في العراق الجديد ما جرى ويجري وما نتطلع إليه!؟

لتراجع الأحزاب الدينية برامجها وآليات عملها ولتقرّ حلول الوحدة الوطنية

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

18\09\2007

tayseer54@hotmail.com

 

 

حالات ونماذج للإنسان المواطن في العراق الجديد بقدر فوضى الجرائم وسطوتها على تفاصيل المشهد اليومي للناس... ولكن أغلبها ليس إلا تعطيلا عن المشاركة الجدية الصحيحة في العمل والانتاج أو استغلالا فاحشا لا يمكن وصفه بالمشهد الإنساني قطعا!

ولأنَّ من يقود المسيرة الآن هي الأحزاب الدينية التي تتفرد بتصدر المشهد وإدارته ولأنَّها أي الأحزاب الدينية [الطائفية] تحاول أن تضع برامجها على وفق قراءاتها وتفسيراتها للنص الديني في ظل شعار [الإسلام هو الحل] فإنّ المواطن من جهته يرى أن الأمور تمضي بما لا تشتهي السفن؟

إذ المشكلة ليست في الديانات ولا في النص الديني ذاته الذي يحملونه صدقا أم قناعا للتضليل بل في طبيعة البرامج التي تُصاغ باسم الدين وهي في حقيقتها لا تمتلك لا العلاقة بالنص الديني ولا في غالب الأحيان الشرعية في تمثيله وقراءته بطريقة صحية صحيحة...

والمشكلة أيضا - ومرة أخرى - ليست في الدين الوسط ونصه المعتدل وهدفه العدل السواء ولكن فيمن يحمل الرسالة باسمه متشدِّدا  متطرفا مندفعا بأهواء أوهام ومغالاة إذا نحن رأينا أولها فليس هناك من يدري إذا كان سيرى آخرها نتيجة سياسة العيش لا على حافة الهاوية بل في الهاوية عميقا...

وعليه فإنَّ المعضلة اليوم تكمن في إقناع من يدير تلك الأحزاب الدينية ويقودها لتغيير برامجه وجوهر معالجاته بالاستناد إلى مراجعة الواقع الميداني وتفاصيل المشهد الإنساني اليومي بخاصة فيما يتعلق بنتائج ما رسمه من برامج أودت بما تبقى للعراق والعراقيين بعد زمن خراب ودمار حلّ بهم لعقود ليستكملونه في سنوات معدودة..

وسيكون من باب أولى أن تنهض قواعد تلك الأحزاب وقياداتها الوسطية المشتبكة بعلائق مباشرة بالواقع وبالحياة اليومية بمبادرة المراجعة والتحدث إلى الذات بمجريات نتائج قيادة تلك الأحزاب ميدانيا وما عادت به على العراق...

وأبرز مراجعة ينبغي أن تقف عند ذاك التطبيل المستمر للتعكز على أن الوضع العراقي الراهن سببه [فقط ولا غير] بقايا النظام السابق والإرهاب الدخيل على العراق من الخارج تحديدا من وعبر دول الجوار؟ في تصدير أو ترحيل للأسباب الحقيقية للجريمة...

ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: إنَّ من يشخّص السبب بدقة ينبغي له أنْ يعرف العلاج وأنْ يعرف وسائله.. فماذا فعلت تلك الأحزاب [الدينية] من برامج ووسائل علاج حتى الآن؟ وكم يلزمها من وقت للانتهاء من معالجة الأوضاع وتضخم الجريمة؟

إنَّ التجاريب البشرية تشير إلى أن أمورا كهذه لا يمكنها أن تقبل الجدل البيزنطي والسفسطات السياسية فحتى في أزمنة الرُّسل والأنبياء كانوا كما يرد في النصوص الدينية المقدسة نفسها، يعطلون طقوسا وعبادات ويؤجلون أداء فروض لانشغال إنساني قهري؛ كما يحصل على سبيل المثال في ظروف حروب تمنع من أداء الصلاة بمواعيدها أو ظرف قاهر يجبر على أكل محرّم أو إتيان مخالفة صريحة أو ظروف إنسانية كارثية تمنع من ممارسة طقس أو عبادة أو حتى عدم تنفيذ نص أو قاعدة أو أمر ديني بعينه...  

كل ذلك لأنَّ النص الديني بوضوح وصراحة أشار إلى أن الأولوية لسلامة الإنسان في صحته وفي أسبقية إنقاذ حياته وتأمينها وفي أهمية توفير أسباب الاستقرار والأمان والعيش السليم.. وذلكم من سماحة النص الديني وعدله ووسطيته ومنعه القطعي النهائي للتشدد والتطرف والغلو...

وبين الأحزاب الدينية التي تقود العملية السياسية [ببرامجها الطائفية بكل غلوائها ومغالاتها] والأحزاب أو الجماعات الدينية التي تتصدى للعملية السياسية وتقود حربها [بكل قسوتها ووحشيتها] نتساءل عن أية مصداقية لعلاقة تلك الأحزاب والجماعات الدينية (كليهما) بالنص الديني بسماحته ووسطيته واعتداله وما إذا كانت تلك العلاقة موجودة أصلا؟

ونتساءل لا النهايات عن التي يقودون الناس إليها ولكن عن الحاضر الماثل للأعين الذي يمعنون في السير فيه، على الرغم من أن المشهد الإنساني ما عاد إنسانيا في مأساويته وبشاعة مجرياته: إلامَ ينتظر المواطن لكي يحظى لا بحاجاته بل مجرد بأمنه على حياته وكرامته وعِرضِه؟؟!!!

إنَّ المطلوب من تلك الأحزاب - كون كثير من أعضائها عانوا في عقود الطاغية وكونها [تُعلِن] برامج تستهدف المواطن، أن تتصدى لما وصلت إليه الأمور بمراجعة جذرية جوهرية شاملة وأنْ تنسِّق بجدية مع جميع القوى الوطنية والديموقراطية والعلمانية وبالقبول ببرامج مدنية تُعنى بحياة الإنسان ومصالحه وتستطيع توفير الحلول المناسبة العاجلة الفورية المباشرة...

فما عاد إنسان يمتلك متسعا من الوقت يقضيه في انتظار الحلول السحرية لأية أحزاب أو قوى أو قيادات وما عاد لديه شيء يمتلكه ليقدمه لهذه القيادات إذ كل شيء قدّمه على مذبح المغالاة الطائفية وإرهاب التطرف والتشدّد وإذا كان المواطن يدخل طريق الموت (ضحية أو تضحية)  فلأنَّه يجده الأفضل بين خيار العيش ذليلا منتزع الكرامة مستلب العِرض أو الذود عن بقية من قيم الإنسانية ومبادئها..!

وهكذا لم يعد لدى تلك الأحزاب ما يمكنها مطالبة المواطن بجديد يقدمه ولم يعد للمواطن إذا أراد الحياة بحق أن يستمر أطول في التعايش مع تلك الأحزاب والقوى المرضية. وصار لزاما عليه  - وهو لن يخسر شيئا في توجهه –  لا أن يضغط أكثر وأوضح على تلك الأحزاب فقد انتهى زمن الحصول منها على شيء بل أن يتركها جرداء عزلاء وأن يتجه للبدائل الوطنية العلمانية وذلك هو البديل المطلوب لا الترقيعي الذي ما عاد يمكنه فعل شيء مناسب لهول المأساة..

مطلوب من المواطن أن يلتف حول البرنامج الذي يمتلك الوسائل الكفيلة بمعالجة الكارثة والخروج من قعر الهاوية وليس من برنامج بديل إلا برنامج وحدة وطنية فهو الوحيد بديل المحاصصة كونه برنامج المنطق العقلي العلمي الذي يمكن بوساطته أن نتعاطى مع الحياة المحدثة المعاصرة لا أن نحيا في مجاهل مغاور القرون السالفة...

ولا يمكن للجبة  والعمامة أن يكونا رداء لإنسان عصر الفضاء والعلم والعمل وفي وقت نحترم هذا الرداء ونجلّ زمنه ورجالات ذياك الزمن نقدّس في الوقت ذاته مصالح إنسان اليوم وحقوقه في الحياة الكريمة على وفق منطق زمنها ومجرياته وعلى وفق آليات الفكر الإنساني الصحيح القويم وبالتأكيد على وفق النص الديني الصحيح الصريح الذي يرعى الإنسان وحقوقه ولكن بعيدا عن القراءات الخطأ التي صاغتها الأحزاب والجماعات الدينية وعناصر فيها ذات مصالح ضيقة..

ولأنَّ زمن الجبة والعمامة قد انتهى بعد أن أدى دوره الإنساني، فإنَّ الجديد هو أن نخلع تلك العمامة ونطلق للعقل حرياته في إعمال منطقه الموضوعي الرصين في معالجة معضلات يوميات زمننا في مشكلات متنوعة في الاقتصاد والتعليم والصحة والصناعة والتقنية وتكنولوجيا العصر ومعلوماتياته وألكترونياته مما لا يصلح أن نعالجه بأوليات معارف الماضي بعد أن اكتسح العلم مجاهل الفضاء وأعماق الأرض ومكونات الأنفس البشرية...

لنلتفت إلى أنفسنا ونقرّ بأن الطريق الذي سلكناه خلف برامج الأحزاب الدينية لم يؤدِ إلا إلى مزيد من طغيان المستغلِّين وجرائمهم بحقنا وأن خطاب تسييس الدين وأسلمة الحياة على وفق برامج تلك الأحزاب وخطابها [الطائفي] أو [التكفيري] الإرهابيين، ما جلب إلا العنف الدموي وإلغاء كل معنى لحيوات البشر...

فلنمضِ ببدائلنا الحقة في طريق الحرص على مراجعة الذات جميعنا ومن أراد التمسك ببرامجه فلا غبار عليه وله ما أراد؛ ولكن إذا كان مخلص النية في تحقيق مصالح الناس فليترك المجال لبدائل أخرى تعالج الوضع قبل مضاعفات اللاعودة حيث يضيع آخر ما تبقى من الوجود العراقي.. وتلك أبسط مسؤولياته في الانتقال بعراق اليوم لغد إنساني مشرق... ولتتشابك الأيدي بعضها ببعض حيث قوة خطاب التسامح والسلام بديل خطاب العنف والانتقام!؟؟؟