العراقيون بين الفديرالية والتقسيم

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

05\10\2007

tayseer54@hotmail.com

 

تطلع العراقيون بُعَيد سقوط الدكتاتورية إلى بناء عراق جديد تُحترم فيه المواطنة ويُعاد العدل في ميزان مكوناته وأطيافه من مختلف المجموعات القومية والدينية والمذهبية والسياسية، وقد جاء مبدأ الفديرالية حلا موضوعيا توافق عليه العراقيون وسجلوه دستوريا وسيلةَ َ حضارية لدولة عراقية جديدة في بنيتها ووسائل تنظيمها وبنائها ديموقراطي الاتجاه...

غير أن هذا المبدأ الدستوري أقصد "الفديرالية" يظل بين أجندتين متناقضتين هما: الأجندة الوطنية التي تسعى لتلبية تطلعات المجموعات القومية والدينية لما يعزز مسار تعايشها السلمي البنّاء وهو الأمر المتوافق عليه عراقيا؛ والأجندة الأجنبية ذات الطابع الذي يستهدف أمورا تتقاطع تناقضيا مع طموحات مكوِّنات المجتمع العراقي، المرفوض من شعبنا ومن قواه الوطنية السليمة..

وقد جاء أمر تقسيم العراق [فديراليا؟] في قرار مجلس الشيوخ الأمريكي ليصب الزيت في نار التعقيدات الجارية بالخصوص من جهة وجود قوى محلية مدعومة إقليميا تسعى لمثل هذا النموذج الموصَّف في القرار الأمريكي.. 

لقد كانت استجابة القوى العراقية للقرار متباينة ولكن أغلبها صبَّ في التعاطي معه من منطلقات تلك القوى وأهدافها وقلقها من تداعيات الأمور راهنيا ومستقبليا.. ومن هنا فقد عبرت شخصيات عن دعمها للقرار أما قلقا من تفويت الفرصة للتوكيد على مبدأ الفديرالية ولخلفية عدم توافر الثقة الكافية في احتمال تراجع أطراف عراقية أخرى عن مبدأ الفديرالية المثبَّت دستوريا أو تعبيرا عن محاولة تفعيل موقف دولي محدد من قضية مستقبل العراق ومبدأ الفديرالية فيه في ضوء ضغوط إقليمية سلبية معادية للفديرالية في كوردستان تحديدا كما في الموقف التركي...

ومع تفهم تام للقضية الكوردية ولإقليم كوردستان ولأهمية الاستجابة الثابتة لحقوق الشعب الكوردي في تقرير مصيره وفي خياره الاتحاد فديراليا في الدولة العراقية فقد جاءت تصريحات بعض الشخصيات الكوردية وترحيبها بقرار الكونغرس منصبة على الحالة الكوردستانية من جهة ومؤكدة على مبدأ الفديرالية مع تجنب الحديث عن مسألتين: كون المشروع يُدرس في مؤسسات دولة أجنبية بما يفضي لمنطق تبعية وتوكيد انتهاك سيادة دولة من دولة أخرى يجب على وفق القانون الدولي ألا تُجري أية تغييرات على الأرض حتى خروجها من البلاد.. والمسألة الأخرى تكمن في تجاوز خطورة استخدام مصطلح التقسيم [تحديدا الطائفي الخلفية] بتفريغ مبدأ الفديرالية من محتواه وآلياته لصالح فرض قسري للتقسيم ميدانيا بكل ما لحال التقسيم من قوى تنتهز الفرص لتمريره وهي المدعومة إقليميا والممتلكة لأرضية الأزمة العراقية الناشبة مخالبها في واقعنا الراهن...

ومن المهم هنا أن نؤكد تسجيل جملة ملاحظات بخصوص مسؤولية الطرف الأمريكي [والقوى الدولية المعنية بوجود القوات الأجنبية في العراق كالأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية] عن الحفاظ على سلامة الدولة العراقية ووحدة ترابها الوطني ومنع تمزيقها أو تعريضها لمشكلات أمنية تمس سيادتها وقيم الشعب ومبادئه وأساليب عيشه وخصوصيته في هويته... فالقوانين الدولية تمنع قوات الاحتلال من أية تغييرات على الأرض أيا كان نمطها...

وسؤالنا هنا: في أيّ بنود القانون الدولي ناقش الكونغرس الأمريكي قرار سيادي عراقي؟ وهذا هو الاعتراض الأبرز أسبقيةَ َ على القرار الذي كنا أشرنا لضرورة عدم إغفاله من أي طرف عراقي عند التفاعل مع القرار. بمعنى وجوب رفض تطبيع التدخلات الأجنبية وتعزيز ممارسة السيادة الوطنية العراقية من جميع مؤسسات الدولة العراقية والقوى السياسية والزعامات العراقية المعنية بالخطاب الرسمي...

الأمر الآخر يتعلق بتساؤلنا عن درجة معرفة الجانب الأمريكي أو أي طرف أجنبي لطبيعة المجتمع العراقي ومكوِّناته ودراسة هويته المخصوصة والتداخل والتفاعل بين هذه المكونات القومية والدينية.. ومن الواضح أن قرار الكونغرس يعكس الإجابة التي نشير إليها عندما يفرِّغ الخيار السيادي الوطني العراقي لمبدأ الفديرالية ويعيد تحميله بمضمون  التقسيم على أسس طائفية عرقية من دون أنْ يلاحظ بوضوح كافِ ِ أن نسبة 35% من العوائل العراقية تتشكل من زوجين أحدهما سني المذهب والآخر شيعي وأن نسبة مماثلة أخرى تتشكل من المذهبين حيث العشيرة الواحدة فيها قسم شيعي وآخر سني أي أن أكثر من ثلثي [الأغلبية السكانية] أي المسلمين بمذاهبهم المتعددة يشكلون تداخلا عائليا أو قرابيا لا يمكن بداهة تفكيكه بين التقسيمين الجغرافيين واحد للشيعة وآخر للسنة.. على أساس أننا لن نتمكن من إرسال الزوج لإقليم والزوجة لإقليم آخر أو أن نبحث عن تأشيرات إقامة لكل منهما على أساس التبعية الزوجية أو نحل مشكلات اقتصادية وإدارية من أمور الملكية وما إليها من خيالات سيجرها قرار التقسيم المتوهَّم إيجابيته؟؟

إنَّ الصراع الجمهوري الديموقراطي أمريكيا أو حتى داخل المعسكر الأمريكي الواحد للخروج من أزمة استمرار الحاجة لوجود قوات أمريكية لحماية الأوضاع الملتهبة المتدهورة في العراق، يمكنه أن يضع ما يضع من تصورات وخطط للوضع العراقي المأزوم؛ لكنه لا يمكن أن يعبِّر بالضرورة عن الحلول المثلى للأزمة العراقية... وأنه للوصول إلى حل يمهّد لخروج القوات لابد من العودة لإرادة الشعب العراقي ومؤسساته الدستورية السيادية وقراءته الصائبة للأمور... وبالمناسبة لو لم تكن الويلات المتحدة الأمريكية توجد داخل العراق بكل ثقلها العسكري لما كان لأمر ما يدور داخلها تجاهنا مطلوب التفاعل معه بكل هذا الحجم ولكن مناقشة أمر التقسيم وإن كان غير ملزم لا يمكنه أن يمر من دون تعبير صريح وشديد اللهجة من جانب العراقيين أيا كانت التغطيات التي يمرر بها مثل هكذا قرار خطير...

مؤكدين مجددا أنّ حلّ التقسيم [المطروح باسم الكونغرس الأمريكي أو باسم أطراف فيه] يحاول اكتساب شرعيته بتسمية أو غطاء الفديرالية يتناسى أو يغفل وحدة المجتمع العراقي ومكوناته وأنَّ هذه المكونات ليست في حال من الاحتقان والتصارع كما يحاول بعضهم تصويره وما كانت يوما كذلك. وأن الحقيقة تكمن في فرض طبقة سياسية تعيش حالة الاصطراع على خلفية برامجها تلك التي فرضت قسرا نظام المحاصصة الطائفي الأثني وهي التي تعمل ليل نهار على ضرب وحدة النسيج العراقي ولكنها لم ولن تستطيع ذلك على الرغم من مسلسل حملات متصلة للميليشيا الطائفية التي تسطو على الأوضاع وتعمل على التطهير العرقي الطائفي للوصول إلى فصل تام يحقق لها نوازعها التي تعبر عن برامجها تلك التي دهورت الوضع ففشلت في حل القضية العراقية وفشلت في الاستجابة لمطالب الشعب العراقي بكل مكوّناته بضمنه المكون الطائفي الذي تدعي هذه القوة أو تلك الدفاع عن تطلعاته... ومن ثمَّ فالحل ليس في التقسيم بل في نزع فتيله بإزالة سطوة تلك الطبقة الميليشياوية العنفية في الجنوب والوسط العراقيين...

ونحن العراقيين جميعا، بناء على هذا الفشل في البرامج التي تعمل على فرض رؤيتها الطائفية التقسيمية لا يمكننا القبول بفديرالية مفرغة من محتواها ومعبأة بمضامين مختلفة نوعيا عن  آليات الفديراليات المعروفة في التجاريب الإنسانية الكلاسية والمعاصرة؛ الفديرالية المعبأة بنقيض طبيعة المجتمع العراقي والمتعارضة مع تطمين حاجات نسيجه الموحّد، ومن ثمَّ التي لا تستجيب لتحقيق مطالب مكوناته ومصالح الشعب بكافته..

وإلى جانب كل ذلك سيكون لإضعاف أو تفتيت العراق بين كانتونات منفصلة أثره على تسهيل التدخلات الإقليمية والدولية فيه وعلى توفير أرضية تقسيمه ومن ثمَّ شرذمته إلى دويلات تمهّد لحرب أهلية عبر تمكين البرنامج الطائفي المتطرف من الواقع العراقي الأمر الذي سينعكس على منطقة الشرق الأوسط بتوازنات إقليمية خطيرة تتبادل الآثار السلبية المدمرة للأمن والاستقرار ما يهدد السلم العالمي وإثارة أزمات خطيرة على مستويات السوق والاقتصاد الدوليين والتبادل التجاري المحلي والدولي بخاصة بشأن الإفادة من الثروات النفطية لصالح شعوب المنطقة والشعب العراقي تحديدا... وهذا وحده سبب كافِ ِ للولايات المتحدة إذا ما أرادت البحث عن فرصة لخروجها المبكر من العراق أن تلفت إليه لتتأكد من أ، التقسيم ليس مقدمة لخروجها بل مقدمة لتورطها في مستنقع خطير من الفعاليات المتفاقمة خطرا عليها وعلى البلاد والمنطقة...

 

عليه، لابد للعراقيين من تأكيدهم على الأسس الآتية:

1.    استقلال العراق ووحدته وسيادته ومنع التدخلات الإقليمية والأجنبية في خطاباتهم الوطنية وتوجهاتهم كافة وفي بناء علاقاتهم مع أية أطراف غير عراقية...

2.    بناء جسور الثقة الوطيدة في توكيد الاعتراف بفديرالية كوردستان ومبدئية وجودها وتطويره وتمكين إقليم كوردستان من الحقوق الدستورية الصريحة الصحيحة الثابتة بتطبيق الفقرات التي مازالت تنتظر التنفيذ والحلّ...

3.    التوكيد على أنَّ مبدأ الفديرالية أمر دستوري يجري تنفيذه على وفق متطلبات الواقع والظروف الراهنية القائمة وليس على وفق أرقام حسابية لتواريخ تـَسقط قدسيتـُها عندما تتعارض مع مصالح الشعب وفئاته.. فالخطأ ليس في المبدأ المتوافق عليه ولكن الخطأ أن يوضع الأمر الصحيح في موضع غير موضعه أما بسبب الصيغة أو الآلية كما في مقترح الفديرالية الطائفية وهي الصيغة التي تعني في جوهرها وحقيقتها العودة لدويلات الطوائف التي انقرضت تاريخيا ولكنها آلية قوى بعينها لاختراق الوضع العراقي وشرذمته وتقسيمه؛ أو بسبب من اختيار التوقيت غير الصحيح بالعمل على تنفيذ فدرلة العراق في وقت يحتاج لمعالجة أولويات أخرى أصلح لتعزيز مسيرته وبناء مؤسسات دولة العراق الجديد بدلا من العمل بآليات وأسقف زمنية لا نظر للواقع ولمصالح العراقيين الحقيقية...

4.    الالتفات إلى أهمية إصدار البيانات المناسبة التي تنظر إلى الأمور باستراتيجية وبُعد نظر وحذر من الوقوع في لبس الخطابات بما يثير التشاحن والاحتقان ومن التطرف الذي يشطر المواقف بين الأطراف فيُباعدها ويمهد لمخاطر أكثر مما هو جارِ ِ..

5.    الحذر التام من الوقوع فريسة الاختلافات المؤسسة على الافتراضات وحالات التوهم وانعدام الثقة بينما المطلوب اليوم مزيدا من التلاحم والوحدة والتنسيق إن لم نقل تسامحا ومصالحة وطنية ثابتة الجذور لتفعيل مسيرة وطنية سليمة...

 

وبعامة فإنَّ هذا الموضع بحاجة لمناقشات جدية أوسع تفصيلا نظرا لما يشكله من مخاطر مهولة على مستقبل العراق والمنطقة بخلاف ما تطلع إليه العراقيون وما عوّل عليه جيرانهم من أهمية وجود عراق قوي يمثل المدخل لتوازنات إقليمية مطلوبة...