حرية تعبير أم سطوة المتسترين بالدين؟!

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

           21\02\2008

tayseer54@hotmail.com

 

حاول بعض مسؤولين في بعض الجامعات العراقية أن يطلب إزالة الشعارات الدينية وأشكال التعبير الطقسي الديني من الحرم الجامعي ومن قاعات الدرس  فكانت النتيجة تصفيتهم الجسدية أو في أفضل الحالات ابتزازهم ومصادرتهم بالتهديد.. وحاول مسؤولون أن يزيلوا ذلك من مؤسساتهم فجابهوا ما جابه العلماء والأساتذة.. ومرّت الأمور من دون تعليق لا من رئيس حزب ديني ولا من ممثلي الكتل الطائفية في الحكومة والبرلمان...

بالأمس أمر معالي وزير الصناعة العراقية  فوزي الحريري بإزالة لافتات كتبت عليها شعارات دينية من على جدران الوزراة وأروقتها فثارت سجالات محتدمة  ودفعت قوى بعينها بجمع من المتظاهرين بزعم أن رفع تلك الشعارات والمظاهر هو ضرب من الحجر على التعبير وحريته!؟

ولكن، عن أيّ حرية تعبير يتحدث خطاب الأحزاب الدينية ومن تدفع بهم بالخصوص؟ أليس هو ذاته الطريق ذو الاتجاه الواحد؟! اتجاه  تغطية الطريق بكل جزئية منه باللافتات السود وشعارات دينية طقسية طائفية وعدم ترك أية مساحة أو فرصة أو مجال لأي رؤية أو تعبير آخر للظهور..

وهذي الأحزاب والقوى المتسترة بالدين وخطاب الطائفية هي ذاتها [والوحيدة أيضا] التي تمتلك ميليشيات التسيّد على الشارع وتكميم الأفواه ومنع أي شكل للتعبير لا ينضوي تحت مشروعها وخطابها حتى أنها دخلت في صراعات بعضها مع بعض لأن كل فريق يدّعي أنه الممثل الوحيد لله على الأرض!!!

ولأننا والمجتمع العراقي بأطيافه صرنا الضحية في مثل هذا الصراع؛ ولأننا والمجتمع العراقي بأطيافه لسنا ضد الدين ونرى أنّ اعتناقه يظل مقدسا ومبجلا.. ولأنَّ الدين علاقة روحية بين الإنسان و ربّه، فإنَّ أحدا لا يمكنه أن يضع نفسه وسيطا بين هذا الإنسان والله، ولا يمكن لبشر أن يكون نائبا إلاهيا على الأرض يحكمها قسرا وتخضع لإرادته وسلطانه كرها وواجبا ملزما!!

ولأنَّ الاعتقاد والإيمان الروحي متعدد الأديان، متعدد المذاهب، متعدد الاجتهادات، غني الطقوس متنوعها حدّ الاختلاف والتقاطع؛ فإنَّه لا يجوز فرض رؤية أو اعتقاد أو إيمان على آخر.. ولقد ورد في النص الديني المقدس أن لا إكراه في الدين.. ولكم دينكم ولي ديني...

ولأنَّ الدين النصيحة، ولأنَّه يبقى أمرا روحيا بين الإنسان وربه فلا يجوز أنْ يفرض إنسان ما يراه ويعتقد به على الآخرين. ومن ثمَّ لا يجوز له أن يجيِّر مؤسسة اجتماعية مشتركة بين الجميع لدين أو مذهب أو معتقد أو إيمان بعينه لمجموعة أو فئة واحدة بعينها..

ولأنَّ مؤسسات الدولة هي صيغة للعلاقات بين الناس المستقلي الإرادة، الأحرار في رؤاهم ومعتقداتهم، المتساوين في وجودهم.. فإنَّ تلك المؤسسات بحاجة لضمان حياديتها وابتعادها عن الخضوع لأي مؤثـِّر اعتقادي ديني لطرف أو آخر حيث مؤسسة الدولة تخضع لقانون مشترك متوافق عليه..

ولضمان علاقة حرة تؤدي مهامها بروح المساواة والعدل والإخاء يجب تحرير مؤسسات الدولة من كل صيغة عمل تفرض رؤية بعينها.. أو تعبيرا طقسيا دينيا أو سياسيا قسريا.

فللتعبير عن الاعتقادات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية أو الممارسات الطقسية لمجموعة دينية أو طائفية يلزم أن يخضع التعبير للقواسم المشتركة مع الآخر بحيث ما يمكن لطرف أداؤه متاح للطرف الآخر بالتساوي...

وهكذا لا يمكن السماح لطرف أن يمتد في مساحة تعبير ديني على حساب الآخر في موضعين:

1.   موضع مؤسسات الدولة كافة حيث يلزم تنزيهها من أية علاقة تبعية للخطاب الديني تحديدا؛ نظرا لخصوصية وحساسية هذا الخطاب الاعتقادي وللأسباب التي مرّ ذكرها وطرائق التعبير المذهبي الطائفي وما إلى ذلك...

2.   موضع يقع في كل الميادين المتاحة الأخرى التي تظل مشروطة بحجم متساو من التعبير حتى لو توافرت لطرف إمكانات مادية لاحتلال جميع الجدران والشوارع فذلكم غير وارد في مجال التعبير.. فلرفع اللافتات في المناسبات الرسمية وغير الرسمية أصول. يلزم أن تتحدد بشروط وقوانين تضمن التساوي في التعبير فتتحدد أماكن الإعلان السياسي والديني ولكل مكانه وحجمه ولكل ضريبته المعينة المحددة بقانون وإلا سيتحول التعبير لممارسة منافسات سلبية تضطهد الآخر وتخرق الديموقراطية...

3.   وعليه يجب اليوم قبل الغد أن تقوم مؤسسات الدولة بمهامها في وضع الشروط واللوائح التي تضبط صيغ التعبير بما يجعلها متاحة بالتساوي والعدل وبطرائق صائبة وصحية وبعيدا عن تجيير وإخضاع وإلحاق بإكراه أو قسر.. وبدلا من أحادية الخطاب السياسي المعبر عنه بالدكتاتورية نجد الخطاب الأحادي السياسي الجديد المميز بغلافه الديني وإدعائه بتمثيل الديني في حين تمريره السياسي بكل مفرداته ومستهدفاته..

 

إنَّ قضية ممارسة الطقوس الدينية تظل قضية اجتماعية دينية بحتة لا يجب تمرير فرض فلسفة سياسية بعينها تحت ستار خطابها الاعتقادي ولا يمكن أن تكون قضية إخضاع مؤسسات الدولة وإشاعة الغطاء المطلق للحياة العامة بالرداء الديني إلا قضية أداء سياسي حزبي يتعمد استغلال الدين وخطابه لمصالح سياسية بعينها والصواب لا يمكن أن يكون إلا بإبعاد هذا الغطاء المزعوم لكي تتوافر فرص التعبير الحقة المتساوية لجميع المواطنين بلا اعتداء من أي نمط وعلى أية فلسفة تأسس...

وفي ضوء ذلك يلزم للبرلمان أن يصدر القانون المحدِّد لهذا الأمر وأن تلتزم المؤسسات الرسمية للحكومة بتنفيذه بدقة وألا يجري خلط الأوراق بما يعني وجوب مراجعة جميع الأحزاب لخطابها وأدائها لتجنيب الوضع العراقي مزيدا من التدهور...

فهل سترتقي الزعامات الموجودة لمستوى هذه المسؤولية؟ وهل ستعمل الأحزاب على أداء واجبها الوطني على حساب المصالح الحزبية الضيقة؟ أم أن الأمر يلزمه قانون وسلطة وطنية حقة حازمة في تنفيذه إلى جانب الوعي الوطني الذي يُلزِم القيادات بوقف تلك الممارسات؟؟؟