المسرحية الكوردية في المهجر: "الخراب" لكاميران رؤوف نموذجا

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

2008/07/27

أستاذ الأدب المسرحي

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

لم يتكلّس ويتجمد ذياك المسرحي المهاجر لظروف قسرية دفعته لهذي المسارح القصية.. وحال المسرحي الكوردي كحال زملائه المسرحيين من المبدعين في الوطن وفي المهاجِر.. إنَّه المكافح الفاعل دوما بحيوية ونشاط من أجل مواصلة مثابرة لانتاج مسرحي ثر غني التجربة.. لقد انعكس في كتابته عميق التعبير عن المعاناة وعن الهموم والمشكلات والموضوعات الحياتية التي ناقشها المسرح يوم وُلِد في جذوره السومرية أو الأغريقية ويوم صار ميدانا للتعبير عن ذهنية عقل النهضة التنويري في مسيرة البشرية في راهن عصرها.

من يتابع المسرح في عدد من الدول الأوروبية وغيرها سيجد المسرحي الكوردي يقدم تجربته سواء في مشاركته الأعمال المسرحية بلغات أخرى أم في تقديمه تجربته باللغة الكوردية نصا وعرضا.. ولنا في أسماء مهمة من المسرح الكوردي مثلا في هذا.. وكثير من هؤلاء المسرحيين نسوة ورجالا يتابعون دراساتهم الجامعية المتخصصة تعزيزا لتجاريبهم الإبداعية الأمر الذي يَعِدُ بتعميد تلك التجاريب وتطويرها ودفعها إلى مصاف التجاريب المميزة القادرة على العطاء الأفضل وعلى المنافسة الأبعد...

أذكر من بين التجاريب التي تابعتها هنا في المهجر تجربة الفنان الرائع كاميران رؤوف الذي قدم عددا من الأعمال الفنية سواء بالهولندية أم العربية إلى جانب تجاريبه المميزة بالكوردية...وبالكوردية قدم مسرحيته الخراب التي فازت يومها بتكريم رابطة الكتاب والفنانين الديموقراطيين العراقيين في هولندا وبأربع جوائز في المهرجان المسرحي الكوردي الثالث (هي جوائز: الإخراج والتمثيل والديكور والإنارة) وهي في الحقيقة تمثل تجربة مسرحية مهمة من حيث إعلانها عن تصميم المسرحي الكوردي على المواصلة مثابرا على الرغم من الظروف المحيطة القاسية في المنافي القصية...

وبشأن نص مسرحية الخراب أقول: إنني اطلعتُ على النصِّّ العربي فيما تابعتُ العرضَ المسرحي باللغةِ الكرديةِ، ولأنَّ العرضَ المسرحي كان قد ركَّز على الكلمةِ أداة مهمة بارزة في رسالة خطابه ومستهدفاته ولأهمية معالجة النص المسرحي، ينبغي لهذا السبب ومن بابِ الإنصافِ أنْ أقولَ: إنَّ ما يتعلق من ملاحظاتِِ تهمّ الترجمة أمر ينبغي تجاوزه هنا، فليس من الصائبِ تكوين قراءةِ ِ أو نقدِِ لعمل على أساس ترجمةِِ غير متخصصة بمعنى عند مراجعة النص العربي سنجد لغة يعتورها عديد من الملاحظات النحوية واللغوية المعجمية والصرفية وهو ما أتجاوزه للتركيز على جوانب أخرى..

فإذا لاحظنا أنَّ الجملة على وفق نصها بالعربية تحملت ثغرات عديدة فإنَّ "البنية الدرامية" وخطابها الجمالي هما ما يعنينا عند مناقشة هذه المسرحية مؤملين أن يناقش المختصون جوانب الأداء اللغوي بنصه الكوردي في موضع آخر.. وسلفاََ نسجِّل أنَّها [أي مسرحية الخراب] تقدم نفسها (حواريةَ َ) تتجنَّب اعتماد الوقائع وتتخذ من السرد والوصف وسيلة لتعبيرها الفني.. ويأتي ذلك على لسان الشخصية (المونو) ...

ومن المؤكّد أننا إذا استبعدْنا حاجة المسرحي للقدرات الإنتاجية عند تعدد الشخصيات؛ أقول إذا استبعدنا هذا السبب الخارجي في اللجوء إلى مسرحية من طراز (المونودراما)، فإنّ مثل هذا التوجه قد يكون من بعض دوافعه عمق الأزمة التي طاردت الإنسان العراقي بخاصة في أزمنة المنافي والمهاجر التي وضعته في اغترابِِ عن محيطِهِ أولا وعن نفسهِ ثانياََ كما عزلته لاحقاََ فجعلته في حالة من الانقطاع عن بيئته ومجتمعه الذي غادره قسرا وكرها مقتلعة إياه ونتاجه عن تلك البيئة الطبيعية فأعملت ماكنة السحق فيه...

كل ذلك هو ما شكل مُتصوَّر المثقف لأوضاع طحنت المواطن في زمن الطاغية ونظام الدكتاتورية السابق وفي أحيان عديدة اليوم في ظل سطوة المافيات وقوى الإرهاب من بقايا النظام المهزوم وأشباهه.. وهكذا لم يكن لا للمواطن ولا للمسرحي  العراقي والكوردي سوى الرحيل منفرداََ في عالم حُلُمي، عالم الواقع العبثي اللامعقول.. ولقد نزل المستحيل عن صهوة جواده وترجَّل ليخْلي الساحةَ لهمجية غير مسبوقة..

إنَّ كل هذا العنف وسلطته هو ما جسّد محاولات كاميران رؤوف كما في مسرحيته (ذكريات) ومثلها مسرحية (الخراب).. مكتفيا هنا بالتركيز على محاولة (مسرحية) الخراب للتعبير جماليا عن رؤية إنسانية عميقة المضامين، وعسانا بهذه القراءة الموجزة نسلط بعض الضوء على ما أرادت تلك المحاولة المسرحية الإعلان عنه ومعالجته مسرحيا من مثل إشْعال لهيب الاحتجاج والتعبير عن مكنونات الصدور بالضد من مشهد مرضي تسببت فيه قوى "الخراب" تلك.

مجددا ومرة أخرى تعزف القيثارة المسرحية [الكوردية] على أوتار حوارية الشجن الإنسانية؛ فالإنسان في الخراب ينطلق من عقوبة السجن التي تصادر حريته وتلغي حق التفكير عنده ليجابه سجن العقوبة سجنا أكبر، هو سجن الواقع المريض الذي انفصل عنه قسرا. وها هو يجابهه بقسوته وثقل جرمه عليه.. أليس كل ما قدمته المسرحية هو الخراب بعينه؟‍ لا شئ يساعد على وصف هذا الواقع سوى الواقع نفسه وهذا ما فعلته مسرحية كاميران "الخراب" بعرضها الذات الإنسانية بشخصية بطلها.

ولاستكمال دلالات النص ومعطياته نتحدث عن الإخراج الذي يمنحنا فرصا تفسيرية مضافة وأود أن أضع وصفا نقديا عاما بهذا الصدد يساعد على إبراز التجربة المسرحية [الكوردية] في المهجر بطريقة أوضح.. فــَــ عادة مخرجنا العراقي بعامة أن يستفيد من مدارس إخراجية متنوعة اعتمادا على روحِِ يجمع بين الكلاسي والحداثي أو بصيغة أخرى على روح تجريبي يبحث في توظيفِ الخبرات وألوان المدارس في خدمة توصيل الفكرة. ومن الطبيعي لمثل هذا الهدف أن يستبعدَ مدارس الإبهار واعتماد التقنياتِ المعقدة في تشفيرِ العملِ الدرامي كما عند فوخس وكريج وآبيا وجوفييه وجاستون..

وفي الوقت ذاته يُركِّز مخرجنا على الممثلِ بوصفِهِ خالقَ العرض مثلما هو الحال في تجريبية مييرهولد وتايروف وواقعية ستانسلافسكي ودوق ساكس مايننغن (جورج الثاني). وطبقتْ عروضُ مسرحية عراقية وكوردية عديدة هذا التوجه مثلما عملت على توظيف [ آلية قراءة قطعة مقتبسة] على لسان الممثل في أدائه لدوره على وفق ما جاء به غروتوفسكي ومسرحه الفقير.

ومثلما ستانسلافسكي راح مخرجنا (كاميران رؤوف) يمعن التركيز على قوة الفكرة عبر الأداء الصوتي وطاقاته التعبيرية متحدا بتوظيف توافقه مع الحركة الجسدية التي ظهرت دائما مستندة لامتلاك الحس الموسيقي في إيحاءات الإخراج والتمثيل عند كاميران وهذه سمة تمثل استفادة [من] وعودة إلى رؤى مييرهولد. وبتذكر ديكور الخراب سنتأكد من توجهه لكسر حاجزَ مسرحِ العلبةِ .. وكأنَّ جاك كوبو يُلتزَم في انفتاحِ الخشبةِ على الصالةِ وفي إلغاءِ إضاءةِ البروسينيوم لكي يتم محو الحاجزِ بين الممثلِ والجمهورِ وهو ذاتهُ الفعل الذي نعرفه في إبقاءِ مييرهولد على أنوارِ الصالةِ مفتوحة مشتعلة لرفعِ حرارةِ الجمهور وتفاعلهِ مع العرض..

 ومثل ذلك لاحظنا إفادة خطة كاميران الإخراجية في مسرحية الخراب من الحركةِ لتوليدِ الصورِ الحُلُميةِ ورفضِه الإبهار مع توظيفِ التقنيةِ لخدمةِ الكلمةِ حسب بيتوييف وبيتر بروك. ويمكننا القول إنَّ تلك الخطة الإخراجية قد عملت على استخدام رمزيةِ ِ دالةِ ِ عند تعلّق الأمر بالديكور[نذكِّر بجورج بيتوييف] ومع أن مسرحية كاميران (الخراب) كانت قد اعتمدت الممثل في تقديم العرض إلا أنها لم تذهب لما كان يفعله تايروف من إهمال قيمة التقنية والإبقاء على الخشبة حالةََ من المسطحات بلا زخارف بل عادت إلى توظيفات جورج الثاني وأنطوان المعبرة واقعيا من حيث الصلة بين الممثل وبيئته ـ الديكور ـ    ورمزيا في خدمة الفكرة وتقديمها عبر القيم البصرية أو في سينوغرافيا العرض.. وهي على أية حال مسرحية لم تكن غروتوفسكية مقترة (أو من المسرح الفقير) وإنْ كان الأمر على العموم محاولة من كاميران لتلافي الظروف الآنتاجية العسيرة وخوانقها الصعبة...

وفي مثل هذا الاختيار لظروف إنتاجية معقدة ذهبت مسرحية كاميران بعيدا عن قراءات من نمط تلك التي تحسب موقع الممثل وزاوية وقوفه أمامية أم بروفايل، جانبية أم لا.. وهكذا؛ حتى صار الاندماج بالصالة والجمهور وسيلة لتحقيق علاقة حيوية تُحَس بعيدا عن مشهد اللقاء المادي بالوقوف الأمامي بالمواجهة بين الممثل والمشاهِد إنها موجودة حيث  حيوية التنقلات وتغيير الحركة وسرعة تغيير الحالة وتنويعها لتلافي لحظات انعدام تلك المواجهة المطلوبة.

إنَّ جملة من المعطيات ستظل مغفلةََ عند الاكتفاء بمثل هذه القراءات النقدية الصحفية العجلى لأعمال نالت حرارة اللقاء ومصداقية الإبداع.. كما إنّ أمورا عديدة غير قابلة للحصر هنا تظل بحاجة للإضاءة والمناقشة ويظل النقد مطالبا بقراءتها بتأنِِ وهذا من شأنه الدفع بإبداعات فنانينا للتطور والترسّخ وتأصيل التجاريب المجدة. ومن الطبيعي أن تكون قراءة الأعمال الموجودة في المهجر هي مفردة مهمة ومفيدة يمكنها أن تقدم إضافات متنوعة وغنية لتجاريب مسرحية أخرى موجودة داخل الوطن كما سيكون لمثل هذه القراءات النقدية إيحاءات مساعدة لتوثيق التجاريب والتعرف إليها عن كثب قبل دعوتها للقاءات حيث جمهورها الذي ينتظرها أيضا هنا بين جدران المسرح المحلي في رحلة العودة واللقاء مجددا... ويقينا سيكون لمثل هذه الإضاءات فرصة لتسليط الضوء ساطعا شاملا على التجربة الجمالية الفكرية للمسرحية الكوردية بصورة شاملة وقد يساعد جمع القراءات والدراسات في مؤلف وطبعه ونشره وتوثيقه في المكتبة المعرفية التي انطلقت اليوم ولن تتوقف طالما وجدت نصيرا للثقافة والمعرفة وللآداب والفنون جميعا...