الأزمة التركية الكوردية وترحيلها نحو العراق وآفاق حلول

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

29\10\2007

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

 

   تستمر تداعيات موقف القادة الترك  في التوجه لاجتياح أراض عراقية... ولابد هنا قبل معالجة الموضوع، من التوكيد على جملة حقائق في الإطار: أولها رسوخ وحدة شعوب المنطقة وأبناء القوميات المتعايشة في بلدان إقليم الشرق الأوسط الجديد، على خلفية مشتركات غنية وكثيرة وذات تاريخ ممتد طويل...

ومن ذلك العلائق الجدية العميقة بين الشعبين الكوردي والتركي.. سواء في البلدين الجارين العراق وتركيا الحديثين أي مذ ولادتهما المعاصرة، أم في إطار تركيا نفسها حيث وشائج العلاقات الوطنية والإنسانية والدينية واضحة راسخة بعمق تاريخهما البعيد والوسيط...

إن الشعبين الكوردي والتركي يجدان تطلعاتهما المستقبلية ذات آفاق موحدة إنسانيا وهما يشاركان في بناء هذا المستقبل سويا على خلفية وحدة المصير.. ما يعطي فرصا لتطوير الأجواء السلمية البناءة لحاضرهما...

وبخلاف ذلك يقع المحظور فقط على صعيد الشحن السلبي من قبل بعض قيادات تتوهم خلاف هذا التطلع، بخاصة تلك التي تنتمي لفكر شوفيني قومي استعلائي أو لعنصرية مقيتة مجّها الفكر الإنساني ورفضها بل حرَّمَها ووضعها في قائمة الاستبعاد والحظر...

ونحن نجد تلك القوى التي تمتلك بعض فرصها في سطوة على الإعلام وتجد زرعها يثمر في وسط التهاب المشاعر والانفعالات وتصعيد التوتر والشحن القومي وخطاب التحديات العنترية مانعة فرص الهدوء وخطاب السلم والحوار بمنطق العقل والمصالح الإنسانية المشتركة... وهي بهذا تظل في دائرتها الضيقة الأفق والجمهور.

إنَّ هذه التوجهات تتعارض مع حقيقة أن المرجعية الدينية الواحدة ظلت لزمن طويل لا تتعاطى مع الانتماء القومي لتلك المرجعية حتى أن أمثال الشيخ سعيد ابن عشرينات القرن المنصرم الكوردي كان هو المرجع ليس للكورد بل وللترك أيضا بلا حساسية أو تمييز وهذا يعني وحدة نسيج الدولة التركية على هذه الخلفية.. فيما الاستعداء القومي المفتعل يتقاطع مع هذه الحقيقة الراسخة تاريخا وحاضرا ومستقبلا، فهل من الترك مَن يقبل خطاب الاستعداء مع أبناء مجموعته الدينية ومن يشترك معهم في هذه السمة التي تمثل عصبا أساسا لمجتمع الدولة التركية سواء لمن ينتسب للترك أم للكورد...؟

وفي ضوء الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن تحكِّم  القوىالتركية والكوردية موقفهما عند النزول للشارع الملتهب ومن ثمَّ ليتخذا موقفهما في ضوء هذه الوحدة العميقة الغور في وجدانهما وفي طباعهما المشتركة ليؤكدا تلك الوحدة وذياك التفاعل الوطيدين، سواء كان الذي نتحدث عنه من التيار العلماني أم الإسلامي فهما مكونان من مكونات المجتمع التركي والكوردي بطابعهما المشترك الموحد هذا...

كما يذكر الوجود المشترك حالات بنّاءة من العلاقات بين الطرفين وفضلا عن ذلك فإنَّ الأرضية التي يقبلها منطق العلمنة ليست تلك التي تزيد الفصل العنصري أو القومي المتشدد فتجارب الشعوب  ونظمها العلمانية حسمت هذا الأمر في ضوء تجاريب البشرية وحروبها الدموية العبثية التي أطاحت بكل إيجابي للبناء الإنساني ما جعل العظة الأكيدة هي في التفاعل الإيجابي البناء لا في غيره...

إذن لا الأساس الديني المشترك يدعو لغير ما ورد في النص الديني المقدس "وخلقناكم قبائل وشعوب لتعارفوا" أي لتتعايشوا وتتفاعلوا سلميا وهو أساس موجود في التكوينين التركي والكوردي. ولا الأساس العلماني يسمح بالشحن القومي والاستعداء على أساسه بعد تجاريب التاريخ البشري والحروب الكارثية البشعة التي حصلت في ضوء اتباع القوى المتشددة قوميا الشوفينية والعنصرية..

ونذكر هنا أن تركيا تتجه للانتساب للاتحاد الأوروبي. وهو الاتحاد الذي قام بديلا للاقتتال وقام للتآخي ولمحو الفواصل بين الشعوب والقوميات ووقف آثار التقاطع أو الاختلاف والحساسيات وأسباب الشقاق والحروب..

ومن هنا فإنَّ المنتظر من جماهير المجموعتين القوميتين الكوردية والتركية ومن قياداتهما الاجتماعية والسياسية أن يتوجها إلى أعمق أشكال التهدئة والانتهاء قطعيا من أي أسباب للشحن قصير النظر الذي لن يؤتي إلا الدمار ولغة الانتقام والثأر الدمويين وعلى مدى زمني بعيد.

فيما المطلوب ضبط النفس وتحريك قدرات منظمات المجتمع المدني للعمل السلمي ولتوكيد التوجه نحو أية حلول ليس من مفرداتها العنف والحلول العسكرية لا المفرطة ولا العادية.. وبها سيحظى التركي بموضوعية الرأي وبدولة قوية تقوم على الحريات والإخاء والكوردي سيحظى بالتأييد الأوسع بخاصة منه المضاف دوليا..

 

من جهة ثانية ما كانت أمة حرة وهي تستعبد أمة أخرى.. وتلك حكمة معروفة للبشرية وما استقرت أوضاع أمة وهي تستعلي على أخرى وتستغلها أو تتحكم بها وتلغي خصوصيتها.. وما  دام يوما سلطان أمة تستعبد أخرى.  وبثبات دوما تحررت الشعوب والأمم والقوميات من ربقة عسف العبودية قصر الزمن أو امتد...

إنَّ رفض الشوفينية والاستعلاء ينبغي أن يرافقه موقف مبدئي ثابت بالمساواة وبالاعتراف والعمل بمبدأ الإخاء وإقرار حق تقرير المصير لكل الشعوب على قدم المساواة وبالوضوح الكافي والتام. وفي وقت تُدافع الشعوب عن وجودها الوطني ينبغي لها أن تدافع بالحرص ذاته عن مكونات ذاك الوجود الوطني من أثنيات وقوميات ومجموعات دينية وغيرها...

والقوى الحية لدى الشعب التركي تحترم هويتها الدينية وتؤمن بمبادئها العلمانية ومسيرة التحديث والعصرنة التي تقوم على أسس الديموقراطية وفلسفتها في بناء الدولة ما يتيح أوسع جمهور يتعاطى مع احترام تعايشه مع الكورد من منطلق احترام حقوقهم وإنصافهم بتحقيق العدل والمساواة والإخاء..

وتلك من منطلقات تركيا الحديثة التي وُلِدت بديلا لأية أخطاء ماضوية ونهض بها أبناؤها بالأمس القريب ويسيرون بها اليوم نحو اللقاء الحضاري الجديد بالانتماء لعالم بلدان الديموقراطيات في أوروبا ما بعد الحربين الكونيتين...

وفي ضوء هذه المسيرة صارت طلائع الترك ترى في إقرار التعايش مع الكورد حقيقة تمهد للأشكال البنيوية المؤسساتية المناسبة لمثل هذا التعايش القائم على  تبادل الاحترام وحقوق الإخاء والمساواة بين الطرفين...

ومن هنا فإنَّ صوت هذه القوى يتحمل المسؤولية اليوم لكي يعلو في اللحظة الحاسمة المنتظرة وليس في أية لحظة أخرى مؤجلة. ومثلما يجري تجييش العسكر والتوجه لتحشيد القوى خلف قيادة تنتهج خطاب العنف والاحتراب ينبغي تحشيد مقابل لقوى السلم والتهدئة والوحدة الوطنية على أسس ديموقراطية ومن ثمَّ على أسلوب استخدام لغة الحوار ومناقشة السبل والأشكال المؤسساتية الكفيلة لمسيرة تركيا الأوروبية، تركيا التي تؤشر رقي مجتمعها وتعاطيه مع الديموقراطيات الوطيدة..

ولأن كل ولادة تحتاج لرعاية فإنَّ مسؤولية الإعلام الدولي وتحديدا الأوروبي والشرق أوسطي والقيادات في هاتين المنطقتين صارت اليوم من الضرورة ما ينبغي فيها دعم خطاب مسؤول للتهدئة ولمنع التمادي والتداعيات السلبية الخطيرة المحتملة جراء ترك الأمور تسير باتجاه الاحتقان..

وأول مسؤولية تكمن في وقف النفاق الدبلوماسي الذي يمنح القيادات التي تتعاطى مع الحلول العسكرية والعنف المفرط لحل المعضلة وتمرير إشارات الضوء الأخضر لتلك القيادات لتتورط في العملية العسكرية الدموية الواسعة.. من مثل أنَّ قوات التحالف وتحديدا الولايات المتحدة لن تتدخل بين طرفي النزاع(تصريحات أمريكية)  ومن مثل إنَّنا ندعم القيادة التركية وحسمها العسكري... (تصريحات إيرانية) وكلا الحالتين تفوِّت تلك المواقف في لغة مهمشة تتحدث عن الحلول الدبلوماسية دفعا وتغطية لجوهر التوجه وضوئه الأخضر للعنف...

وبقدر تعلق الأمر بالوضع العراقي المشحون والملتهب فإنَّ هذا يستدعي:

1.  موقفا رسميا واضحا وحاسما للأمم المتحدة من التوجهات التي تصر على لغة العنف المفرط.. وينبغي هنا أن يصدر بيان يعالج جذور المشكلة من أساسها فضلا عن الواجبات تجاه العراق الجديد وأوضاعه المخصوصة.. تحديدا منها في ضوء العلاقة بالأمم المتحدة...

2.  موقفا أوروبيا واضحا وصريحا من الحلول المطروحة من بعض قيادات تركيا العسكرتارية.. لا يسمح بالتمادي في أساليب العنف المفرط...

3.  موقفا منتظرا من جامعة الدول العربية مؤسسة رسمية إقليمية مسؤولة مع تفعيل للدور الإقليمي العربي من العراق ومن القضية الكوردية بعمومها في مختلف أرجاء وجود الكورد... يتظر لمخاطر الأوضاع حاضرا ولا ينسى التفكير اسلاتراتيجي المستقبلي في العلاقة بين الأمتين العربية والكوردية..

4.  تفعيل منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية التركية والكوردية وتنشيط فعاليات جماهيرية لمقابلة التحشيد السلبي بتعبئة موضوعية مناسبة..

5.  تتحمل قوات التحالف مسؤولية واجبة وقطعية في التصدي لأي اعتداءات وتجاوزات تهدد الحدود العراقية وتهدد أبناء العراق وكذلك تلك التي تهدد لجوء أنفس بشرية هاربة من مطحنة العنف وإرهاب الدولة أو التي ترفع مطالب إنسانية مثل حقوق البشر ومثل حق تقرير المصير لشعب وأمة بخاصة في ضوء اتفاقات دولية معقودة وعلى خلفية وعود رسمية جرى إغفالها فكانت هذه المشكلات الخطيرة..

6.  موقف رسمي للحكومة العراقية يتوجه لاستخدام كل الطرق المناسبة مؤسَّسا على مبدأ الدفاع عن أبناء الشعب العراقي بأطيافه وعلى رفض مبدأ التمييز بين مكونات العراق على خلفية أي تقاطعات بين القيادات السياسية...

إنَّ المشكل اليوم يقوم بين طرفين الأول يملك القوة والسلاح وخطاب العنف كما في بعض قيادات تدير الأزمة سواء من الترك أم من غيرهم ويقف مع هذا الطرف أو يساعده في نهجه كل حال التداعيات الأزموية وتصاعد لغة التحشيد والشحن الشوفيني العدائي وفوضى وارتباك الأوضاع في المنطقة [من مثل الإرهاب الذي يعصف بالعراق]  إلى جانب إعلام غير مسؤول في تعاطيه مع الأزمة مع قيادات ذات دبلوماسية منافقة تعطي الضوء الأخضر لعمليات عسكرية وعنف منفرط منفلت...

فيما الطرف الآخر يتمثل في أبناء شعوب المنطقة وقياداتها الحكيمة التي تتبنى بثبات لغة السلم والتهدئة ومنطق الحكمة والتفاعل الإيجابي ولكن هذه القوى بمطالبها الإنسانية والقومية المنصفة لا تمتلك في الأجواء الحالية إمكانات توجيه دفة الأمور ولكنها تمتلك فرصها للقاء وتوحيد الجهود وصبها فيما يخدم الحلول الصحيحة الصائبة التي تعالج القضية من جذورها وتنتهي من تداعياتها وتعقيداتها...

ومن هنا فإنّ جزءا مهما من الحل يكمن في:

1.   وقف التصريحات العلنية المتشنجة من أطراف النزاع كافة.

2.   الدخول في مفاوضات مبرمجة تستند لأسقف زمنية في التعاطي مع مفردات القضية..

3.   التعاطي مع القضية كونها قضية تركية داخلية. وأن العراق غير معني بها بشكل مباشر ومن ثمَّ وقف أية توجهات لفرض أية صيغة قسرية وبأية طريقة لتوريط العراق بالقضية..

4.   في إطار فلسفة ديموقراطية وضع حلول جوهرية للقضية الكوردية والتأسيس لعلاقة بصيغة مؤسساتية مناسبة مع كوردستان تركيا..

5.   صياغة اتفاقات وقرارات للعفو العام الحقيقي غير المشروط أو المحدد باستثناءات... والاعتراف الرسمي بحزب العمال الكوردستاني وبرامجه ومشروعاته ومقترحاته السلمية مقابل نزع سلاحه نهائيا...

6.   القبول برعاية دولية وتسجيل مسار الحل في إطار الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لكل من القضية الكوردية في تركيا وقضية الاجتياح التركي ووجود القوات التركية في الأراضي العراقية ومن ذلك أيضا معالجة وجود القوات الكوردية لحزب العمال في إطار الحل الشامل..

 

 

إنَّ قبول الطرف العراقي بكل مكوناته وتأكيده على الحلول السلمية وتجنب العنف والحلول العسكرية لا يعني أن العراقيين صاروا خارج إمكانات الدفاع عن أنفسهم حتى بوجود حال من الاختلافات السياسية أو التقاطعات بينهم أو حتى في ضوء ظرفهم الخاص من جهة الوضع السيادي أو من جهة مسائل وجود إمكانات عسكرية أو عدم وجودها عراقيا وعدم وجود نية أو رؤية مناسبة لدور القوات الأجنبية في التصدي لمسؤولية حماية الأرض العراقية..

ولابد من تذكر أن مصير أي مغامرة عسكرية لن يكون أفضل من مصائر الحروب العبثية التي جربتها البشرية ولم تجد منها غير الخراب ولم تجنِ سوى المآسي والعودة في النهاية لجادة الصواب ولكن بعد تضحيات وآلام ومجازر.. والعاقل والحكيم من يتخذ الطريق الأقوم والأسلم في التوجه إلى الحلول الأنجع المفيدة لجميع الأطراف الخيِّرة وأولهم شعوب المنطقة من ترك وكُرد وعرب...

ولابد من تذكر أنه مهما كانت ظروف العجز النسبي أو السلبية المؤقتة عراقيا أم عربيا فإن الوضع لن يستمر وهو يمتلك أرضية فعل وحركة إيجاب ليست بعيدة  عن الظهور المميز في استجابتها المؤملة..

وأول تلك التفاعلات سينعكس على أول لقاء بين دول الجوار في تركيا ذاتها كما سيكون له أبلغ الأثر على مستقبل التعاطي مع شرق أوسط جديد لا يقبل لغة الهيمنة ولغة إغفال الديموقراطية وحقوق الشعوب بخاصة في تقرير مصائرها...

والعبرة تبقى في وحدة مصير المنطقة ودولها وقوة أرضية حركة الشعوب وتنامي دورها في تحديد المسيرة وفي استخدام آليات السلم والحوار والانتصار لخطاب العقل بدل لغة العنف وموجته ممثلة في بعض برامج منظمات أو في إرهاب الدولة.. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح ولابد من تنازلات الحكماء من أجل الخير والإنسان... ومن أجل تجنيب الشعوب مآسي احتراب القيادات والإدارات...