هل يُكتَب القانون الأساس للمجتمع العراقي  على وفق

المرجعيات السياسية ونسبها المفترضة؟

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  12\ 04

E-MAIL:  TAYSEER1954@naseej.com

                              

                               تعمل قوى سياسية عراقية في إطار تجاذبات ومنافسات واضحة على فرض مصادرة مسبّقة تقوم على رؤاها الفكرية الخاصة مفترِضة تشكيلها الأغلبية الانتخابية التمثيلية وكذلك القاعدية التي يشيرون فيها لمساندة مطلقة من أغلبية عراقية تنتمي إلى الإسلام وإلى مذهب محدد منه بالتحديد بالإشارة إلى طائفة أو مذهب (كالشيعة) وهكذا نجد عددا من الحركات السياسية الدينية أو الطائفية التوجه تقدِّم نفسها الممثل لهذه الفئة التي يفترضون تشكيلها الأغلبية ويفترضون أنَّها معهم بالمطلق؟! ومثل هذا المبدأ يتمّ تداوله عندما يتعلق برسم مصدر التشريع في البلاد وسمته الدينية المخصوصة بالأغلبية القائمة اليوم مفترضين مرة أخرى موافقة هذه الأغلبية في أصول تسميتها على تصورات الحزب السياسي القائم على المشروع الديني لحكم البلاد وتوجيهها...

                                وبأية حال من الأحوال لايمكن لطرف أنْ يستبق الزمن والظروف لكي يفترض حصوله على تمثيل هذه الفئة أو تلك. ولا يمكن لأي طرف أنْ يستبق الوضع الإحصائي ليقول بنسبة هذه الطائفة أو تلك الديانة أو ذاك المذهب أو أنْ يستبق الوضع الانتخابي ليقول :  إنَّه ممثل الأغلبية وسياسته هي وسيلة الحكم وغايته. إنَّ فلسفة العدالة والديموقراطية تحتِّم على الجميع الخضوع للإحصاءات الدقيقة لمجمل السكان ومن ثمَّ للنتائج الانتخابية والاستفتاءات الشعبية العامة. ولا مجال لاتخاذ أي سبيل آخر إذا ما أردنا السير في طريق بناء عراقنا الجديد القائم على التعددية وتداول السلطة واحترام الآخر...

                                 أمّا ما يتعلق بالمكوّنات القومية والدينية والمذهبية للمجتمع العراقي, فلم تكن في الحقيقة في يوم من الأيام مصدر إقلاق وعدم استقرار وانشطار عندما كان الأمر يتعلق بالإنسان العراقي البسيط فلطالما عشنا على مدى الزمن سويا في حالة من الوئام الإنساني ولم يجد منّا (من أيّ من الأطراف) نفسَه في حالة اصطدام أو كره أو انشطار وصراع مع الآخر بقدر ما جرى التعاضد والتعاون والتفاعل الإيجابي بين جميع الأطراف وتشكّلت قيادات عدد من الأحزاب السياسية المتنوِّرة والعلمانية بعيدا عن مثل هذا التقسيم بل كان فيها عميق الاحترام لمثل هذا التنوع والتعدد..  ولم يزايد طرف على طرف في أغلبية أو أقلية..

                                  وما يجري اليوم من تلك التيارات المتشددة المتطرفة (وهي تيارات وليدة مرحلة مضطربة وغير اعتيادية) ما يجري منها هو محاولة للاستباق وفرض الرؤية الأحادية الخاصة إنَّما يأتي من أطراف ليس لها من الحظ ومن الوجود بالنسبة التي تزعمها  وتدعيها وتخص الإشارة هذه أكثر ما تخص الإسلام السياسي وتعمّقه في القراءة الدينية حيث يلتزم التفسيرات الطائفية والاجتهادات المذهبية ليفرضها في ضوء أرضية ديموغرافية تظل دائما حسب رؤية مغلقة وخاصة وقراءة تغالط المبادئ والتصورات الديموقراطية الصائبة...

                                     والسؤال هل قامت جهة إحصاء رسمية لهؤلاء بقراءة نسب مكوِّنات الشعب العراقي في الظرف القائم.. وهل تذكروا في قراءاتهم أسس التنوّع في مجتمعنا؟ وهل يرون في مكوِّنات شعبنا الأساسية من المسيحيين والصابئة والأيزيديين واليهود ومن القوميات من كرد وكلدوآشوريين وتركمان وأرمن وغيرهم.. هل يجدون في كلّ هؤلاء تابعين من دافعي الجزية أو أنَّهم سيمنحونهم صدقة اعتراف بهم فيقدِّمون شيئا من الحقوق فضلا عليهم وتكرُّماَ َ؟

                                     إنَّنا بمجابهة حالة التنوع والتعدد في مجتمعنا العراقي لا نجد حلا للأمر إلا بالمساواة وباحترام الأطراف كافة بعضها بعضا من غير تمييز بين كبير وصغير في أسس العيش المشترك فليس صائبا بالمرة أنْ يحكم طرف طرفا آخر ليسجِّل البلاد والعباد ملكا خاصا به ليتصدق بعد ذلك فيمنح ما يشاء من حقوق ويحجب ما يشاء على وفق منطق شرعيته السياسية (حيث لا وجود فيما يخص الدستور البشري الإنساني لمنطق اسمه التشريع الديني) إذ أنَّ أمر الحكم هو أمر سياسي وما يؤخذ من الدين ونصوصه إنَّما يؤخذ بمنطق الاجتهاد السياسي لا غير فإذا قيل إنَّه النص الديني خرج الأمر عن المشترك بين أطراف الحياة داخل البلاد فما الذي يعطي الحق لطرف ديني أنْ يحكم طرفا دينيا آخر بإيمان مختلف وباعتقاد مختلف؟!

                                         فليس من منطق أنْ يستبدل كلّ هؤلاء من قوميات وديانات تتعايش في بلادنا سلطة دكتاتورية لطاغية فرد وأهوائه بأخرى دكتاتورية وإنْ بمنطق مغاير يستند إلى ادّعاء تمثيلها السلطة الإلهية على الأرض.. وعليه فإنَّ تسيير المظاهرات من فئات معينة مرّة تطالب باستبعاد هذا الوزير لأنَّه لا يروق لفكر متشدد متطرف أو بفرض مادة على الدستور تؤكد أحقيتهم بملكية أرض العراق وما عليها وما في باطنها ومَنْ يقطنها! لا يشكل أيَّ أساس من العدل؟ ولا أيّ  معنى من معاني الحرية والمساواة وجوهرهما في عراقنا الجديد؟ 

                                          وفي الوضع الراهن حيث بدأنا مسيرة حسم صياغة الدستور؛ وحيث نحيا طبيعة الضغوط التي تمارسها مختلف الأطراف نشاهد ما تقوم به تلك الأطراف من  تنسيق ومن تبادل الأدوار بحسب الظروف المحيطة وتلك القوى تتشظى وتتشعّب وتتعدد ولكنَّها وإنْ تعددت فإنَّها تعمل على فرض إرادتها ذات الخلفية الطائفية المحدودة  حتى داخل تيارها المذهبي المعيّن أو المعلوم ومن ثمَّ كتابة الدستور على وفق منطقها الاعتقادي المحدود أو المغلق الخاص بها.. ولكننا مرة أخرى نؤكّد على حقيقة واضحة وضوح الشمس وينبغي ألا نختلف عليها وهي أنَّ الدستور عقد اجتماعي يتوافق أو يتواضع عليه أبناء البلاد سويا من غير تمييز بين كبير وصغير أو قوي وضعيف بل لا منطق بعد اليوم لقوي يفرض نفسه على ضعيف..

                            كما لا يجوز أنْ يمتلك مواطن حقوقا أكثر من أخيه المواطن الآخر لمجرد كون الأول ينتمي إلى مجموعة قومية أو دينية تشكِّل أكثرية إحصائية ففي الحديث  عن حقوق الإنسان لا يمكن فيه القبول بالتمييز بين فرد وآخر بسبب انتمائه الديني أو لأيّ معطى آخر أيديولوجي أو سياسي أو غيره.. وهو ما سيقع بالحتم عندما ينبني دستورنا على وفق مرجعية الأغلبية والأقلية..

                           إنَّ الدستور لا يمكنه إلا أنْ يُعنى بتسجيل الخطوط العامة المشتركة للمجموعات والفئات والمكوِّنات بتفاصيلها لمجتمع بعينه وهو يشير إليها من منطق المساواة وعدم إغفال طرف مهما صغر حجم تعداده الإحصائي. على أنَّ الدستور رؤية موحّدة لكلِّ المواطنين من غير تقديم وتأخير في الحقوق والواجبات ومن دون أنْ يُسجَّل في الدستور أيّ إشارة لمرجعيته لجزء من الكلّ مهما كبُر حجمه الإحصائي ولكنَّ ما تجري الإشارة في إليه في الدستور هو المساواة والعدالة ومنع التمييز وليس غير وليس العكس..

                                        والدستور قراءة واحدة مشتركة علمانية بمعنى تساوي بين الجميع وتمنع التفرقة والتمييز والتشتيت والتعادي والتباغض. وهذا لا يعني مطلقا ميزة لإلحاد على دين بل ينص الدستور على احترام الاعتقاد وضمان ممارسته ولكنه لا يمكنه أنْ يفرض اعتقادا أو يقدِّمه على غيره لمجرد أنَّ معتنقيه بالأمس أو اليوم أو من المحتمل غدا سيشكلون الأغلبية. ومَنْ يقول إنَّ المسجلين في ديانة أو مذهب أو سكنة منطقة أو إقليم هم جميعا يلتزمون الاعتقاد نفسه أو المذهب نفسه أو يرجعون في سياستهم إلى هذا الحزب الديني أو الطائفي أو ذاك.

                                        وبحصر التمثيل وتشخيص الخطاب نُسائل أصحاب الحديث عن الأغلبية وربطها بصياغة الدستور (نسائلهم) مَنْ الذي يقول إنَّ الشيعة جميعهم يتبعون مرجعية واحدة؟ أو حزبا سياسيا واحدا؟ ونحن نعرف كم من الأحزاب الدينية موجود بينهم وكم من الأحزاب القومية والليبرالية واليسارية العلمانية ينتشر بينهم.. ومن ثمَّ لا يمكن لمنطق أنْ يدعي أنَّه الممثل الوحيد وأنَّه مَن ينبغي أنْ يُصاغ الدستور في ضوء اجتهاداته وأفكاره.. بخاصة عندما يتعلق الأمر بفرض تصور ديني أو مذهبي أو طائفي ..

                                       ولنقرأ على مجتمعنا السلام حتى يستطيع النهوض من جديد لتصحيح مساره إذا ما شرَعنا اليوم بكتابة دستورنا على وفق اجتهاد طائفي أو مذهبي أو حتى ديني .. وعلينا إذن بكل تسامح أنْ نتفق على العدالة والمساواة والتعاضد والتعايش بسلام ومحبة بعكس بغضاء الفرقة والخلاف وصراعاتهما .. فحقيقة أيّ كتابة هي عودتها إلى مرجعية ولا مرجعية في الدستور إلا للتواضع والاتفاق بين الجميع على الخطوط العامة وعلى أية تفاصيل يمكن التوصل إليها بشكل مشترك ولنترك مواضع الخلاف للقياس على مواضع معالجة الظرف الذي تحصل فيه الإشكالية من الهيئات الدستورية العليا ولكنه سيكون من أشد المخاطر تثبيت مادة في الدستور لا يوجد عليها إجماع أطراف مكوِّنة لمجتمعنا..

                                           دستور اللحظة الراهنة ينبغي أنْ يكون دستور التسامح ودستور إلغاء كلّ ما يمتّ للطغيان والتفرّد والأحادية واستلاب الآخر حقه في الوجود وفي الخضوع لقانون لايسلبه إنسانيته أو يستهين به ويُشعِره أنَّه مواطن من الدرجة الثانية فالمواطنة واحدة في البلاد وهي فوق وقبل أي اعتبار آخر. وإلا فسنقع في ورطة ومشكلة وُجِدت بالأمس ونحن نؤسِّس لوجودها اليوم وغدا فهل يجوز الأمر بمعروف على منطق هذا الداعية والنهي عن منكر ذاك المرجع .. فقد يكون منهم من هو على حق ولكن ألا يمكن أنْ يكون منهم من يكون غير مصيب وليس على حق فيما يزعم ويدعي ولا يوافقه آخرون على ما يرى ومن ثمَّ فهو لا يملك حق أنْ يفرضَ نفسَهُ وتصوراته بوصفها حقا مقدسا لا يمكن تجاوزه لأنَّ اجتهاده هو في أية حال يظل اجتهادا محصورا فيه هو بالخصوص وفيمن يرتئِي اتِّباعُهُ..

                                           ولا دستور عادل بل لا صحة لدستور بغير مساواة وبغير توافق وإجماع بين أطراف يحتكمون إليه فكيف يحتكم المرء إلى ما يُفرَض عليه بالغصب والإكراه؟ وعليه لا يُكتَب الدستور برأي جهة أو مرجعية سياسية معينة مهما كان حجمها ومهما كانت ميزتها ولكنه يُكتَب برؤية توافقية وبالتراضي والقبول والاتفاق .. وعلينا بعد هذا وذاك أنْ نقرأ جميع الرؤى للوصول إلى المشترك اتفاقا لا تنافسا وتسابقا وصراعا فالحديث يجري عمّا يحدِّد مصيرنا المشترك ومستقبلنا المشترك ولا توجد إشارة واحدة يمكنها أنْ تؤكد نجاح الإقصاء والاستلاب وتسيّد الموقف على حساب الآخر لذا كان لزاما وحتما الاتفاق والتوافق وعدم انفراد مرجعية أو جهة في كتابة الدستور أو إبرازها وتصوراتها على حساب الآخر ...                                     

 

 

1