الموسوعية والتخصص

بين نور المعرفة وظلام الجهل في حالتي التخلف والتقدم التكنولوجيين

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي \ ناشط في حقوق الإنسان

          03\09\2008

tayseer54@hotmail.com

 

كان الروح الموسوعي لأصحاب المعرفة ومالكي فنون العلوم والآداب قائما معروفا حتى مطلع القرن العشرين.. فلقد تعرفنا إلى الفلاسفة والحكماء وهم يؤدون أنشطة معرفية متعددة متنوعة مذ ولادة البحث العلمي وسطوع إشعاع المنطق العقلي البشري بولادة الحضارة الإنسانية في مجتمع المدينة وما ظهر فيه من تراكم المعارف وبروز الثقافة. وقد سار الأمر حثيثا متناميا وبقي الجهد الموسوعي موجودا مميزا على الرغم من التطور المعرفي والتقدم في ميدان العلوم وتشعبها وتقدمها باتجاه التخصص واستقلال تلك العلوم في ميادينها الخاصة...

والسرّ في أمر توافر أرضية الجمع بين الأنشطة المعرفية العلمية المتنوعة والموسوعية يكمن في أن جوهر التقدم العلمي لم يكن مؤسَّسا على التعارض بين العلوم المختلفة الميادين بل كان يسير على أساس تضافر مفردات أي علم وتوظيفه لما لدى العلوم الأخرى.. فالفيزياء تأخذ من الرياضيات والبيولوجيا تأخذ من الكيمياء وهذه تأخذ من الميكانيكا وهي جميعا وغيرها من علوم تأخذ من بعضها بعضا ما يفيد في إشادة صرح العلم المتخصص واستيلاد مفرداته وقوانينه وآلياته.. وكيما يجري التقدم العلمي صحيحا لا يمكن لعلم أن يتخذ من ميدانه وجودا منفصلا عن وجود ميادين العلوم الأخرى.. والاستقلالية في ميدان علم لا تعني مطلقا الانفصال والعزلة بقدر ما تعني التركيز على جوهر نوعي مختلف مع روابط وامتدادات وطيدة مع البيئة المعرفية العلمية...

كما أن وجود علم وتطوره لا يكون بغير الحاجة إليه وتبادله التأثير والتفاعل مع بقية العلوم وميادينها. وتقدمنا في البحث المعرفي لعلم لا ينضج أو يُستكمل بدقة وتمام صورة من دون أن يحيا في إطار محيطه المعرفي المتنوع أي بأن يكون المتخصص مالكا لنظرة تشتمل على مفردات المحيط وتمتد حيث معطيات ذياك المحيط أو تلك البيئة المعرفية بما يفيد في وضوح الطريق وصورة الهدف وآليات الوصول ونهج التناول والمعالجة لمفردات أو مسائل العلم وقضاياه أو باصطلاح آخر امتلاك الموسوعية...

ومن هنا وجدْنا المعنيَّ بعلمِ ِ أو مادة معرفية بمستوى الدبلوما أو البكلوريوس والليسانس يقف عند حدود المعرفة بمفردات العلم  والمنتظر وظيفيا منه.. فيما يرقى الشخص باتجاه الموسوعية والنظرة الأشمل عندما يدخل مرحلة الدراسة الأكثر تخصصا لتشمل التخصص نفسه متجها نحو التركيز في الدقة ولكن في إطار منطق فلسفي (موسوعي) حيث تمَّت تسمية حَمَلـَة شهادة التخصص الدقيق(الدكتوراه) بعد التخصص العالي(الماجستير)، دكتوراه فلسفة PhD بمعنى أنه يحمل التخصص الدقيق ومعه النظرة الموسوعية الأشمل التي تتيح له مفاعلة معارفه وتوظيف علمه في خدمة بقية المعارف والعلوم ومن ثمَّ في خدمة البشرية...

والموسوعية بهذا المعنى ليست دخول كلّ من هبَّ ودب فيما يعنيه وما لا يعنيه حتى لوكان المرء عالما في ميدانه.. وهي ليست إدخال أنوفنا في الإجابة عن كلّ شيء وأيّ شيء وبأيّ شيء نقول أو نفعل. كما أنها ليست تداخلا بين العلوم أو بين المتخصصين، بطريقة يصير المهندس بمكان الطبيب والطبيب بمكان الفيزيائي وهذا بمكان الكيميائي أو الأخير بمكان الرياضي؛ والروائي بمكان الشاعر والشاعر بمكان الفنان والمطرب بمكان المسرحي وهكذا دواليك من خلط للأمور، وبالمحصلة، بما يشبه حالة وضعنا لجاهل بلا إعداد معرفي ولا يملك حتى المعارف والخبرات العامة في وظيفة أو مهنة تتطلب دراسة علمية متخصصة!

 

وبقطع النظر عن هذه المسألة؛ نؤكد أنَّ الموسوعية ظاهرة معرفية لازمة في كل زمان ومكان. ولا يمكننا تجاوزها لأي سبب وسيكون من التجني على الموضوعية والروح العلمي الرصين أن نهمل أو نغفل العناية بها تحت وطأة ضغط متأتِ ِ من ظاهرة الانبهار بالتقدم التكنولوجي في بلدان الرقي الصناعي التي تهتم أساسا بإعداد شغيلة تستجيب لحاجة السوق الصناعي من مهن ووظائف يكون فيها الشغيل أو العامل المطلوب مفردة من مفردات تشغيل الآلات والمصانع فهو لا يعرف أكثر من حدود حركة  جزئية صغيرة.  وتجد الشركات والدول المعنية أنه من الخسارة تزويده بمعلومات أكثر من تلك الحاجة المباشرة لتشغيله في نطاق جزئيته المخصوصة..

 

إنَّ الموسوعية تظل الخالق الحقيقي والجذر الأول لولادة التطور، ورؤية المسالك المناسبة لتوجيه مجموع المفردات التخصصية الدقيقة توجيها يتناسب وخدمة حاجات الإنسان ومتطلبات حياته وتفاصيلها. كما أن الموسوعية تمنح المفردات المعرفية المناسبة للارتقاء بذهنية العقل البشري ومنطقه الجمالي تحديدا.. فكلما تمكن الإنسان من خبرات معرفية أوسع وأشمل ومن منطق جمالي يختزن الخبرات البشرية المتقدمة عليه، صار هذا الإنسان يمتلك فرصا أكبر وأفضل للتمتع بجماليات الآداب والفنون وما توفره الحياة المعاصرة له من قيم ومنتجات.. ومبدئيا لابد من الإشارة إلى أن العلوم الإنسانية أكثر وضوحا في حاجتها للموسوعية من تلك العلوم التطبيقية الرياضية البحتة ولكنها لا تعدم الحاجة للموسوعية وتحصيلها...

ويمكننا توكيدا لهذه الحقيقة أن نلاحظ سذاجة [وندرة] المُتع التي يمتلكها إنسان بسيط بلا ثقافة ولا معارف وبعيد عن الموسوعية مقابل طبيعة المتع ونوعيتها ومستواها لدى ذلكم الذي يمتلك كل ذلك.. فامرؤ يضحك لمسرحية هزلية في موقف تقدمه أو عبارة تعرضها فيما الذي يملك خبرات جمالية ومعرفية سيتمتع بما هو أبعد من الضحكة العابرة. إذ يتمتع بالقيم البصرية وبالجماليات من ميزانسين وسينوغرافيا وتناسق إيقاع الصورة والصوت وهذا الأخير في تناسب الموسيقا والعبارة اللغوية.. كما سيكون لتلك المعرفة بفن المسرحية وخلفية المتلقي وثقافته التاريخية الأثر الإيجابي المميز بمقابل فقدانها...

وسيؤدي إنسان وظيفته بتميز وإيجابية وبتمام الخدمات للآخرين عندما يكون في مكانه المناسب بمقابل ظهور سلوكيات وأمراض مختلفة كثيرة لشخص وُضِع في مسؤولية لا يفقه من تسييرها سوى استغلال منصبه على حساب مطالب الناس وحاجاتهم..  إنَّ  الموسوعية بهذا إذن تبقى ضرورة لازمة لحيواتنا وهي في مجتمع التخلف أم في المجتمع التكنولوجي المتقدم واجبة الوجود لأنها أرضية تطويع العلوم وتوظيفها لخدمة الإنسان والإنسانية لا لخدمة نفر مستغِل لا يعنيه بني البشر وجمهورهم وعامتهم...

وسيكون عامل انبهار [البعض] بحكاية التخصص الدقيق والاستجابة لمطالب السوق على طريقة الدولة الغربية الحديثة أمرا فيه مقتل للتطور وابتعاد عن الخروج بمجتمعاتنا من تخلفها وفيه توكيد لنظام يعمل بطريقة الذي يملك قرشا يساوي قرشا ومن لا يملك مالا لا يملك أن يتمتع بخيرات الانتاج البشري المعاصر وهو لا يستطيع لا دخول مسرحية ولا شراء لوحة ولا اختيار وجبة طعام تناسب صحته وما يملكه ليس غير كفاف أن يحيا لينتج لغيره مسرات العصر وملذاته...

حكاية الموسوعية* والتخصص: أنهما مصطلحان لا يتعارضان في جوهرهما وكلما تقدم التخصص وارتقى وصار أكثر تفرعا ودقة صار أكثر حاجة لغيره وللتفاعل إيجابيا معه؛ وتوافرت فرص أكثر للتعاطي مع الموسوعية المعرفية بما يراكم الخبرات ومفردات الثقافة والاستاتيكا أو الجمالية التي تمنحه فرص العيش الإنساني بمنطق العصر والتمتع بخيراته وجمالياته... غير أن التعارض بينهما يظل مصطنعا كيما تـَحرِم النُظُمُ الاستغلالية القائمة جمهورَ العامة من امتلاك ما يجعلها تطالب بحاجات جديدة تولد مع ملكية الثقافة والجماليات التي تصرّ على البحث عمّا يلبيها فتحتج وتناضل لتحقيق مطالبها بما لا ينسجم وتركيز الثروة لدى فئة محدودة...

من جهة أخرى تبقى عملية الحرمان من الموسوعية أو من أولياتها ممثلة بالثقافة العامة والخبرات المعرفية المتنوعة قضية مرافقة لنظام البلدان الصناعية على الطريقة القائمة في أوروبا اليوم (النظام الرأسمالي) الذي يلح على السير بفلسفة التخصص التقني وعدم الحاجة لأية معارف أخرى بخاصة منها العلوم الإنسانية وما يدخل في منطق علم الجمال ورديفه وما يدخل في موسوعية المعرفة وتنوعها وغناها. وبهذا تصير ثقافة شراء المعلومة التي تعدّ الشخص لوظيفةِ ِ بأجر هي منتهى الحياة المتاحة هنا فيما يُحرم الجمهور مما هو أبعد وأشمل.. وتصبح القوانين الدائرة آلة جهنمية لا يمكن اختراقها أو تغييرها حيث الإنسان العبد للنظام والآلة وهو أيضا الضحية لهذه الآلة التصفوية الرهيبة. وتحت رعبِ ِ وقسر وإكراه لا ينظر الفرد إلى من يتحدث عن الموسوعية إلا من منظار بشتى المرشِّحات الـ (Filters) التي تبعده عن قبول منطق الموسوعية بسبب البراغماتية المطلوبة منه بل المفروضة على منطقه ليحيا ويعيش..

وهذا هو وجه آخر للتخلف الحضاري والثقافي وتراجع آخر للبشرية في مسيرتها اللولبية وهو نظير للتخلف الناجم عن الحرمان من مفردات التقدم التكنولوجي؛ والتخلف هنا في مجتمع التكنولوجيا والصناعة يستولد جهلا هو هذا الذي انتهينا إليه حيث قسرية الخنوع لمنطق التخصص التقني المجرد من أية قيم معرفية أو ثقافية عامة أو الذي انتهينا إليه بإشارتنا إلى المنبهرين بالتقدم التكنولوجي وبالمجتمع الذي اجتازنا بمسافات طويلة بعيدة (تقنيا) ولم يعد هؤلاء المنبهرون يحسّون بأكثر من الفارق ومن ثمَّ النكوص وعقدة التخلف التكنولوجي وما يُمنح من خدمات أوليات الحياة وكفافها.. وطبعا، يساعد على هذا الشعور درجة الفروق بالخدمات وطبيعة الحرمان بين مجتمعات التخلف والمجتمعات الصناعية الحديثة..

 

الجهل إذن قارئي الكريم ليس رديفا للتخلف التكنولوجي والحضاري حسب بل هو أيضا الرديف للنظم الصناعية التي تعتصر جهود البشرية لصالح قلة يتركز في يدها المال لأسباب شتى، فتحيا هي على أكتاف عبيد العمل والآلة الجهنمية؛ فيما بعضنا يقبل بالعيش على هامش عقدة النقص أو في ميدان الفرار أطول مدة ممكنة بعيدا عن دوران حزام الآلة الجهنمية علينا... وليكن غيرُنا هو الأول في مطحنة تلك الآلة التصفوية لتحقيق فرارنا المؤقت.. وتلك سنّة الحياة والقدر المكتوب علينا قسرا وكرها وعلينا تقبله وتمريره بكل سلبية وخنوع كما يصورون لنا..

 

وبعدُ، فهل أوضحت قارئي العزيز بعض حكاية الموسوعية التي يستغلها بعض من يجهل قراءتها قراءة موضوعية صحيحة ليهاجم مفكرا أو مثقفا فيما ينتج من متنوع الإبداع وغني الموضوعات فيخدم بذلك مسيرة التجهيل بوجهها الكالح الجديد؛ وجه الاعتقاد بأن اختصار حياة الناس ووقفها على معلومات تقنية محدودة هي كل ما في الأمر فيما غنى القيم الروحية الثقافية للإنسان مستبعدة إمعانا في استلابه ومصادرة حقوقه وحاجاته بخاصة منها الروحية.. وطبعا في غطاء كهذا يجري تمرير قبول طقسيات فارغة وأشكال إيمانية بالخرافة ومنطق التخلف - ليستكملوا مهمة التقنيع -  مستولدين ما يشغل ذهنية هذا المضلـَّل الواهم لصالح استمرار تربعهم على عرش حجز الخيرات كافة بين أيديهم...

والموسوعية إذن، هي ألا نتعالم على الموسوعي ونهاجمه فيما يكتب من تنوع وتعدد في مجالات إنتاجه فنحدّ من حركة الإبداع ومسيرة التقدم ولكنَّ هذا لا يعني ألا أن نناقش ما يكتب وينتج؛ وأن نتساءل هل حقق الشروط المعرفية أم أنه مجرد سفسطة فارغة؛ فإذا ما حقق شروط العلم والمعرفة، فذلكم التنوع والغنى وهو لبّ الحقيقة المنتظرة من الموسوعية والموسوعي؛ ونحن بهذا لا نتحدث عن  الأدعياء ممن يخلطون الحابل بالنابل وهؤلاء هم ممن لا حاجة لنا سوى إلى إخراجهم من قائمة من نقرأ له أو نسمع لكلمته أو نتفاعل وإياه... فيما يبقى لنا معرفة يقينية تستند إلى حقوق الناس في موسوعية لا تتناقض ولا تتعارض مع التخصص بقدر ما تمهد لحياة إنسانية كريمة أفضل عبر وجود إنساني رشيد سديد...

 

 

*          ننبه هنا إلى ضرورة عدم الخلط بين فكرة الموسوعية القائمة على النظرة الفلسفية وعلى الاشتمال على محيط معرفي مجاور للتخصص إلى جانب تعددية وتنوع في المعارف التي قد يتاح لشخص أن ينشط في مجالاتها في آن واحد من جهة؛ وبين الثقافة العامة والمعلومات الحياتية المكتسبة في مجرى تفاصيل العيش العادي..    حيث يركز موضوعنا على التعاطي مع الرؤية العامة الشمولية في تخصص مع امتلاك معارف وعلوم أخرى أو جزئيات منها بما يفعِّل الحركة في أنشطة متنوعة بخاصة في مجالات بحثية نظرية أو في العلوم الإنسانية وبعض العلوم التطبيقية أحيانا وبشروط تلتزم الدقة والموضوعية والروح العلمي في التناول والمعالجة...