداء ردي هنا على فكرة "من لايوافق على الفديرالية هو بعثي سني"؛ تكرار رأيي في لزوم حظر حزب (كحزب البعث) جرت في ظل سلطته جرائم بشعة مهولة وعلى تقديم المجرمين للقضاء العادل ومنعهم من أية مسؤولية أو عمل يربك انطلاقة تأسيس عراقنا الجديد وبخصوص السنية طائفيا أؤكد وقوفي الثابت ضد كل عمل تقسيمي طائفي ومنه التحزب الطائفي [السني] مثله مثل التحزب الطائفي [الشيعي]  مشيرا إلى لزوم حظر الأحزاب التي تتأسس على قواعد أو أفكار طائفية أو دينية أو عنصرية لتعاضرها مع مفاهيم الدولة الحديثة المعاصرة..

وعود على بدء للمعالجة، فإنَّ مبدأ الفديرالية يظل صائبا متوافقا عليه من جهة العموم كونه مبدأ أساس لتعميق الديموقراطية وتعميدها على وفق الظرف القائم والشكل المناسب من التطبيقات في إطار الظرف المعني.. وقد جرى أمر تثبيته في الدستور بشبه إجماع وطني عليه.

ولكن المشكل يكمن في التنفيذ وفي صيغة المشروعات التي تُقترَح تحت هذا المبدأ. فليست كل صيغة فديرالية مفيدة وممكنة التطبيق في العراق في الظرف الراهن. وكون الفديرالية مطبقة في عشرات البلدان ليس أمرا فرضا قسرا علينا لنقول: إنها لازمة واجبة لنا بالصيغة التي تتبعها تلك البلدان في إطرا شروطها الوطنية المخصوصة..

ومن العبث الحديث عن نقل آلي مباشر ونسخ تطابقي تماثلي لتلك التجارب فأبسط منطق نتحدث به عن خصوصية العراق أن تلك التجارب مختلفة متنوعة في تلك العشرات من البلدان وأنها لم تطبَّق إلا بدراسة واقع كل بلد بخصوصيته والأخذ بالنموذج الوطني المناسب.. فلماذا لا يكون للعراق قراءته الخاصة به وبأوضاعه وبما يتلاءم وظروفه الراهنة والمستقبلية؟

ومثلما توافق العراقيون على مبدأ الفديرالية توافقوا على خصوصية إقليم كردستان من جهة كونه تاريخيا يمتلك عبر القرارات الدولية وعبر منطق الشرعية الأممية وحقوق الشعوب، يمتلك حق تقرير المصير وحق إقامة الدولة المستقلة وهو الأمر الذي اُستُلِب من شعب كردستان في ظروف وملابسات دولية معروفة ولأن شعب كردستان اختار اليوم الاتحاد الفديرالي وهو الأمر الذي أقره الدستور العراقي والرأي العام في استفتاءاته المحلية والوطنية فإنَّ فديرالية كردستان تظل أمرا مفروغا منه ومن ثوابت العمل الراهني والمستقبلي..

 

فيما الضغط للتعجيل في تنفيذ مبدأ الفديرالية في مناطق أخرى من العراق وبالتحديد في إطار اعتماد مشروعات جاهزة قدمتها أحزاب الإسلام السياسي [الطائفية] وبمستهدفات وظروف تعرِّض العراق لمخاطر تقسيم طائفي يبقى عملا غريبا على التفكير السياسي القويم.. إذ كيف يمكننا تعميد الفكر الطائفي بأيدينا وتطبيق توجهاته التشطيرية التقسيمية التي تعمل على العزل بين أبناء المجتمع العراقي بحملات التطهير الطائفية التي نشهدها اليوم في ظل سطوة الميليشيات المسلحة؟

 وكيف نمضي مع مشروع لا يقف عند التقسيم بقدر ما يتجه بنا إلى تفكيك الأسس الوطنية للمجتمع العراقي ومحو ثوابت الهوية العراقية وتوفير فرص باتت واضحة لحرب أهلية على المستوى العراقي أو حرب بين الدويلات الطائفية التي يجري تخليقها بمسميات  مزوّقة  تتستر بـِ(الفديرالية)...

 وأوليات الحرب قائمة حيث نزعات تقسيم الثروات على أساس مناطقي  [طائفي] لن يخدم بالنهاية حتى مصلحة المجموعة التي سيُحجر عليها في الدويلة الطائفية أو المحمية الطائفية لأن تلك المحمية ستخضع حتما لسلطتين مباشرة وغير مباشرة الأولى (المباشرة) تتمثل في ميليشيات الأحزاب الطائفية المتحكمة أصلا اليوم بالشارع السياسي قسرا وكرها ومرجعياتها باتت مكشوفة وغير المباشرة أي الجهة الإقليمية التي تدعم تلك الميليشيا وتتحكم بها عن بُعد..

 

إنَّنا نريد تطوير مؤسساتنا الديموقراطية في العراق الجديد باتجاه أبعد أشكالها لا مركزية حتى نصل لتطبيق المبدأ الفديرالي.. ولكن أصلا هل استطعنا اليوم تحقيق المؤسسة الرئيسة وتثبيت أركانها وحمايتها والتعريف بأسس العمل بها لننتقل إلى المرحلة اللاحقة...؟ هل استطاع البرلمان العراقي أن يحقق أنشطته بالصيغة الناضجة؟ وهل تسلم جميع مهامه؟ بل هل استطاع أداء ما يمتلك من مهام بطريقة موضوعية مقبولة؟ وهل استطاعت الحكومة المنتخبة فرض سلطتها أم أنها ما زالت الطرف الأضعف في الشارع العراقي أمام سلطة الميليشيات والعصابات وقوى الإرهاب؟ وهي التي ما زالت مخترقة ضعيفة وفي كونها المؤسسة الأكثر فسادا في العالم!!

أفي ظل أوضاع إدارية هزيلة كهذه نمضي لنشكل حكومات فديرالية تضاعف من أجهزتنا الفاسدة المنخورة بذريعة وجوب تنفيذ الفديرالية؟

إنَّ المشكلة الأعمق تكمن في أن من يفرض مشاغلتنا بهذه المناقشات البيزنطية هم أحزاب الطائفية بثقلهم المتحقق في اختراق العراق الجديد.. وباستغلالهم أوضاع التجهيل التي مارسها النظام المدحور. والكارثة أن وطنيين عراقيين يجادلوننا بالقول إن الشيعة وإن السنة وهم يقصدون بوضوح استبدال الشيعة حقا، بأحزاب الطائفية [الشيعية] والسنة حقا، بأحزاب الطائفية [السنية] فإذا قال عبدالعزيز قال حزبه وقالت الشيعة وإذا قال عبدالحميد أو صالح أو عدنان  قالت أحزابهم وقالت السنة وهي طريقة خبرها العراقيون يوم كان يُفرض عليهم إذا قال صدام قال العراق!!!!!!!!!!!!!!!!

 

كما يحاول بعضهم استغلال الظرف الاستثنائي لأخذ تصويتات تحت رحمة سلاح الميليشيا المسيطرة اليوم واستغلال مبيَّت لتأثيرات المرجعية الدينية واستصراخ النوازع والمشاعر الخاصة بمظالم طرف أو آخر بطريقة تُسقِط المظلومية لتضعها عمدا في رقبة جهة أخرى من الشعب العراقي! وبخلط الأوراق وتشويش القراءات الموضوعية يجري لفت النظر إلى كون الفديرالية مطلب شعبي مباشر وآني؟؟! والقضية بنظرة موضوعية متأنية ليست كذلك..

ويجري من أجل الدفع نحو المشروع طائفية الفديرالية التذرّع بالسقف الزمني المحدد في الدستور (المادة 118: يسن مجلس النواب في مدة لاتتجاوز ستة اشهر من تاريخ اول جلسة له، قانوناً يحدد الاجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الاقاليم بالاغلبية البسيطة للاعضاء الحاضرين)وكأنه السيف المسلط على رقاب الناس لتسير على وفقه، في وقت يعلم الجميع أن صياغة الدستور قد جرت في ظروف بعينها نشأ عنها ما تمت الإشارة إليه بمراجعة الصياغة بعد إقراره في سقف زمني متضمن في أجندة بعينها..  والعقل السياسي الرشيد والمنطق السديد يمكنه ببساطة أن يشير إلى أن أجندة وطنية منتظرة يمكنها أن تمضي على وفق منطق مجريات الأحداث والوقائع لا منطق ذرائعية مبنية على محاصصات ومكاسب جرت وتجري في ظل تضاغطات غير طبيعية..

أما السبب الثالث الذي يُقدَّم حجة أو ذريعة لاستعجال تطبيق الفديرالية وتحديدا على وفق مشروع [طائفي] جاهز فيكمن في الحديث عن مسألة تقسيم الثروة وفي حقيقة الأمر إذا لم تكن الحكومة في العاصمة عادلة في توزيع الثروة وهي الحكومة المنتخبة ديموقراطيا والممثلة للأغلبية التي تزعم تمثيلها لمصالح طائفة عراقية بعينها فكيف ستكون الأحزاب ذاتها معبرة عن مصالح تلك الطائفة في فديراليات تخضع لسلطة مطلقة للميليشيا التي تستبيح الأوضاع اليوم بالقدر الذي تستطيع؟! اللهم إلا إذا كان القصد أن  نُشرْعِنَ  سلطة الميليشيات في نهبها الذي صار يجري بوضح النهار في كثير من محافظات العراق النفطية خاصة!!

وما عدا ذلك فإنَّ أمورا خبرها الشعب العراقي من نمط  جرائم الطاغية لا يمكنها أن تكون سببا لخيار الناس وسائلهم في الجكم بل يكمن خيار الناس في كونهم الفعل لا رد الفعل وفي كونهم يقررون ما يناسب ظروفهم لا ما يُفرض عليهم بأجندات غير مدروسة.. بمعنى أن خيار الشعب العراقي للفديرالية لم يأت ردا على أفاعيل الدكتاتور ولكنه كان موجودا وشعارا للحركة الوطنية منذ بواكير وجودها يوم كان الشعار الديموقراطية للعراق والفديرالية لكردستان وبالتأكيد لم يكن مدروجا على الأجندة فديراليات طائفية أو غيرها..

أما بشأن التذرع فيما يُقال عن ( هشاشة نسيج التماسك بين القوميات والطوائف والمذاهب على أرض الواقع ) فهو أمر يقبل الجدل مع من يطرحه من حيث أن الخبرات والقراءات قد تختلف إذ الحقيقة في أمر النسيج الوطني العراقي ظل متينا قويا متماسكا على الرغم من كل غوائل الجهات التي حاولت الضرب بين أطراف العمل الوطني ومن وراء ذلك ما كانت تبتغيه في ضرب النسيج الاجتماعي العراقي وبالتحديد منه العلاقات بين المنتمين للمذهبين الشيعي والسني فحوالي 35%  من أبناء الطائفتين لديهم حالة التزاوج والتصاهر فضلا عن العلاقات القرابية المتينة الأخرى لنسبة مشابهة  ما يعني أن ثلثي المجموعتين متداخلتان تماما فضلا عن كون جمهور كبير من المجموعتين تلتقي في الفلسفة السياسية الفكرية من جهة العمل المشترك في الأحزاب الليبرالية والوطنية الديموقراطية واليسارية فمن أين يأتي استنتاج الهشاشة؟ إنه لا يأتي إلا من طريق اللبس في الخلط في الأوراق من جهة النظر للزعامات والشخوص والأحزاب الطائفية بوصفها الطائفة نفسها وهو أمر يتعارض مع الفكر الديموقراطي وآليات العمل به.. ومع المنطق العقلي السليم.

والحالة هنا أن مزيدا من الطرق بقنابل العنف ولغة التقاطع السياسي لأحزاب الطائفية بل وميليشيات السلاح الفتاك التي يجري بوساطتها الطرق على رأس العلاقة المتينة بين أبناء الشعب لفتح معركة تخدم تطبيق رؤى الأحزاب الدخيلة على المجتمع العراقي وفلسفته.. والحلول الواقعية يلزم أن تستجيب لمطامح الشعب وحركاته المتنورة وليس لما تفرضه القوى الميليشياوية المسلحة ومصالحها الخاصة وأجندتها الغريبة عن الواقع الذي يجسده العراقيون لا من يفرضون الزعامة عليهم والتحدث باسمهم.. ويلزم علينا أن نحدد من نقصد بهذه الميليشيات وهي المتمثلة في قوات تزعم تمثيل الشيعة وقوات تزعم تمثيل السنة وكلاهما لا يمكن أن يكون نموذجا مقبولا في إطار العراق الجديد في اتجاهه لإقامة دولة المؤسسات الديموقراطية..

وعليه فمن الغبن أن نتحدث عن عناصر وقوى تزعم تمثيل السنة ونقول عنها إنها السنة ورأيهم في العملية السياسية وفي مزيد من طمس قراءة الواقع على وفق حقيقته يجري السكوت عن تشخيص طائفية الجهة المقابلة التي تدعي تمثيل الشيعة بل النطق باسمهم واستبدالهم بوجودها الفئوي الحزبي الضيق.. فيما الحقيقة تقول: أنْ لا مذهب ولا دين للقوى والأحزاب الطائفية بأية مشكاة أو راية أو صفة تبرقعت أو تلحفت وصوت الناس صوت الشعب غير صوت الزعامات مهما كان حجمها الآني الظاهر..

وعليه فليس من المنطق الحديث عن تقسيم العراق بين شيعي وسني ونختزل الشيعة في أحزاب معروفة اليوم والسنة في أحزاب أخرى معروفة.. فهذه اللغة فات زمنها منذ مئات السنين عندما هُزِمت الطائفية فكرا ووجودا بدويلاتها التي أقيمت حينها.. ولن تستطيع لغة سلاح العصابات والميليشيات أن تفرض بلغة الرصاص محو الوحدة الوطنية بتقسيمية طائفية بالقوة والإكراه..

إنَّ من يدعو إلى ضبط الأوضاع وتجنب الحرب الأهلية لا يمكنه أن يمر إلى مطامح موضوعية كهذه من خلال تمكين لغة المتسبب في تأجيج التناحرات المفتعلة بين أقسام الشعب الواحد.. وسيبقى الدين عامل سلام وتوحيد بدل أ، يصوَّر كونه تقسيما وتمزيقا، إذا ما أُخِذ به وسطا عدلا صحيحا لا مشوها مسيّسا لغايات ومصالح بعينها.. وعليه لابد من تذكر أهمية دولة علمانية تحترم الديانات فيها وإلا كيف لنا أن نمضي بدعوة لا تعلو فيها مجموعة قومية أو دينية أو مذهبية على أخرى بل تتساوى عبر مبدأ المواطنة وفلسفة الدولة الحديثة.. إلآ إذا كان القصد تمزيق العراق وتفتيته بخلاف مصالح جميع أبنائه وأطيافه أو العودة بالدولة لنظام انصرم عليه دهر في إعادة تخليق الدولة الطائفية التي أثبتت تعارضها ومسيرة التقدم البشري..

ولسنا هنا بالتأكيد بصدد الحديث عن مجموعات تكفيرية لأنها محاصرة أصلا بثبات شعبنا على مبادئه ووحدته الوطنية ووحدة المجموعة الدينية المسلمة خارج نطاق الفئات المتحزبة لأي ادعاء ظهرت به.. وعلينا تذكر أن القوى التي تنخرط في العملية السياسية ليست بالضرورة منسجمة مع العملية جملة وتفصيلا ولكننا بقدر ما أكدنا تقدم قوانا التنويرية استطعنا دحر مشروعات ظلامية مقابلة..

ويبقى التذكير هنا بأهمية توظيف استرداد حقوق العراقيين وإنصافهم وتعويضهم جميعا وعلى وفق ما أصاب أيا منهم فردا أو عائلة أو حزبا أو فئة أو مجموعة دينية أو قومية بالامتناع عن التحريض والتشطير والتقسيم وكأن حقوق مجموعة عراقية تكمن في الانتقام من فئة أخرى.. حيث يتم الحديث عن مظالم الشيعة عبر ألف عام وأكثر المغتصبة سنيا بطرح السنة في فلسفة مجموعة تكفيرية تدعي تمثيلها السنة أو يجري تصويرها أنها السنة وعبر الحديث عن مظالم الشيعة من السنة لأن صدام من محافظة سنية (طابو) والعكس عندما يتحدث آخرون عن ضياع فرص الحكم وتخوين الشيعة في كونهم عملاء لدول أجنبية وما شابه من ادعاءات لا تنتهي إلا بخدمة الجهة التي تدعي وتزعم وهي جهة تمرر مخططاتها على حساب جميع أبناء الشعب سواء من ادعت محاربتهم أم من زعمت تمثيلهم..

أما الاعتقاد أن مجريات تطور الفديرالية في كوردستان أمر ممكن التكرار في بقية أنحاء العراق الآن فهو أمر يعود لإغماض العين عن خصوصية كردستان وخصوصية الوضع الراهن في بقية أنحاء العراق.. في حين أن محاربة الفكر الفاشي الذي يستلب الناس يأتي من عدم تمكين قوة أيا كانت من المضي في الاستئثار بالسلطة وتسيد الموقف بعيدا عن التداولية وفي صميم الأمر عبر رصاص ميليشيات وعبر مصادرة بوساطة لغة استغلال المرجعيات الدينية وغيرها.. فالديموقراطية البديلة لنظام الفاشية المنهار تتطلب أن نرسِّخ المسيرة نحو التعددية والتداولية ومنع سطوة فئة وفرضها فلسفتها بآلية الشمولية التي كانت تحكمنا وتعود إلينا برداء يتمسح بالدين والمذهبية وما إلى ذلك..

 

ثم من الذي يمكنه أن يسمي أحزابا شيعية وأخرى سنية ويذهب بعيدا فيستبدلها بالناس حيث لا صوت للشعب ولكن للحزب الذي يُفترض أنه يمثله؟؟!!!!!!!!!!! إن منع عودة الدكتاتورية تكمن في قبول آلية العمل والاعتراف بالآخر [في ظل حظر حقيقي لحزب الفاشية المهزوم ولأحزاب دينية أو عنصرية أو ما شابه وإن كان بتدرج ومعالجات هادئة لكل حالة].. أما توزيع الثروة لأهل الوسط والجنوب فهي معزوفة أو مجرد شعار للتعمية فالثروة اليوم ليست بيد طاغية أو هكذا هو المفترض وليست بيد جهة أو محافظة بل هي بيد من يزعم تمثيل الوسط والجنوب فلماذا لا تذهب لإعمار الوسط والجنوب ؟ والجواب سريعا يكمن في أن القضية ليست قضية إعمار وشروع به وتوزيع ثروة .. فيطفو السؤال الإجابة: أين تذهب اليوم الثروة والحكم لجهة انتخبناها وصوتنا لها!!!!؟؟

فقط إشارة إلى تهريب مليارات من الدولارات من ثرواتنا وهذا فقط ما يطفو من اعترافات وما لا يظهر ينبغي البحث عنه والسؤال؟ ألا ندري سويا حالة الفساد المستشري؟ أم ان الواقع هو فقط ما يصفه لنا طرف في ما يدفع لتخيله للفلفة الجريمة.................... ومرة أخرى فإن التصويت الديموقراطي يُحترم ولكن على من يطالب به بخاصة اليوم بعد أن عبرنا حالة القبول بالتصويتات الأولى لحسم المعركة لخيار الشعب في متابعة العملية السلمية وهو ما جرى بالفعل أما اليوم فإن أي استفتاء أو تصويت يجب لزوما أن يوفـَّر له كل شروطه وإلا فهو غير موضوعي النتيجة..

وأول هذه الشروط الأمن ومنع تدخل العصابات والميليشيات في التحكم بالشارع ومنع استغلال السلطة الروحية بل وقف هذه السلطة من التداخل مع جهاز الدولة المدنية ومؤسساتها.. ومضيا لابد من حرية التعبير بلا تهديد ونحن نعرف على أرض الواقع أن قوى عديدة تتحسب في أنشطتها ليس لقوى الرصاص والموت الأسود حسب بل لقوى سياسية تحكم الوضع بقواها المسلحة والاعتداءات المستمرة على مقار الأحزاب اليسارية والعلمانية ليست بعيدة عن العيان.. فهل هذا متوافر لكي نشرع فورا باللجوء للاستفتاء؟ أم أن الديموقراطية عوراء عرجاء تمضي لكي تضمن قوى التقسيم استمرار فرضها سلطتها كما كان يفرضها الدكتاتور في انتخابات مشهورة الهزل والبؤس؟

وتبقى مشكلة من يدعو للفديرالية طائفية المرجعية حيث اختلاق خوف الشيعة (متجانسين جميعا) من السنة (متجانسين جميعا) فالسنة على رأي بعض الأخوة المبجلين يدعون لعودة صدام فيما الشيعة عقدتهم صدام.. وهذه حالة الفقر الفكري أن نصوِّر كل السنة أعداء لكل الشيعة وأن نرى كل الشيعة مظاليم، خائفين! من عقدة ستعود بفضل أعدائهم السنة!!!!!!!

لماذا نتذكر عناصر تسمي نفسها ممثلة لعشائر (سنية) تدعو لعودة صدام ولا نتذكر مؤتمرات شعبية ولنقل عشائر تتصدى للتكفيريين وتلتقي الحكومة وتعمل معها لاستتباب الأمن لمناطق مستباحة من قوى القاعدة والبعثفاشية؟ لماذا لا نواصل العمل المشترك الوطني ونفعل دور الجكومة الوطنية المنتخبة لكل العراقيين ونضبط الشارع لصالح العراقيين..؟ هل من المصداقية والصواب أن نخضع لفلسفة من يقسِّم؟

إن الذي يخاف من الوضع الآخر للحكم هو الخائف من تقدم العراق نحو التعددية الحقة والتداولية الحقة التي تفسح الميدان لجميع العراقيين ليتنافسوا في تقديم رؤاهم للبناء والتأسيس لدولة الديموقراطية الفديرالية التعددية أما حكاية الخوف بين فئتين تزعم أحدهما الدفاع عن الشيعة وتدعي أخرى أنها تدافع عن السنة فهي حكاية تخدمهما مباشرة هما الفئتين لا غير وهما ليستا لا سنية ولا شيعية بل فئات دخيلة على الزمان وعلى المكان فالعراق اليوم عراق الدولة المعاصرة الحديثة والمكان هو وحدة العراق الترابية...

إنني أربأ بمفكرينا وساستنا الوطنيين عن الوقوع في مزالق الفكر الطائفي أو استجلاب الفكر الشمولي المهزومة سلطته بخاصة في مناقشة قيم موضوعية كبرى كالقضية العراقية وطبيعة مكونات شعب ومسيرته الراهنية عبر مناقشة شخوص [لا شخصيات] وتصوراتهم وخيالاتهم المرضية التي يهددون بها ويتوعدون أو التي يتحدثون بها عن عودة طاغية أو مجيء آخر.. وإذا كان صحيحا لأولئك من وجود وسلطة فهم موجودون بفعل ظرف طارئ وقوى الشعب العراقي تستجمع إمكاناتها لتستعيد المبادرة وتمضي بدولتها المتمدنة المتحضرة..

كما أربأ بهم عن الحديث عن مظالم طائفية تسجَّل دينا برقبة طائفة أخرى إذ أن ما كان يقع من جرائم ضد الإنسانية هي ضد أبناء شعبنا العراقي بكل أقسامه بعيدا عن طابو التقسيم ومعزوفة أن هذا وقع في هذه المحافظة أو تلك فالعراقيون شعب دولة متحضرة لا تنقسم على أسس طائفية وما كان يصيب مدينة أو قرية أو فئة أو فردا يقع ألمه على جميع العراقيين وتقع مسؤولية تقويمه على جميع العراقيين الوطنيين وإذا سلمنا جدلا أن من بين جرائم الطاغية المدحور ما كان أساسه طائفيا فهل بديلنا وعلاجنا نحن المؤنين بالديموقراطية السعين لبنائها يمر بممارسة الحل الطائفي ومواصلة فكر الطاغية المقيت؟

ليس منطقيا لكي نبرّئ قسما من شعبنا يسكن محافظة من جرائم صدام الطائفية وغير الطائفية أن يثبت لنا سكان المحافظة أنهم تعرضوا لضيم بمقدار ما تعرض له أبناء قرية أو مدينة أو محافظة أخرى فهذا المنطق هو منطق الإعوجاج والانزلاق لتكرار جريمة العزل الطائفي بخاصة وأن محافظات العراق جميعا لم يكتمل بعدُ فيها التطهير الطائفي الجاري بين فئتي الطائفية التكفيرية وغيرها.. وبالتأكيد هذه ليست بشرى أن أؤكد أن البصرة فيها المسلم والمسيحي والمندائي واليهودي وأن المسلمين فيهم الشيعة وفيهم السنة وقل مثل هذا عن الناصرية والسماوة والعمارة والأنبار ونينوى وتكريت  وعن غيرها من المحافظات.. فهل سيبقى الحديث عن العزل الطائفي وفديراليته المزعومة..

أما أننا مجبرون على التعاطي مع فديرالية طائفية لأن بعضنا أجرى إحصائية ووجد أن غالبية من يقف ضد الفديرالية هم من أبناء النظام السابق فهو أمر يدل على خطأ الإحصائية وعدم دقتها وعلى أنه قد يكون أحصى الشخوص التي تكتب على الإنترنت ونسي أن هؤلاء لا يشكلون من شعبنا إلا هامشا هزيلا وأن الآخرون ممن أحصاهم هم أصحاب مقاعد المحاصصة الذين لا يمثلون شعبنا الواحد ولا يمكن استبدالهم ووضعهم بمكان شعبنا.. وأن وحدة العراق في ظل هذا الكلام ليست متعبة لأهله والمخلصين له وأن ما يقلق العراقيين ويتعبهم هو التكرار المج لمظالم طائفة وتحميله دمها برقبة أخرى متناسين هنا أن العراق لا ينقسم بين طائفتين بل يشمل ديانات وقوميات أخرى يلزم احترام وجودها وتقسيماتها كما إن احترام حقوق طائفة يلزمه التساوي مع حقوق الأخرى وليس استعدائها ولا الحملة للانتقام منها..

 

3.    مخاطر جدية في توجيه الدفة نحو الانقسامات [الفديرالية] على اسس طائفية تمهد للحرب الطاحنة أو الانقلابات المبيتة

 

يتبع

 

 

كُتِب المقال  في ضوء حوارات بين شخصيات وطنية وأكاديميين عراقيين يكنّ لهم كاتب هذه الرؤى كل التقدير والاحترام وفي ضوء أخبار واحتدامات عديدة بعضها جد متشنج ولكن العبرة في هدوء أصحاب الرأي الراجح وموضوعيتهم وعقلانية توجهاتهم.. فتحية لكل رأي يصب في منح العراقيين فرص التآخي والوحدة الوطنية وروح الديموقراطية الحقة وعمقها الفديرالي المكين الذي يقوم على التنفيذ الخلاق الحي لا التشويهات المتجهة بنا إلى مقاصد نفعية ليس للعراقيين فيها مقصد أو هدف...