تحية لهدير الإبداع في مسرحنا العراقي

بمناسبة اليوم العالمي للمسرح

 

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي*

2007/03/27

tayseer54@hotmail.com E-MAIL: 

 

 

 

 

     جابه المسرح المعاصر مهاما نوعية وجدية مميزة مذ هدرت على الركح أصوات أقدام الإنسانية تتقدم لصنع حاضرها ومستقبلها متحدية عقبات خطيرة اكتنفت العصر الحديث من نمط الحروب الكونية والإقليمية الكبرى والأزمات العاصفة اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا... وعراقيا هزَّت مسيرة المسرح بهويته العراقية الحياة الراكدة المعتمة التي كانت تغادر ظلام الحكم [العصملي] لتدخل أزمنة الحركة والتغيير بخاصة بُعيد الحرب العالمية الثانية...

وإذ خرجت المظاهرات من داخل قاعات مسرحنا العراقي الحديث، لم تنحصر أو تتوقف المجريات عند الخطاب السياسي التحريكي التحريضي بل تقدم مسرحنا العراقي وارتقى نوعيا بدخوله بخطابه الجمالي الثقافي الجديد.. حيث صرنا بمجابهة مع مهمات أبستمولوجية اخترقت الحياة العامة وتفاصيل يومياتنا العادية...

وصار لنا فخر أن نتحدث عن مفردات بل معجم متكامل جديد عبر هوية خطاب مسرحنا العراقي المميز منذ خمسينات القرن الماضي ليتعزز عبر العقود التالية ويغتني مقدما مدارس متنوعة وانعكاس مسؤول للطيف العراقي قوميا ودينيا وسياسيا وبمستويات التركيبة الاجتماعية العميقة من طلبة وشبيبة ونساء وعمال وفلاحين ومثقفين وأكاديميين، ولتتم مناقشة أبعد القضايا وأعمقها اجتراحا لشؤون المجتمع ومتغيراته ومعطيات حركته العميقة...

ولكننا بالتأكيد ندري أن كل هذه العلامات في سجل المسرح العراقي لم تأتِ من فراغ وبلا تضحيات جسام لم يكن أقلها التهميش والإهمال واالمطاردة البوليسية وقمع الصوت الحر المستقل المثقف في خطابه الجمالي البحت حتى وصل الأمر للمقصلة ينصبونها على بوابات مسارحنا.. ومثلما أخاف شابلن وبسكاتور وبريخت نظما سياسية عنصرية فاشية ومثلما أقلقت مسارح الأوتشرك والتسجيلي والتغريبي مضاجع الطغاة فقد كان يوسف العاني وزينب وناهدة الرماح وسامي عبدالحميد والعبودي وجلال ونور الدين فارس وكانت مسرحيات أنا أمك ياشاكر وفلوس الدوة والخرابة ومدارس مسرحية عراقية كبيرة تشكل تهديدا لصانعي الظلم والظلمة وتمثل شموسا مزيحة لهم ولسلطتهم الجهنمية..

فقد عالجت المسرحية العراقية كما هو سجل سِفرها الخالد جماليا موضوعات المرأة العراقية ومفردات يوميياتها وعلاقاتها وتحررها من القيود المعتمة وعالجت العلاقات الطبقية والفئوية المختلة غير المتوازنة وتحدثت عن أيام الطلبة ونضالاتهم في تحصيل العلم ومطامحهم في التوسع بمعارف العصر وفي إعلاء كلمة الحق في الأستاذ المعلم رسول الفضيلة والتقدم ونفذت إلى كل مفاصل حيواتنا العراقية والإنسانية العامة وكان النقد الدرامي مواكبا للرؤى المتنورة المرصودة مسرحيا...

واليوم تستباح الأجواء ليغدوا الفنان المسرحي عرضة لأبشع جرائم التصفية وأخطرها جسديا ماديا وعلى كل مستويات المطاردة والإقصاء والاستلاب والمصادرة بمختلف فعاليات الجريمة ومستوياتها... وما ينبغي الانتباه إليه أهمية تعزيز الجهود المنظمة لمسرحيينا وتفعيل المركز العراقي للمسرح وتعزيز صلاته عالميا وإقليميا بما يعود على مسرحيينا بأعمق حملات التضامن المؤملة اليوم وهم في ظل هذه الهجمة الوباء من مختلف فعاليات الجريمة..

ومن المهم هنا تفعيل اتحاد مسرحي حقيقي وروابط تخصصية للممثل ولكل بُناة العملية المسرحية إبداعا جماليا حقيقيا ولابد اليوم من تأكيد وجود روابط من نمط رابطة نقاد المسرح وفتح مهرجانات الإبداع ومناسباته واحتفاليات التكريم والعناية بروادنا ومجددينا والبحثعن كل السبل التي يمكننا عبرها أن نغذي مسيرة جديدة وجدية فاعلة لتبقى أضواء صالات العرض مشتعلة كواكب وشموس منيرة مضيئة في حياتنا...

ومن خلال روابط العمل المسرحي بتخصصاته ستكون فرص تعميق اللقاء بجمهور مسرحي حي لم يمت وما زال ينبض بالحب والعشق والأمل ويتطلع لمواصلة مشوار العطاء المتجدد.. وسيكون لصحافة متخصصة ولهيئات أكاديمية ودوريات بحثية علمية فرص أخرى لمشوار الفعل الإبداعي المتصل المستمر المتجدد..

وبمناسبة يوم المسرح العالمي 27 آذار ينمو الأمل لموسم مسرحي من العطاء ولقرارات مكتسبة  منجزة لمسرح عراقي حي نابض بالحيوية.. ولنحيي مسرحيينا الذين ما زالوا يتحدون الظلمة وما تحتها وخلفها من جرائم الضلاليين من مسعوري زمن الجريمة واستباحة كل ما يمتّ للعقل وللمنطق والتنوير والحياة الإنسانية الكريمة..

ويمكن بالتأكيد لمسرحيينا في المهاجر أن يساهموا في شد أزر زملائهم وزميلاتهم في داخل الوطن ولنوجد ملتقيات بوسائل متنوعة لنغني حركة المسرح ومنتجه الإبداعي ولندعم ثروتنا وما توصلنا إليه ولا نسمح للتلكؤ والفتور أن يفت في عضد أو سواعد تلألأت ولن تنطفئ ما دام القلوب نابضة بالإبداع...

لقد جاء مسرحنا العراقي قبل حوالي قرن وربع القرن ليكون بشير تطور مجتمعنا ومكوناته ودرجة رقيهما وليسير بهما حثيثا إلى الأمام واليوم سيكون المسرح مرة أخرى علامة تلك المؤشرات الحضارية المدنية في رؤية وجودنا العراقي وهويتنا الوطنية الإنسانية المتفتحة.. وسيكون لتلاحم جغرافيا الوطن وسيلة لشعاع المجد الخالد في رعاية مهرجانات النور المسرحي في أرجاء عراقنا وهناك في أحضان جبالنا الشماء الآمنة ستهدر مجددا قاعات مسرح عراقي أصيل بلغات الوطن وشعبه العربية والكوردية والكلدانية الآشورية والتركمانية وبخطاب مسرحي تنويري معرّف لدى جمهوره المنتظر بشغف...

وحتى نلتقي في مسرح بغداد واليوم والشعبي والأكاديمية ومعهد الفنون ومسارح وقاعات العروض الرحبة بأهلها الممتلئة المتلألأة بهم ستبقى الأضواء منارة مدامة بعيون مسرحيينا المفتوحة المتفتحة دوما.. ويومها سيكون تكريم المسيرة وكواكبها وشموسها ليتأكد عمق اللحمة بين جمهور المسرح من أبناء شعبنا وبُناته من فنانات وفناني مسرحنا العراقي وهم علامات الطريق ورسالة السلام في زمن العنف وهم المقدمة الأروع لغدنا الأفضل عراقيا وعالميا...

 

وخلف ذلك وقبله أريد أن أحيي بهذه المناسبة هدير حناجر المسرحيين وسلطان أقلامهم ورسائل خطاباتهم التي تعيد لحياتنا جمالياتها الحقة مؤكدا على أنَّ انتصار الجمال على  القبح لا يأتي إلا بأدوات خلق الجمال متفاعلا مع الحياة الحرة للبشرية ووقع مسيرتها المعاصرة صوب انعتاقها النهائي مهما ادلهمت خطوب الزمن العاتية واشتدت عواصفها كما هو حال الواقع العراقي وما يحيط بمسرحيينا في الوطن والشتات...وتحية محبة وإجلال وبورك في جيلي الرواد والمجددين ولتسلم إبداعاتهم أداة مشرقة لشمس الحرية والحياة الكريمة....

                        

 

 

 * أستاذ الأدب المسرحي \  أكاديمي ناشط في مجال حقوق الإنسان