في العراق الجديد ما جرى ويجري وما نتطلع إليه!؟

لترتقي الأحزاب العلمانية لمستوى المسؤولية وتتجاوز أزمات الثقة وضوائق الاتصال الجماهيري

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

18\09\2007

tayseer54@hotmail.com

 صحت القوى الوطنية والديموقراطية العلمانية مثلما القوى الشعبية العريضة على هول صدمة التغيير في نيسان 2003 وزوال - من حيث المظهر - كابوس الطغيان الجاثم على أنفاسها. فوجدت الحال وقد تداعى قطيعة بينها وبين الجماهير التي لم تتعرف لبرنامج حزب أو آخر لما جرَّه نظام الدكتاتورية عليها من طول قطيعة وتعتيم مطلق ومنع من العمل الجماهيري، فضلا عن تدمير أجهزة تلك الأحزاب وخنقها في زوايا العمل السري ومحاصرتها واستلاب فرصها في التنظيم وفي تطوير إمكاناتها حتى باتت شبه مشلولة عاجزة إلا ما ندر...

وفي الوقت الذي عادت بعض قوى اليسار الديموقراطي للعمل بحيوة جذورها عانت في الوقت ذاته من معضلات الخبرات المنسية المضيّعة أو الموزعة نهب الواقع الحياتي الذي امتصها في مجتمعات قصيّة أو في أوضاع غير طبيعية.. ولأن هذه القوى من الإخلاص ما جعلها بعيدة عن اغتنام زمن الانفلات والنهب والسلب للثروات الوطنية فقد التهمت القوى الغريمة الكعكة كاملة فمكنت نفسها من امتلاك ثروات خطيرة مستغلة إياها في السنوات العجاف الجديدة لتحظى بقصب السبق في ميادين قدراتها الانتاجية من جهة الأموال الموظفة في أجهزة إعلام هي أبواق تلك القوى الناهبة فيما قوى اليسار الديموقراطي تشكو الأمرين من ضعف الإمكانات المادية لتكوين منافذ اتصال مطلوبة في هذا الزمن...

وفوق هذا وذاك وُلِدت أحزاب وطنية ديموقراطية أو هكذا تسمي نفسها إلى جانب مؤسسات وتشكيلات مجتمع مدني شبيهة وكأن عامل التفريخ أو التفقيس هو الذي حلَّ في ميدان تلك الولادات التي ما أكثرها عددا وما أقلها شأنا وتأثيرا وقدرات حركة وفعل... وهذه القوى المشرذمة في حقيقة الأمر تولد رد فعل طبيعي لمعطيات الواقع المتحرر المنعتق من زمن القيود والحدود..   

ونضيف إلى جانب كل هذه الأمور ضعف في الإمكانات المتوافرة لانتاج برامج موضوعية دقيقة بسبب من حجب المعلومات وافتقار وجود دراسات ميدانية في الظروف القائمة وامتناع أجواء الوضع عن الاستقراء المباشر أو عقد الاستطلاعات المناسبة، ما يربك التخطيط ووضع البرامج الموفقة؛ ضِف على ذلك رحيل العقول العلمية المتخصصة بين التصفية الجسدية لمئات منها والتهجير القسري لآلاف أخرى فضلا عن المهجرين من قبل...

من هنا ينبغي لهذه القوى وتشكيلاتها التنظيمية أن تتصدى لمشكلاتها سواء في تقوية تنظيماتها وتطويرها على أم في خلق الأرضية الوافية لتوحيد بعضها في حزب وبعضها الآخر في جبهة وفي تنسيق بعضها الثالث في تحالفات عريضة لقوى اليسار والديموقراطية...

أما البقاء في حدود الصراعات الأيديولوجية الماضوية أو الراهنية فأمر لا تتحمله طبيعة الأوضاع القائمة ومن السابق لأوانه الانشغال بتلك الصراعات في وقت هذه القوى بحاجة للقاء جدي مسؤول يرتقي بها لمستوى مسؤولية مجابهة الأوضاع الكارثية القائمة...

إنَّ أي حزب يزعم اليوم حرصه على مصالح الجماهير ويقف بصرامة موقفا سلبيا من قوى رديفة بذريعة الخيانة العقائدية الأيديولوجية أو بذريعة الحرص على نقاء التنظيم إنما يقع فريسة الأوهام المضللة التي تسير به بعيدا عن واقع مسار الحياة الإنسانية وتضعه في خانة التنظير السلبي لصاح مسار موهوم بما يصب مزيدا من الزيت في نار التعقيدات التي تجابه قوى اليسار والديموقراطية..

وللارتقاء بمهام أحزاب اليسار عليها تجنب الحرج الأخلاقي السياسي في التعاطي في تحالفاتها وتنسيقاتها مع قوى ينبغي لها اليوم أن تضع يدها معها سواء قبلت أم لم تقبل لأن ظروفا بعينها تقهر باتجاه لا التنسيق بل  التحالف مع تلك القوى لتجاوز مرحلة التدمير الشامل..

فلعبور بحر هائج بسفينة متهالكة لا ينبغي أن نضع الأولوية في اشتباك هامشي أو ثانوي مع طرف يعبر معنا فيها، بل ينبغي أن نتكاتف وننسق سويا لعبور البحر ووصول السفينة موانئ أو شواطئ الأمان ومن ثمَّ هناك يمكن الحديث عن أية أمور أو فعاليات أخرى.. ولا يجوز لحكيم أن يعرف الحكمة تنظيرا ويتركها تطبيقا لأي سبب كان..

هنا يمكن الحديث عن قوى اليسار الديموقراطي بكل أشكالها وتنظيماتها وعن القوى الوطنية الديموقراطية بكل تشكيلاتها فهي معنية أولا بأمر التوحيد والتنسيق.. بوقف الحملات الأيديولوجية والتعاطي مع الواقع السياسي المباشر وأزماته الخطيرة.. أما تلك التشكيلات الوليدة الجديدة فينبغي لها أن تكون قرأـ في خلال المدة المنصرمة  أهمية الاندماج والتوحيد مع التنظيمات الشبيهة في البرامج وفي التوجهات أو على أقل تقدير ممارسة الاتحاد الجبهوي بوصفه درسا للوحدة الوطنية المتضمَّنة في برامجها...

وكل من يعز عليه أو يصعب عليه هذا الاتجاه سيجد نفسه بين حالين أما الاندثار والعزلة على أقل تقدير أو الوقوف حجر عثرة مضافة في طريق الحل الوطني للمعضلة العراقية وخدمة أجندات لا وطنية ولا ديموقراطية فلا يتبقى له من برامجه أو شعاراته إلا الألفاظ الكاذبة...

ومعضلة اللقاء والتوحيد تعترض حلها أمور منها أزمة الثقة بين الأطراف العاملة وهي أخطر أزمة تمنع التنسيق واللقاء وهي كذلك العقبة الكأداء التي تمعن في تعميق الاحباط وفقدان الأمل في الحل وفي تعاطي القوى المنتظرة لأدائه مع التوجه إليه فوريا وبشكل طارئ...

أما كيفية تجاوز معضلة الثقة هذه فليس الأمر مستحيلا إن كان شائكا، إذ يمكن وضع الشروط والمحددات المناسبة التي تكفل منع التدخل والتداخل بين التنظيمات ومنع الكسب لجهة على حساب أخرى في قلق من أي طرف أن تجري الأمور لحساب أطراف منافسة.. ولكن الأمر دائما سيكون لصالح التوحيد والتنسيق إذا ما تذكرنا أننا في سفينة تكاد تغرق ولا مجال للتنافس الحزبي أو الفئوي.

إنَّ العدو الطبقي الفكري \ السياسي الحقيقي هو ذاك الذي يتحدث عن فزاعة عودة قوى الماضي [البغيض] عبر بوابة (البعثي) أو عبر بوابة (العميل) أو عبر بوابات البازار السياسي في بيع الآخر وحتى بيع الشعب والوطن لتحقيق مأرب... وسيكون من الخطل السياسي وضع برامجنا تحت مقصلة التخويف وإثارة الرعب من أي جبهة أو تحالف أو تنسيق دائم أو مؤقت لمجرد أن الآخر موصوم بسمة أو بسياسة أو بتسمية بعينها تثير في الذاكرة بشاعة الماضي وتجاريبه! ولقد حصل هذا دائما عبر قدرة خطاب الإسلام السياسي في تفكيك إمكانات التنسيق ولا أقول التحالف الجبهوي بين القوى العلمانية بزرع بعبع الترهيب من التحالف مع قوى أصولها بعثية أو فكرها قومي عروبي أو ما شابه من التسميات فزاعة لمنع أي وسيلة للتنسيق بغية وقف تداعيات برامج الأحزاب الدينية الطائفية.. وطبعا هذا لا يضغط على قيادات القوى الديموقراطية حسب بل هم يضربون عصفور الجمهور أيضا بحجر الفزاعة هذا ليعزلوه عن أية قوة تتحدى إرهابهم وتخويفهم بهذه الفزاعة...

لكن تفكك التحالف الإسلام السياسي [الذي يدعي شيعيته] بدأ بالانهيار كأمر طبيعي لحقيقة كون قوى هذا التيار لا تمتلك البرامج الكفيلة بحل المعضلة بقدر ما تعمقها وكون قوى هذا التيار تمتلك برامجها ورؤاها المتنافسة عقائديا لدرجة من المغالاة والتطرف ما يجعلها مع تقدم الوقت تفترق بوضوح متنازعة على حصصها وحجومها وعلى أمور ضيقة لا علاقة لها بمشكل الشعب وأزمة الوطن... ومثل ذلك تحالف الإسلام السياسي [الذي يدعي سنيته] يتفكك للدزاعي ذاتها حتى أن قوى منه صارت تدخل تحالفات نقيضة له ولحليف الراهن بما يدخل تلك الأطراف معارك تصفية ووجود...

إن معركة قوى اليسار والديموقراطية تكمن في:

1.  تقوية تنظيماتها...

2.  وتطوير برامجها...

3.  والتحول بها من الشعارات والتنظير في التعاطي مع الأزمة إلى  التقدم بإجراءات وخطوط عمل ميدانية تطبيقية تخص كل فقرة برامجية وطنية ديموقراطية..

وسلاح هذه القوى في الانتقال للعمل والتنفيذ يكمن في حل مشكلة التشرذم ووقف رعب الخوف من مكونات التحالف وطبيعته. لأن المسار الجديد لا يمكنه بالمرة أن يدخل نفق دكتاتورية البعث التقليدي لا بطبعة 1963 ولا بطبعة 1968 ولا – بالتأكيد – بطبعة 1979... كما أن التحالف الجديد لا يركن إلى قوى عروبية حسب بل يستند إلى مكونات أخرى وإلى ميدان وبرامج نوعية مختلفة لا تكون بيده قيادة العمل بطرائق الطبعات القديمة..

وينبغي أن نتذكر أن استمرار الأزمة على وفق نهج أحزاب الطوائف هو الذي سيسلم السلطة مجددا لوقى العسكرتارية والمؤسسات القمعية الدموية ويلغي إمكان التحول لبناء مؤسسات الدولة الوطنية على اسس ديموقراطية.. بينما عبور الأزمة عبر التحالفات العلمانية على أسس ديموقراطية هو المنقذ من أية فسحة للعودة إلى الوراء..

ومجددا لابد من ذكر كل التيارات الحزبية الاشتراكية أو اليسارية العلمانية ومعها القوى الديموقراطية والوطنية الليبرالية لتكوين جبهة عريضة قوية في المرحلة الراهنة ويمكن لهذه القوة أن تشتد ساعدا بالتحاق كل القوى الفلاحية والعمالية بنقاباتها وتنظيماتها المتنوعة لتفعيلها ووضعها على سكة تنفيذ المشروع الوطني الديموقراطي...

من جهة أخرى فإن الخط التنسيقي الجبهوي يلزمه دعم إعلامي وقدرات اتصال جماهيري وتنظيم  لهذا الجمهور الغفير وقيادته خلف شعارات الوحدة الوطنية.. وفي الحقيقة لما نزل بعيدين عن لفّ الجماهير حولنا حتى هذه اللحظة على الرغم من علاقة وطيدة بها من جهة البرامج والأفكار ولكن ليس من جهة الآليات..

ونحن هنا بحاجة لفضائيات متطورة ولصحف واسعة الانتشار نشترك فيها فتعبر عن نهج موحد وخطاب موحد فضلا عن تهدئة المعارك الأيديولوجية وتجنب المعارك التي تشتتنا وذلكم ليس كبيرا على قبول برمجة وتنسيق جهود لاختراق منافذ موجودة وتوظيفها ولتوليد المنفذ المؤمل..

فهل ستلتفت القوى الوطنية الديموقراطية لتفعيل توجهها نحو توحيد جهودها ونحو آليات عمل بعينها؟ وهل سيجري الدعوة لمؤتمر القوى الوطنية الديموقراطية العاجل؟ وهل سنضع خطوات عملية لا نظرية لجهودنا؟ وهل سنجد أن مصالح الوطن والعملية السياسية ليست محصورة في شخص رئيس الحكومة ولا حتى فيما تبقى من أشلاء حكومة المحاصصة؟

أسئلة مفتوحة تنتظر إجابة على الأقل من صانعي القرار في هذا التيار النزيه ولكنه المكبل بما يعترضه ويعتريه............................