حكاية الخوف والحساسية واهتزاز الثقة

بين الصراحة والتقيّة في السياسة العراقية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

2007/06/

tayseer54@hotmail.com أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

02E-MAIL: 

 

بعيدا عن رقيبِ الأمس واليوم التقليديين المعروفين، يجدُ المرءُ نفسَه في حيص بيص مشكلات عديدة، وهو يعمل على صياغة عبارتِهِ في معالجة مفردة من مفردات الواقع الراهن.. وأبرز ما يتعلق به الأمر هو القضايا الخلافية الطافية على السطح.. حيث يصعبُ التعامل مع أمور من نمط الشأن القومي أو الديني المذهبي أو ما شابههما إلا بحذر شديد وغبر طريق مليئة بالأسلاك الشائكة؛ والسبب في مثل هذا الرقيب ليس الخشية من التعبير عن رأي أو التصريح به ولا حتى الخوف من الوقوع في خطأ المعالجة فذلكما من الأمور المسلَّم بها لدى شخصية تؤمن بالنهج الديموقراطي وعمقه الفكري الفلسفي..

 ولكن الحذر والرعب كل الرعب من احتمالات تفسير العبارة وتأويلها ولوي عنق المستهدف منها؛ بخاصة إذا ما وقع التحليل أو المعالجة في هنة أو قصور أو خطأ أو حتى تقدَّمَ بجزء من المعالجة على أمل متابعة استكمالها لاحقا.. عندها نكون أمام أزمة جدية في ردود الفعل من الأصدقاء قبل الأعداء...

وعليه،  فما العمل في مثل هذه الحال؟  وما أسبابها الكامنة؟  وكيف سنعالجها؟ أما قراءتنا السباب فيمكن القول: إنَّ أبرز سبب لهذه الحال من ليِّ الحقائق وتأويلها بسلبية يكمن في افتقاد الثقة بعد طول احتراب وتقاطع ومصادرة؛ احتراب فرضته قسرا نظم الاستبداد السياسي والاجتماعي ومصادرة جاءت قسرا في أجواء سطوة سلطة الجريمة وأعداء الإنسانية...

في الاحتراب الذي أشاعه النظام الدكتاتوري الشوفيني كان أن خاض حربا ضروسا ضد فئات من أبناء الشعب ومجموعات قومية ودينية كما حصل في الحرب على الثورة الكوردية وشعب كوردستان بأطيافه جميعا.. وكما في حروبه الدموية التصفوية التي مارسها ضد أحرار الوطن وقواه المتنورة حتى باتت أرض السواد اليانعة خضرةَ َ تتلون بالقاني من أنهر ضحايا تلك الجرائم بحق أطياف الشعب كافة...

وفي المصادرة في حربه على المجموعات الدينية بتعددها وتنوعها ومصادرته حقوقها الطبيعية؛ إذ منع المسيحي من [حتى] استخدام الأسماء التي تعكس خصوصيته؛ ومنع المندائي والأيزيدي من ممارسة طقوسه؛ وحظر على الشيعة طقوسهم مثلما أثار اضطرابا طائفيا مرضيا وزيادة في إمعانه أجواء المصادرة السياسية شجَّع الغلوّ والتطرف المتقاطع داعما مصادرة هذه الفئات ضيقة الأفق والإرهابية في مصادرتها الحريات الاجتماعية وفي محاولة منه لإلهاء النسيج الاجتماعي في صراعات دينية طائفية الطابع أو قومية أو طبقية فئوية بحسب المدخلات التي استغلها في اللحظة التاريخية المحسوبة...

وهكذا وجدنا المنطلق الذي عوّلت عليه المجموعات القومية والدينية والطائفية بُعيد الانعتاق من أسر الدكتاتورية كان قد شرع بتوظيف استقلاليته من تغليب للخصوصية المعينة على حساب كل ما هو وطني الهوية، ما جاء بارزا بسبب مضاف من تقدم الأحزاب القومية أو الدينية الطائفية للمشهد محمّلة أغلبها بمسيرة من إنعدام الثقة وتجاريب الماضي وخذلان مطالب المجموعات المتعايشة في وطن التسامح المستلب المصادر عبر عقود بعيدة من الزمن...

لقد نجم عن مسيرة تلك العقود التي استبيحت فيها الحرمات واغتـُصِبت الحقوق وجرت محاولات محو الهويات وتصفية القوى النبيلة، حال من القلق والخوف والتحسب للخداع والتضليل كما تم افتعال أجواء من الحساسية الحادة في العلائق بين أطراف القضية العراقية فصار كل طرف يراجع خطاب الآخر ويضع له مزيدا من التأويلات المحتملة تحسبا للمفاجآت المؤلمة التي تكررت كثيرا عبر تلك العقود التراجيدية. وصار الأمر موجودا على المستوى الاجتماعي بالمعنى الواسع للمصطلح مثلما تعمق في وجوده السياسي...

وفي مثل هذه الأجواء وُلِد العراق الجديد مبتورا مفرغا من مؤسساته الدولتية والاجتماعية، وسطت على الفراغ قوى مخترقة تنظيميا وفكريا.. وفوق ذلك فإنَّ الأرضية السائدة من مخلفات الأمس القريب والبعيد هي أرضية ممسوحة الذاكرة مشوهتها! فضلا عن تاريخ من إنعدام الثقة وجراح المكائد والجرائم المهولة التي ما زالت تحيا بين جوانح الضحايا....

وفي أجواء محاولة إعادة إعمار الذات المخربة للشروع بمسيرة نوعية مختلفة، مسيرة بناء دولة الشعب بأطيافه كافة وعلى أسس الديموقراطية والعدالة والمساواة وإزالة آثار الماضي ومخلفات جرائمه؛ في مثل هذه الأجواء لا يمكن لأية قوة إلا أن تتحدث عن الروح الوطني وهي تضمر البحث في تعزيز [حصة] المجموعة الدينية أو القومية أو الطائفية، وتتحدث عن الوحدة وهي لا تسطيع الحديث بصراحة عن التطلع للشروع بتنفيذ [حصة] مستقلة تمنح هذه الفئة أو تلك حقوقا قبل غيرها أو قبل الآخر وحتى أحيانا على حسابه!

والصراحة غير ممكنة وإن وجدنا التصريح، فيما التقية والإضمار والتخفي بيِّنة واضحة بارزة حتى صارت طاغية معلنة مصرح بها وإن في نتف هنا ونتف هناك وعلى استحياء لا يتخفى وراء مظلومية أو أخرى... ومن الطبيعي أن يكون الاستخدام الواسع للتخفي أو "التقية" أمرا  يؤسس لمخاطر تفعيل حال إنعدام الثقة والتحسب لاحتمالات الاحتراب والتصادم والقطيعة..

ومن الطبيعي قبل ذلك أن تسود ظاهرة شرعنة لغة التأويل.. حتى صار المحلل الأكاديمي الأكثر موضوعية وحيادية يحتاط لعبارته ولخطابه بامتدادات توضيحية وشروح واستطرادات وهوامش وحواش فيما ينبغي له الإيجاز والذهاب مباشرة إلى هدفه بآلية معالجته المعروفة..

وبناء على هذا المشهد ينبغي أن نجد فرصا مضافة من الصبر وقدرات الاحتمال وتقبل الآخر.. وعلينا أن نقبل للغتنا التحليلية امتدادات تطمئن جميع الأطراف وتضع لهم الإجابات الشافية لتحسباتهم وتوقعاتهم وأسباب قلقهم. وأن نجد حالة التكرار والتفصيل أمرا مطلوبا اليوم لكي نجنِّب أنفسنا أية فرصة لتصيد أطراف بعينها في الماء العكر..

وعلى سبيل المثال لأولئك الذين باتوا يرفعون شعار "عراقيون أولا" بسبب من تداعيات شعارات الهويات بخصوصيات تُعطى أولوية على حساب الهوية الوطنية؛ نقول لهؤلاء إنه ليس من ضير ولا من تقاطع أن يشيروا إلأى المجموعات القومية والدينية العراقية بالاسم في بياناتهم لأن ذلك سيكون جزءا من تطمين كل الأطياف العراقية المكتعايشة من أنّ شعار "العراق أولا" و "عراقيون أولا" ليس على حساب إلغاء مطالب كل الجماعات العراقية بلا استثناء أو إلغاء أو إقصاء أو مصادرة...

وهكذا سيكون وجود أسماء مثل الكورد والتركمان والكلدان الآشور السريان والصابئة والأرمن والمندائيين والأيزيديين والكورد الفيلية والشبك واليهود والجماعات وإلى جانبهم [الأقليات] كافة أمر لا يمثل تفصيلا هامشيا أو ثانويا بل يمثل صراحة تعمِّق الثقة وتوطد العلائق الوطنية وتوحد العراقيين وتجمعهم في ألفة وتقارب بينهم في توجهاتهم وفي آليات عملهم؛ بخلاف فيما لو اكتفينا برد الفعل الذي يتغنى بشعاراتية الوطنية واسم العراق لوحده سيكون ذاك من الأمور المعمِّقة لاغتراب وتباعد وإثارة لحساسية الإهمال والإغفال والتجاهل وهو ما ينبغي لنا الاعتراف بتأثيره في واقعنا وفي الروح المرضي الذي أشاعه فأضاف علينا واجب إزالته ومعالجته بصبرنا وتفاعلنا الإيجابي معه...

إنني لا أجد في حال تأويل قوة قومية أو دينية أو جهة تعود لطائفة أو فئة أو حزب أو مجموعة، أمرا سيئا مطلوب اجتنابه ولكنني أجد أن ذلك واقع حال أوجدته ظروف تاريخية معروفة وعلينا لإزالته ومعالجة أنفسنا منه أن نعترف بواقع وجوده وأن نتعاطى مع هذا الواقع بالطريقة المناسبة لإزالة أسباب الجفاء والحساسية ومحو آثار القلق والخوف من بعضنا بعضا.. وسيكون علينا - من أجل ذلك – أن نؤكد حرصنا ونعلنه وما ضير أن نفصّل وأن نسهب وأن نتحدث بلسان فصيح عن محبتنا وتسامحنا واحترامنا وتفاعلنا مع الآخر من منطلق المساواة والعدل والتكافل والتكافؤ والتعاضد؟ ليس من ضير سوى أننا نظر إلى الأمر كونه خطابا مسهبا. ولكن الحقيقة في تشخيص الإسهاب والاسترسال من الإيجاز يكمن في بنية المرحلة وطبيعتها ومطالبها واشتراطاتها علينا وليس في حساب كم المفردات المعجمية ولا في نبل الهدف الكامن في تقديم هويتنا الوطنية أو الإنسانية المشتركة بل فيما يذهب ويؤدي بنا إلى هذا الهدف النبيل السامي..

وما يؤدي بنا إليه هو مزيد من تعميق إحساس الآخر بأننا مثله نتبنى العمق الإنساني لحقوقنا المتساوية ونحترم ونقدس الهويات المتنوعة الثرة بتعدديتها وغنى تنوعها ونُعلي من شأن احترام الخصوصية ما يدفعنا أسرع للقاء في هويات أوسع وأشمل تحتضننا سويا وطنيا وإنسانيا...

وأجد من المفيد هنا أن نمنح أنفسنا فرصة أبعد لمسيرة جديدة نوعيا حقا في التعاطي مع تنوع الطيف العراقي وكلما ذهبنا أبعد في هذا التفاعل مع التعددية وازددنا وضوحا في إعلان احترامنا وتقديرنا لثراء تعدديتنا وتنوعنا ازددنا قربا ووحدة وتفاعلا وأعلينا من شأن هويتنا الوطنية واعتزاز الجميع بهذه الهوية الموحدة الواحدة.. وكلما تجنبنا التوكيد على هذه الهويات المخصوصة، عمّقنا روح الحساسية والقلق وشحناء التفاعل السلبي ودفعنا الآخر لفلسفة التقية والتحسب والتأويل باختلاق أمور معوجة منحرفة...

 

ولأننا نبتغي الهدف الوطني النبيل، سنبقى بحاجة لهذا الصبر ولآليات جديدة تتعاطى مع الواقع وتعترف بطابعه سواء بإيجابياته أم بكل تركة الأمراض الموروثة التي تتطلب معالجة طويلة الأمد في احتمالات استجابتها ووصلنا بها إلى الشفاء الناجع..

وكما ترون فإنَّ جيلا يهدم نظام الاستغلال والدموية والتشويه المرضي ولكن الجيل الذي يبني البديل بل الأجيال التي تبني ستحتاج لزمن أطول وأكثر امتدادا.. فطابع بناء عمارة غير طابع أو آلية هدمها. فما بالك ببناء الإنسان الجديد وبناء المجتمع الإنساني الجديد.. ألا يتطلب منّا مزيدا من العمل والجهد المضاعف؟

 

لنمضي بموضوعية ما يشترطه منطق العقل ومنطق الواقع وآليات المعالجة لا بمنطق الأهواء  والرغبات وما نتمنى فليس كل ما يتمناه المرء يدركه ولكن تؤخذ الدنيا بالعمل الدائب والإصرار والمواصلة والصبر... والعراقيون يمتلكون كل ذلك منطق عقلي تنويري وعمق الجذور والتاريخ الحافل والحاضر الذي يرفع راية الأمل والتحدي والفعل الصائب الصحيح.............