تفعيل القضاء واستكمال تفاصيل المؤسسات المساعدة في تحقيق الأمن والعدالة

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  12\ 02

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

 

                               نقترب اليوم من مسألة غاية في الأهمية ألا وهي الانتهاء من صياغة الدستور والانتقال إلى مرحلة تشريعه بالاستفتاء الشعبي الرسمي ومن ثمَّ مواصلة العملية الديموقراطية في إقامة حكومة وطنية منبثقة عن برلمان منتخب من الشعب على وفق القوانين الأساسية الثابتة. ولكن كلّ مفردات هذه العملية لا يمكنها أنْ تتمَّ بغير وجود آليات وصمامات أمان تشرف على جملة الفعل وشرعية مساره وصحة تمثيله عامّة الناس. وليس تلك الصمامات إلا القضاء العراقي المنتظر منه العودة إلى أصول العدالة ومنطقها بما يحفظ لكلّ صوت وجوده وتأثيره وعدم التجاوز عليه أو المساس بقيمته وأهمية شرعنته الحياة العامة وتفاصيل مفرداتها.

                                 مِنْ هنا كان لابد للمعنيين بالأمر من سلطات مسؤولة أُسنِدت إليها مسؤولية القرار الرسمي في البلاد أنْ تُعنى بتفعيل القضاء العراقي وحمايته من التدخلات وعليه هو (أي القضاء) التحصّن ضدها باستدعاء كلّ ما من شأنه تحقيق الهدف المنشود. وسيكون من دواعي التفعيل تدعيم سلطة القانون بوساطة إيجاد جهاز شرطة على مستوى المسؤولية لتنفيذ قرارات العدالة القضائية وهو من ناحية جوهرية وسيلة أولية ومفردة من مفردات ضبط الأمن وحمايته وتعزيز تأثير كلمة القضاء وفعلها الإيجابي في الحياة العامة.

                                   بمعنى واضح  وجب اليوم قيام كلّ تلك المؤسسات الأمنية المتنوعة التي تحتاجها البلاد في ظرفها الدقيق من جهة كوننا اليوم في حالة كارثية نحتاج فيها لأوسع حالة تعامل مع شروط الطوارئ مع ما تقتضيه من عدم التجاوز على على أمن المواطن والوطن, بُعَيْد التحرر من نظام كبت الحريات وسلب الحقوق وانتهاك الحرمات.. وهنا لا نجد الاتساع المؤقت في المؤسسات الضابطة للأمن  ولظروف الطوارئ أمرا مخالفا للحريات ولحقوق الإنسان بقدر ما هي تحقيق لكلِّ ذلك وتقريب لأوسع ممارسة ديموقراطية في حياة عراقنا...

                                   وفي واقع الحال هل يمكن للقضاء إذا ما عمل أفضل جهوده وأرقاها أنْ يتواصل بفاعلية في تأثيره إذا لم يمتلك ذراعه لتنفيذ القرارات؟ وهل له أنْ يحقق العدالة في زمن سطوة القوة ومنطقها الأعوج إذا ما صدر قرار عادل وبقي مجرد حبر على ورق؟ في هذه القراءة نشدِّد على أهمية أوسع قوة حماية وتنفيذ وأفضلها تدريبا ولكن ليس على أساس منطق الكبح والمصادرة التي سادت بالأمس وإنَّما على أساس تدعيم العدالة والخضوع لقراراتها الشرعية والبقاء ذراعا في يدها وليس فوقها أو أعلى من سلطتها.. وهكذا ستكون شرطة اليوم في حالة من العودة القانونية المستمرة إلى القضاء المتصلة به في أيّ فعل من أفعالها وعلى وفق ما سجّله القانون الأساس وتفاصيله أيضا...

                                  أما القضاء نفسه فعراقنا غير منقوص العناصر القضائية الصحيحة الراشدة وفيه من الكفاءات ما يمكن أنْ يسدَّ أوسع مساحة مطلوبة اليوم, غير أنَّنا لا ننسى حاجتنا الجديدة لمعهد القضاء العالي المتخصص وإلى مساعدات من المنظمات الدولية ذات العلاقة ومن الدول الصديقة في الإطار بخاصة ونحن ننتقل إلى مهمات خطيرة نحن بمجابهة قرارات حاسمة فيها.

                                  فغير مسألة المحاكم الاعتيادية والقضاء في المؤسسات وفي الحياة اليومية العامة, فنحن بصدد إنشاء محاكم متخصصة [ولا نقول خاصة تجنّبا لمعطياتها المتعارضة مع منطق العدالة والشرعية], المتخصصة بمحاكمة مجرمي النظام السابق من أولهم ومن وقف على رأس نظام الجريمة وحتى أصغر من شارك فيها ومن الطبيعي التعامل مع منطق المتهم برئ حتى تثبت إدانته ومنطق الشرعية والعدالة وتوفير الأسس القانونية الصحيحة لمثل هكذا محاكمات حتى لا تكون العملية مجرد عملية ثأر أو ردّ فعل سلبي لا يحكمه ضابط ولا قانون ولكنه في إطار الانضباط القانوني لن يغفل قضاؤنا لحظة عن تحقيق مصالح كلّ ضحايا العراق الجريح بل الذبيح وانصافهم من مغتصبي حقوقهم طوال السنوات العجاف المنصرمة.

                                    ومع ثقتنا الأكيدة بمحاكمنا وقضائنا فنحن نريد بالاستفادة من الدعم والمساعدة الخارجيين أمرين: أولهما الإفادة من التجاريب التي سبقتنا في الإطار والآخر اطلاع العالم على مفردات تجربتنا من جهة عدالة قضائنا ومن جهة فضح حجم الجريمة التي أُصِبنا بها ومن ثمَّ لكي يكون ما سينجم عن تلك المحاكمات درسا مفيدا على الصعيد الإنساني العام.. وغير هذا وذاك فهي شهادة دولية وهي أيضا حق لكلِّ مَن تضرر من نظام العدوان الذي لم يترك جارا قريبا ولا بعيدا لم يطاوله بأذاه وبعدوانيته الوحشية. ولكنَّ الأكيد هو عدم ترك محاكم أجنبية تتولى الأمر على قاعدة سيادة الدولة العراقية على مواطنيها في جميع الأحوال والظروف وهي الوحيدة الكفيلة بمعالجة شؤونهم أو على الأقل المشاركة العليا والأساسية في التعامل مع قضاياهم بخاصة منها تلك التي حصلت بحق الوطن والشعب في الداخل ...

                                    إنَّ معالجة مسألة محاكمة مَن قام بجرائم ضد الإنسانية وجرام الحرب وجرائم الإبادة الجماعية وتلك العنصرية والطائفية وما إليها أمر ضروري الانتهاء منه اليوم قبل الغد واستصدار  القرارات القضائية العادلة بحقهم من أجل الانتقال على أسس صحيحة للعراق الجديد من جهة ومن أجل توفير الأرضية الشرعية لهذا الانتقال من غير ذيول الماضي بتأثيراته السلبية على الحاضر والمستقبل القريب. وليس من الصحيح أنْ يكون الانتقال بغير أفضلية جدية ملموسة للقضاء ومنحه الصلاحيات الكافية والأدوات المناسبة للتفاعل مع تطورات الأحداث الجارية بثقة ونزاهة وصواب...

                                      وبغير اهتمام أكيد و وطيد بإشكالية القضاء ووضع الأولوية اليوم لها, سنجابه في الغد القريب مشكلات عويصة في مسار صنع الاستقرار الدستوري وشرعية مؤسسات البلاد العليا.. وأول الأمور نجابه فيها الاستفتاء على الدستور بل صياغته ذاته قبيل عرضه على الاستفتاء. وبعد ذلك إجراء الانتخابات والإشراف عليها وعلى مفردات نزاهتها وعدالتها وما يمكن أنْ يقع في الإطار مما له علاقة مباشرة بوجود القضاء وأدواته المتكاملة. أقول ذلك بعد ما يشبه الانتهاء من مرحلة تشكيل مؤسسات الحكومة بكل ما مثلته من أهمية وأولوية في الشهور السابقة واليوم لدينا مرحلة جديدة (متسارعة) أخرى هي مرحلة صياغة الدستور وعرضه على استفتاء الإقرار والتحول إلى الانتخابات العامة والبلدية وانبثاق  الحكومة الوطنية الشرعية .. فمَنْ سيكون وراء كلّ هذه الفعاليات غير القضاء؟ وهل يمكن لنا إنجاز شئ منها بغير تفعيل جدي وحقيقي له ولدوره؟

                                 ولكي لا نقول لات ساعة مندم ينبغي اليوم أنْ تكون الحلقة الأساس في عملنا هي استكمال مؤسستنا القضائية ومفردات ما يلحقها من تفاصيل وعلينا تذكر حقيقة الحاجة لمؤتمر موسَّع لقضاتنا ليقرروا  ما هم بحاجة إليه وما ينبغي تحققه في الظرف القائم باستقلالية عن الإملاءات السياسية والأهواء التي تحكم رغبات هذه المرجعية أو تلك ممَّن يبحثون عن توجيه مستقبل العراق على وفق تصوراتهم الاعتقادية دينية أو مذهبية طائفية أو سياسية أو ما إلى ذلك ممّا يتعارض مع صحة استقلال القضاء وصواب نهجه العادل عندما يكون بعيدا عن تلك التدخلات أيّا كان مصدرها ومنطق محاولات شرعنة تلك الفروض الخارجة عن الاستقلالية والنزاهة والحيادية الإيجابية الفاعلة...

                                    لا تتأخروا في البتِّ في أمر اليوم فبعد التوفيق وإنْ لم يكن المتكامل التام في تشكيل مؤسسات الدولة ببعض تفاصيلها الأكثر أهمية نحن اليوم بصدد مهمة المرحلة الجديدة المتعلقة بتفعيل القضاء ولكنَّ تميُّز هذه المهمة يقوم على أهمية أنْ ينهض القضاة بالجزء الأساس من المهمة وأنْ يطلبوا هم ما ينبغي لاستكمال عملية التفعيل والعمل في ظروف قويمة مؤاتية... ومن الطبيعي أنْ يكون هذا الخطاب موجها إلى القوى السياسية الفاعلة من جهة وإلى مؤسسات المجتمع المدني التي من واجبها النهوض بالدراسات الضرورية وبتقديم ما يعالج الإشكالية جذريا.. ومن المؤكد أنَّ لموضوعنا هذا بقية تكتبه أقلام المتخصصين من ذوي العلاقة والشأن فنحن في سباق مع ظروفنا المتشابكة وكلّ لحظة فيها تنبو عن إشكالية وعن أولوية تضاعف علينا الجهد وقد يتعقد أمر ما مضى من الموضوعات التي لا نسطيع معالجتها في مرحلتها... 

                                                           

1