البطالة والجريمة والأمن الوطني

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003 \ 11 \  27

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

                    

                                         ما من شك في طبيعةِ التعقيداتِ التي تفرضُ نفسَها على جملةِ المشهدِ العراقي القائم, وهو مشهد لمْ يتشكَّلْ نتيجة المتغيراتِ الأخيرةِ والانعكاسات المباشرة للحربِ فحسب بل جاءَ بعد تراكماتِ ِ مرَضيّةِ ِ خطيرة ناجمة عن ممارساتِ  وسياساتِ النظام الدكتاتوري الذي دفعَ بـِـ (طاقةِ العملِ) إلى أتونِ الحروب مهملا مسائل تأهيلهم وتشغيلهم والتخطيط لمثل هكذا مهمة. ولكنَّنا اليوم أمام محصلةِ ِ تشيرُ إلى استمرارِ توقفِ الدورة الاقتصادية التي صُودِرت بسياساتِ ِ رعناء من النظام المقبور؛ ولم يتركْ لشعبنا وقوى الإنتاج فيه أية ركيزة جدية للبناءِ المباشر السريع عليها بخاصة بُعَيْد ما جرى من تخريب في ظلِّ الأجواء المنفلتة (بل المنفلشة) أمنيّاَ َ حيث عاث المخرِّبون تدميرا فيما تبقى من هياكل. 

                                      ما لدينا اليوم هو رقم فلكي بالمعطيات النسبية للقراءات الاقتصادية حيث نسبة البطالة تتجاوز الــ  50% وقد تصل بعض التقديرات إلى الــ  70% ما يعمِّق النتائج السلبية الكارثية وانعكاساتها على المجتمع سواءفيما يتعلق بالآثار المادية بالمعطى الاقتصادي المباشر أم الآثار الاجتماعية بتفاصيل المشكلات المعروفة عنها.. فأول الأمر تنتاب الفرد حالات نفسية وتتحول تدريجيا لتعتريه أوضاع الكآبة وردود الفعل المَرَضية ويتضاعف الأمر عندما تبدأ تفاعلات المشكلات النفسية الفردية وتشرع بتأثيراتها على طبيعة النشاط والسيرة الاجتماعيين ومن ثمَّ تعقيدات العلائق عائليا حيث لا يستطيع ذاك الفرد الاستجابة لمتطلبات أسرته وحاجاتها الأساسية, وتتفاعل الأوضاع عبر خصوصية العلاقات الأسرية الواسعة والممتدة في مجتمعنا الذي مازال يحتفظ ببعض الجذور التقليدية المعروفة كالعشائرية وما يتبعها من تداخلاتِ ِ قد تكون سلبية المسار...

                                       إنَّ الحلقة التالية الناجمة عن مسلسل التداعيات السلبية للبطالة يؤشِّر بوضوح احتدام الانفعالية و تحطيم الضوابط الموضوعية لحركة الفرد والكتل التي تشملها ظاهرة العطالة والتبطّل؛ وكجزء من تكسير القوانين وروح الاحتجاج السلبي والوقوف على الضفة الأخرى من مصالح المجتمع بوصفه جماعة متكافلة متضامنة في الظرف الطبيعي يعيش العاطل عن العمل منفصلا في عزلة عمَّا يحيطه من معركة حقيقية واحدة تصب في خيمة الوطن هي معركة بنائه وإعادة الإعمار فيه وفي النفوس التي خرّبها زمن الضيم والاستغلال البشع لكرامات الناس وقيمهم...

                                       وبحصول هذا الانشطار بين الطرفين لا يعود للمصلحة الجمعية التضامنية العامة من وجود في ذهنية المتمردين من العاطلين عن العمل. حيث يتمكن روح التدمير من ذاك الإنسان المريض وتبدأ مرحلة جديدة تالية هي مرحلة الجريمة سواء بحق النفس عندما تكون الممارسات حالة من إيذاء الذات أو في تعمُّد إيذاء الآخر عبر كسر العقد الاجتماعي وقوانين المجتمع وأعرافه الإيجابية المتداولة. وتتسع دائرة الجريمة وكارثيتها مع تشكل حلقات للمتمردين بسبب من لقاء الطبائع المشتركة وهي سمة عادية للكائنات الحيّة عامة (مسألة اللقاء والتجمّع), ولكنَّ غير الطبيعي فيها هو كونها لقاءات تقوم على إيقاع الضرر والتدمير في المحيط الاجتماعي.. وهي تتحول لاحقا إلى تشكيلات نوعية طابعها الأساس هو أعمال العنف وإثارة الاضطراب والهلع... ولا يقف ذلك عند حدود التمرد الاجتماعي المؤطَّر بل يتنامى باتجاه الاحتكاكات السياسية والاصطدامات العنيفة المسلَّحة التي تعقب تلك الفعاليات.

                                      فما يجمع إذن بين البطالة والجريمة هو رابط جدي خطير الشأن ولا مجال في السعي إلى استتباب الأمن واستقرار الأوضاع العامة اجتماعيا وسياسيا من تحقيق الاستقرار الاقتصادي الأكيد بمعالجة مشكلاته وعلى رأسها مشكلة العطالة.. فإذا ما كانت هذه المشكلة (العطالة) بحجم كارثي اجتاز كلَّ الخطوط الحمر وكسَّر أيَّ منطق يحكم حركة الاقتصاد وتأثيراته, فلا يمكن إلا أنْ  نضع هذه المشكلة في أولويات الحلِّ الجذري الذي بوساطته نصل إلى برِّ الأمان وتطبيع الأرضية لوقف آلة التدمير الناجمة عن مثل هكذا كارثة..

                                       ومن المؤكَّد تلازم عمليات إنهاء الجريمتين الاجتماعية والسياسية وحلِّ مشكلة العطالة وإنهاء وجودها بخاصة بهذا الحجم الهائل في نسبته  وفي تأثيراته. ويزداد الأمر تعقيدا مع تداخل المشكلة وتشابكها بحيث كما يقولون "يضيع فيها رأس الشليلة" فنفقد بعده كيفية الخروج من الأزمة بأقل قدر من التضحيات.. وليس بلا خسائر. فعلى سبيل المثال لا يوجد من يريد الاستثمار في الظروف الأمنية الشاذة. والجريمة تتزايد مع امتداد فترة العطالة التي لا حلَّ لها بغير افتتاح مشاريع تتسع وتتوالد بحسب معطيات التطورات الاقتصادية. فما العمل تجاه حالة التخبط والعشوائية التي تصيب واقعنا؟

                                     إنَّ واقعا مريضا كالذي نعيشه يفترض التعاطي مع حالة طوارئ إنسانية قصوى. فمنع الجريمة يحتاج فضلا عن حلول الأمراض الاقتصادية والاجتماعية إلى فرض سيادة القوانين بقوة أكبر من جهات الضبط المدني العادية فلسنا في حالة عادية طبيعية ولكننا في أوضاع شاذة كارثية بعدما تجاوزنا حافة الهاوية وصرنا في قعرها اليوم.. فنحن بحاجة لكلِّ المؤسسات الضرورية لضبط اندفاع الجريمة فغدا يمكن أنْ نتحول إلى وكر للإرهاب في بلادنا وفي محيطنا الأقليمي والدولي ولا عجب إذا ما تضاعفت الأمور مأساويا؟!

                                  ومن هذا المنطلق مازالت بلادنا وستظل لمدى زمني ستحدده تطورات الأوضاع اللاحقة, ما زالت بحاجة للمساعدة الدولية بالخصوص ونحن بحاجة لقوات أمنية وشرطة أو تدريبات من نوع مختلف عن التدريبات التي وُجِدت عهد مطاردة الطاغوت للشرفاء بخلاف ما نعيشه اليوم فالدولة تحمي الشرفاء.. تحمي الشعب؛ ونحن بحاجة إلى قوات حرس الحدود بغير جيش تمَّ تدريبه على القمع وعلى الأعمال العدوانية فالجيش الذي نريد هو جيش الدفاع الوطني وحماية سيادة البلاد والشرعية الدستورية فيها وليس طبعا قوات حراسة جمهورية الطاغية أو ما سُمِّي (الحرس الجمهوري مغالطة). ونحن بحاجة إلى قوى الدفاع المدني ومتخصصين في نزع ألغام الماضي المزروعة في مساحات لا نستطيع تحديد مخاطرها التي تتهدد حيوات أبناء البلاد وكانت التقديرات للإشكالية قد أشارت إلى عدد من السنوات قبل تنظيف الأرض العراقية من عشرات ملايين الألغام. فضلا عن التلوث بكلِّ أشكاله والتخريب الذي أصاب البيئة العراقية كما هو معروف في مثال الأهوار والإشعاع النووي...

                                 ولمزيد من طمأنة المستثمر الأجنبي لابد من هذه المعونة الدولية الأمنية في المرحلة الأولى من مسيرة تنشيط الدورة الاقتصادية. وكتحصيل حاصل ممّا نريده من تلك المعونة هو الحدّ من تعاظم مشكلة العطالة ومن ثمَّ معالجتها جذريا في مرحلة لاحقة.. وحتى تدور آلة الاقتصاد ينبغي التعاطي مع عدد من الحلول الجزئية الضرورية في تشغيل قوة العمل كما في حملات تطهير البيئة من آثار المعارك والتخريب وفي تنظيف المدن وإدامة المواقع الاقتصادية وإعداد المؤسسات وحملات الاستزراع وأية حملات عمل مقابل أجور مجزية قد تكلّف الدولة مؤقتا ولكنها تظلّ ضرورة جدية اليوم قبل الغد من أجل مجابهة الحاجات المادية للفرد وللعائلة وللمجتمع عامة.

                               إذن فنحن لسنا خارج نقطة الشروع بعودة الحياة الطبيعية ودورتها العادية واستقرار حركة التطور والنمو فيها, ويمكننا إيجاد البدائل التي لا حصر لها في هذا المسار وقد سبقتنا دول عديدة أخرى في تجاريب إعادة الإعمار في خضم أوضاع شاذة, قد نلتفت للإفادة منها. مع تذكّرنا أنَّ دورة العنف لا تخلق إلا مضاعفة له وتزايدا وإمعانا في ورطته وكارثيته؛ وأنَّ دورة البناء تقف على طريق الصواب في توليد عمار النفوس وإصلاحها وإعادتها لمنطق الفعل السلمي البنَّاء وللقاء التعاضد والتعاون لا لقاء التمرد والمتمردين من المتبطلين والعاطلين عن العمل الذين يشغلون أنفسهم أو يقعون ضحايا المشاركة في جرائم العنف المسلَّح ممّا تشهده بلادنا  وما أشرنا إليه من مآسيه...

                                        إنَّ بلادنا غنية بالثروات الطبيعية ولكنها أكثر غنى بثرواتها البشرية كميا ونوعيا ولسنا على الرغم  من حالة التسيّب والانفلات (الانفلاش) في وضع متكلِّس جامد لا يقبل الحلّ أو يستعصي على العلاج. وهذا ما يشكِّل الخلفية القوية وما يوفِّر فرصا مهمة وحيوية لوضع أيدينا على الحلول الناجعة. ويمكن بثقة القول بأنَّنا قد شرعنا بالفعل في طريق عراقنا الجديد على صعيد ممارسات القوى السياسية الأساسية المؤثرة في الحياة العراقية العامة الجديدة....                    

 

1