سومريات
يكتبها: الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

2008/09/05

أستاذ الأدب المسرحي

tayseer54@hotmail.com

المسرحية العراقية: شؤون وشجون[6]

 

 

 

 

 

توطئة عامة لدراسة مسرحية مرحلة تعدد الاتجاهات

 

في القسم الجديد من دراسة المسرحية العراقية من جهة نصها الدرامي المكتوب أو المنطوق سنتعرض لمتابعة قراءتنا التي تركز على الجوانب الأدبية الفنية للنصوص في وقت تحاول ألا تغفل العناصر النقدية الأخرى في قراءة المسرحية من دون تغليب تلك المفردات التي تعرّج على المضامين وتنشغل بالاختلافات الفكرية معها كما أوضحنا في معالجتنا في القسم الأول من هذه الدراسة..

 

ومن المفيد هنا أن نشير إلى أننا في هذه المرحلة سنجد وفرة أكبر في عدد النصوص وفرصا أوسع في عملية الاختيار في إطار  ما تعكسه التطورات النوعية في البنية وفيما تناولته مسرحية المرحلة من مضامين وقضايا.. وهذا يعني أننا سننتقل إلى قراءة تتضمن إشكالات جديدة أبعد من قضية الأهمية التاريخية أو شهادة ولادة المسرحية في العراق كما كان الأمر في قراءة مرحلة الولادة والنشأة.. وهكذا فنحن أمام حلقة جديدة من سلسلة حلقات تطور المسرحية العراقية المعاصرة...

وسيكون من بين تساؤلاتنا في قراءة هذه المرحلة أن نعيد أسئلة المرحلة الأولى من باب المقارنة وتلمس درجات التطور والتغيير.. فهل سنتلمس أو نجد ظواهر مرت معنا في مرحلة النشأة من نمط طبيعة الشكل وتركيبته فيما يخص المشهد والمنظر وعدد الفصول على سبيل المثال، وظواهر من مثل السرد القصصي والحبكة الروائية وكثرة عدد الشخصيات مع تساوي أهمية عدد منها، وسيادة الرومانسية  وإبراز شخصيات البطل القومي التاريخي والمثقف المتنور ابن الطبقة الوسطى مع خطاب المأساة الاجتماعية بنهاياتها المغلقة المحسومة وبما حفلت به من استخدام لعنصر المفاجأة...

وسيكون من تساؤلاتنا أيضا أن نبحث إذا ما عبرت مسرحية المرحلة الجديدة بطريقة فنية مناسبة ومخصوصة الهوية عما يحياه أبطالها مثلما حاولت الأمر ذاته بنسبة من التوفيق والنجاح مسرحية المرحلة الأولى...  ومن المفيد القول هنا: بأننا زمنيا نحدد المرحلة التي نحن بصدد دراستها من نهاية مرحلة النشأة (والفاصل بين المرحلتين هو الحرب العالمية الثانية) حتى نهاية الستينات..

كما نذكـِّر هنا بأن دراستنا الدرامية الطابع تبقى مؤسسة أولا ومبدئيا على التفكير بحفلة العرض، وظروفها، والغاية من العمل الدرامي، بما يشكل عددا من محددات البنية الدرامية. التي ستساعدنا على الكشف عن المحتوى الدرامي من جهة، وعن العلاقة الجدلية بين المؤثرات الخارجية والمكونات الداخلية للبنية من جهة أخرى.. فآلية العلاقات الداخلية لهذه المكوّنات ليست انعكاسا فوتوغرافيا محضا لمصادرها الواقعية (الخارجية)، بل آلية حيوية لأنَّها تُعدّ بمثابة حياة مصغرة أخرى على الركح [الخشبة] أو بعبارة أدق محاكاة فنية للحياة الإنسانية..

وفضلا عن محددات البنية هذه؛ فإنَّ الاتجاهات والمذاهب الأدبية والفنية تُعدّ هي الأخرى عاملا آخر من المحدّدات المؤثرة في الدراما وبنيتها، ولكن تأثير هـــــــذا العامل غير مباشر، لأنّه يباشر تأثيره أولا من خلال علاقته بأساليب المعالجة الدرامية لكل من عناصر البنية الشكلية والمضمونية ومن ثمَّ في آلية البنية الدرامية وصيرورتها.

ونحن نشير لهذا المؤثر باستقلالية نظرا لاصطباغ المرحلة بتعدد الاتجاهات  والمذاهب  وكذلك لدور المذاهب الأدبية والفنية هذه في إبراز انعكاس طبيعة العصر ومعالجاته، يقول الدكتور جميل نصيف بهذا الشأن: "لقد جسَّد كل مذهب أدبي.. لاسيما الرئيسة منها... الحالة المزاجية والذهنية والنفسية والعاطفية لحياة مجتمعاتها، كل في عصره. إنَّ دراسة تاريخ أيّ أدب من آداب أقطار أوروبا الغربية، ومعها آداب كل الأمم السائرة في طريق العصر الحديث، لا تتم اليوم بمعزل عن تاريخ المذاهب الأدبية فيها وتعاقبها منذ أواخر عصر النهضة إلى اليوم"(1).

وفي ضوء تحكم الأوضاع العامة لبلد بعينه بهذه المحدّدات الدرامية، ومنها المذاهب الأدبية، ، يصبح من الضروري تقديم عرض مجمل للمرحلة من حيث طبيعتها وخصائصها، لمزيد من سبر غور المؤثرات الأبعد في المسرحية التي ندرسها.

 

في البدء لابد من القول: إنَّ اختيار الحرب الكونية الثانية حداَ َ فاصلا بين مرحلتين في دراسة المسرحية العراقية لم يأتِ عبثا، فهذه الحرب قد شملت في تأثيرها مجتمعنا مثلما شملت المجتمعات الأخرى في مختلف أرجاء المعمورة. ولقد كان هذا التأثير عميقا وشاملا  لنواحي الحياة كافة، فكان جمهور مرحلة ما بعد الحرب واقعا في كمّاشة من الاتجاهات المتناقضة، تحت تأثير إزدياد حدة الصراع الاجتماعي والفكري في مجتمع ما بعد الحرب، المجتمع الذي تجاذبته ظروف الفقر والجهل والمرض.

لقد كوّنت هذه الظروف الاجتماعية والفكرية مناخا ملائما لصياغة أساليب التعبير الجديدة، مثلما خلقت القاعدة الأساس لولادة المذاهب والاتجاهات المناسبة لأجوائها. وأول هذه المذاهب والاتجاهات الجديدة التي سادت في مسرحية ما بعد الحرب هي: (الواقعية).

 وفي إطار المذهب الواقعي ركزت موضوعات المسرحية واهتماماتها على أجواء بلادنا ومجتمعنا والمشكلات التي جابهتهما. فبعملية إحصائية نجد أن الموضوع السياسي شكّل نسبة تزيد على ثلث الأعمال الدرامية التي ظهرت بين عام 1940 وعام 1967.. وهذا اللون الدرامي يمكن أن يخضع لجنس نطلق عليه اسم الدراما التعليمية أو الوعظية (Didactic drama). ويتسم هذا اللون الدرامي بمميزات يلخصها قول سام سمايلي [Sam Smiley] بأنها مسرحية"تختلف عن الأشكال التقليدية الثلاثة أي المأساة، الملهاة، والميلودراما (المشجاة) مكتسبة وجودا مستقلا. والاختلاف الأساس بين المسرحية الوعظية والأخرى التقليدية بأجناسها يكمن في جعل الفكرة جزءا نوعيا في تكوين المسرحية بما يجعلها تتخذ وضع العنصر التنظيمي الرئيس والأكثر أهمية فيها، العنصر الذي يسخِّر الأجزاء الأخرى في المسرحية الوعظية لخدمة تقديم الفكرة ؛ بينما الفكرة في المسرحية التقليدية ليست أكثر من مادة للشخصية والخطة"(2).

إذن فكون المسرحية الوعظية (Didactic) تـُخضِع بنيتها لسياق الفكرة (Thought)، أو الموضوع الذي تقدمه، يسوِّغ لنا بل يَفرض علينا أنْ نناقش هذا الموضوع وخطة حركته من خلال تتبع خطة البنية الدرامية بعموم الاتجاهات ومدى المرحلة التي نحن بصددها.

ونحن لا ننظر إلى المسرحية الواقعية وحدها ممثـِّلة لهذا الاتجاه الذي ساد الدراما العراقية بعد الحرب العالمية الثانية؛ فنظرة فاحصة على المسرحية الرمزية من شأنها أنْ تقنعنا بأن ظروف ولادتها ليست مشابهة لظروف ولادة هذا الاتجاه في أوروبا، حيث كانت الغاية في مسرحيتنا تقديم موضوعات ومعالجات سياسية تختفي وراء رموز وإبهام هي وسيلة للهروب من جور السلطات طوال هذه المرحلة.

وهذا ينطلق من كون زمن المسرحية هو ما يحدِّدُ نمطها. تقول مارغوري بولتن: "وعلى هذا فلابد من أنْ نربط جميع التمثيليات بالبيئة التاريخية التي كُتِبت فيها – هذه البيئة تشتمل على مسرح زمن التمثيلية، ومقاييس هذا الزمن الفنية والجو العام الذهني والأدبي – وبالأحرى الخلقي، ... "(03). حيث يحيلنا هذا الاقتباس فيما يتعلق بمسرحيتنا إلى تأكيد العلاقة الجدلية العميقة بين أجـــواء المرحلة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا من جهة وبنية المسرحية العراقية فنيا من جهة أخرى. وبقدر تعلق الأمر بهذه العلاقة فإنَّ الباحث هنا يؤجل التفصيل في هذا إلى حين عرض المداخلات التطبيقية، حيث يمكن عندها البرهنة عليها ومنحها أفقا علميا دقيقا.

 

إنَّ كل ماهو فكري وسياسي في أيّ مسرحية يعدّ دلالة لها، فليست هناك مسرحية من دون دلالة تمتلكها. وإنَّ فكرة المسرحية تكتسب قيمتها من تطابقها كليا مع طبيعتها الخاصة وفي علاقاتها القائمة أو الموجودة فعلا، وهذه لا تعدّ مسألة فكرية بحتة بمعنى أنها تعبير عن دلالة، تعبير عن رمز حيث يتحول الشيء المادي إلى دليل يعكس، في حدود معينة، واقعا معينا من وجهة نظر بعينها.

وعلى سبيل المثال، يتحول الخمر والخبز من بضاعة تداولية تعبر عن حاجات بشرية بعينها إلى رمز ديني عند المسيحي مثلا، فالخمر والخبز ليسا دليلا [مشفرا] في ذاتهما وإنما في التحول أو في العلاقة التي يدخلان فيها. أيّ أن لكل ما هو فكري قيمة دلالية (سيميائية) تعتمد وجود القيمة الاجتماعية وليس الأفراد مجتمعين من دون هذه القيمة؛ هذا من جهة الموضوع،

ومن جهة ثانية يعدّ النتاج المسرحي دلالة بالقياس إلى مادته التي يقدمها؛ فكلّ تحدث أو قول هو مكوّن لكل، ترتبط به دلالة ومعنى محددان أطلقنا عليهما الثيمة(Theme) أو الغرض الذي تكتسب فيه المسرحية قيمتها السيميائية، فإذا اتفقنا على أن الثيمة نسق معقد وحيوي من الأدلة، يخضع لشروط لحظة من التطور بعينها وأنَّ الدلالة هي الوسيلة(Instrument) التقنية لتحقيق هــــذه القيمة، فإنَّنا سنجابه حالة من التطابق بين المسرحية بوصفها نتاجا والدلالة بوصفها وسيلة أو الوجه الشكلي في مقابل تطابق المعنى أو الأيديولوجيا فكرةَ َ ومعالجةَ َ والثيمة التي تلخص مضمون المسرحية أو بعبارة أخرى وجهها المضموني.

 

وبعدُ، فليس الغرض من هذه المداخلة إضافة مسوِّغات للكشف عن العلاقة بين البنية الدرامية والمؤثرات الخارجية فيها، فنحن هنا لسنا بحاجة إلى مسوغات بقدر حاجتنا للكشف عن هذه العلاقة من ناحية وعن دور الكلمة في البنية من ناحية أخرى؛ إذ أن الكلمة هذه قد تكون مجردة بنفسها وقد تكون دالة مطابقة لتسمية معينة، ولا معنى للدلالة بحد ذاتها هنا لأنها ليست سوى قدرة أو إمكان على أن تؤشر معنى معينا ضمن ثيمة محسوسة.

وفي ضوء دراستنا هنا نلاحظ اتجاهين أحدهما يسير نحو الثيمة وبنيتها وفي هذه الحالة فإن الأمر سيتعلق ببحث الدلالة السياقية لكلمة معينة في شروط القول الملموس بالمعنى الواسع للعبارة أي بالمعنى التركيبي البنائي الداخل في العمل الدرامي وبنيته الكلية - ويسير الاتجاه الآخر نحو الدلالة وفي هذه الحالة سيتركز الأمر على بحث دلالة الكلمة داخل نسقها المعجمي بالمعنى الضيق لهذه العبارة أي في إطار دراسة بنية الحوار وانعكاس العواطف والانفعالات وطاقات الفعل الإنساني فيه أو في الكلمة المعجمية.

إنَّ ما يدعو إلى مثل هذا النحو من البحث أنَّ المسرحية لم تعد في هذه المرحلة تركز على الشخصية الإنسانية الفردية بل على الشخصية - المجتمع أو الفئة أو الجماعة - بما يعكس من خلالها الجو الاجتماعي العام من جهة وما يضفي على الكلمة قوة دلالية أبعد من وجودها المعجمي بل دخول هذه الكلمة في علاقات متشابكة يكون لها قوة بنائية (Structural power) ترفعها إلى مستوى بنيوي (Structural level) تركيبي جديد.

 

تبقى مسألة أخرى ستساعدنا [مثلما نقترحها أداة تحليلية درامية للآخرين] في بحث مسرحية المرحلة هي أقرب إلى المذاهب والاتجاهات. إنها أساليب وألوان فرضت وجودها على طبيعة المعالجة الدرامية فانقسمت المسرحية الجديدة على أبعاد تقع بين مفهوم المسرحية الاجتماعية والمسرحية السياسية على وفق خصائص محلية متميزة، فيما انحسرت المسرحية التاريخية إلى الظل لأسباب ذاتية وموضوعية. وأصبحت المسرحية التاريخية مادة موجهة إلى الأعمال المدرسية ومنحصرة فيها مع استثناءات جد محدودة، وبالمناسبة فإن هذا الواقع الجديد في توزيع الأعمال سيدعونا إلى تكثيف التفاتنا إلى الألوان الأكثر اتساعا مع إعطاء الألوان صغيرة الشأن، من حيث حجم وجودها النسبي داخل مسرحية المرحلة، نقول: إعطاؤها ما تستحقه من مناقشة.

 

مع ذلك فإنَّ هذا التقسيم البحثي سينطلق من دراسة الشخصية في تحولاتها الجديدة. ودراستنا هذه التي تبدأ بالشخصية تستند إلى سببين: فنحن نبدأ أولا بالشخصية بسبب الأهمية البنائية المتميزة لهذا العنصر الدرامي؛ وثانيا: بسبب تركيز مسرحيتنا العراقية على مناقشة هموم الشخصية \ الفرد أو الشخصية النمطية التي ترمز لفئة أو فكرة.

ولا يلغي هذا أهمية العناصر البنائية الأخرى حيث لا يقابل فهمنا للبناء الدرامي هنا الشكل المسرحي منفصلا عن مضمونه.. وإنما يقابل العمل المسرحي بالكامل، من حوار وصراع ومن فكرة وحدث وإيقاع وحبكة فضلا عن أمور بنائية كثيرة وَجدْتُ من المناسب إدراجها ووضعها في مبحث شامل بقصد الكشف عن كل منها، ليس مُجتزَءا منفصلا بل في علاقته مع العناصر كافة.. وطبعا بالمجمل تمثل هذه الآلية توكيدا لمسارنا الذي اعتمدناه في تحليل المسرحية كما ورد في القسم الأول من هذه الدراسة...

 

 

 

 

 

 

هوامش: ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

01) د. جميل نصيف، المذاهب الأدبية، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990، ص7.

02)Sam Smiley, Play Writing, The structure of action, Printice Hall, INC, New Jersey, P.49.

03) مارغوري بولتن، تشريح المسرحية، دريني خشبة، الأنجلو المصرية، القاهرة، 1962، ص 283.

 

 

 

 

 

 

 

* حقوق النشر محفوظة للكاتب                        www.somerian-slates.com