الوضع الدستوري وتطوراته في العراق

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

 

للوهلة الأولى قد ينصرف ذهن المتابع ليقول إن هذه القراءة ستنصب على مفردات الدستور العراقي، ولكن الحقيقة للمتمعن سيلاحظ أن الإشكالية المعروضة للمناقشة تكمن في الدلالة المعجمية والاصطلاحية لعبارة (الوضع الدستوري). وهذي العبارة تشير في الحقيقة لتعاطي السلطات الثلاث مع الدستور في حركتها وفي ممارسة العلاقات والصلاحيات والتوازنات فيما بينها... ومع ذلك فإنه ليهمني هنا أن أبدأ من مدخل آخر ليس بعيدا عن صميم قراءتنا ذلكم ما يتعلق بتعريف الدستور وأنواعه لننتقل من بعد ذلك لفهم علاقة قوى المجتمع به ومقدار حركية الدستور من تطورات الأوضاع الدستورية  الخاضعة لسلطته...

والدستور في قراءة لغوية مقارنة بين العربية والفارسية والتركية تشير إلى التأسيس أو التكوين أو النظام وهي في المعجم العربي لغةَ َ تدل على  صدر الديوان أو المجلس. وقولك دست الوظيفة أو دست الوزارة: تعني به المنصب المشار إليه.

 والدستور لفظ استُخْدِم: بمعنى السجل أو الدفتر لقيد أسماء الجند ومعاشاتهم. وهو دلالة َ َ: قاعدة يُعمَل بمقتضاها؛ كقولك دستوري في الحياة هو كذا وكيت؛ وفي القانون مجموعة القواعد الأساس، الضابطة أو المحدِّدة لشكل الدولة ونظام الحكم فيها وسمات سلطتها وقولنا دستورية القوانين نقصد به مطابقتها لقواعد الدستور وأحكامه. وجمع لفظ دستور عربيا دساتير...

ولأنَّ الدستور يمثل القانون الأساس في البلاد فهو أبو القوانين ومصدرها الشارِع المقعِّد المحدِّد لما يتم وضعه من قوانين تسيير البلاد والمجتمع وتنظيم الوجود الجمعي المشترك. إذ يتحدد في ضوء الدستور - كما أسلفنا -  نظام الحكم وطبيعة الدولة واختصاصات سلطاتها الثلاث مع إلزام لجميع أنشطتها بالخضوع التام له عبر التزام شارع القوانين الأدنى، به. حيث يلزم أن يتوخى المشرّع القواعد الدستورية عند صياغته القانون وتمتد حالة الالتزام باتجاه اللوائح والأنظمة التفصيلية بالقوانين الأعلى منها مرتبة.. وعليه نضع هنا وقفة مهمة يمكننا أن نفكر فيها ونعالجها لاحقا هي }أن كل قانون أو لائحة سيكون غير شرعي عند خروجه على قاعدة دستورية أو مادة واردة فيه (أي في وثيقة الدستور){...

ولمزيد من التعريف وتبيّن الحد الاصطلاحي نجد في المبادئ العامة للقانون الدستوري يكون حدّ الدستور [اصطلاحا]: هو مجموعة المبادئ الأساس التي تنظّم فاعليات سلطات  الدولة كافة والتي توضح بله تحدد حقوق كل من الحاكم والمحكوم وواجباته، بوضعها الأصول الرئيسة لتنظيم العلائق بين السلطات العامة؛ والدستور موجز أو إطار عام تعمل الدولة بمقتضاه لتشمل جميع شؤونها الداخلية والخارجية.

ولصياغة الدساتير أساليب منها تلك التي تُفرض بطريقة تُبعِد إرادة المجتمع عن صياغته (نترك هنا التعليق والتفصيل) ومنها الأساليب الديموقراطية التي نشأ في كنفها الدستور وتمت عادة بطريقتين هما:

1.  طريقة الاستفتاء الدستوري: حيث يتم وضعه بوساطة جمعية نيابية منتخبة من الشعب أو بوساطة هيأة أو لجنة حكومية أو الحاكم نفسه ثم يعرض على الشعب في استفتاء عام ولا يصبح الدستور نافذا إلا بعد موافقة الشعب عليه وإقراره...

2.  طريقة الجمعية التأسيسية المنتخبة: وفي هذه الحال ينتخب الشعب ممثليه لينهضوا بمهمة وضع الدستور...

 

وسريعا وباختزال (اختزال القسم النظري البحت) أنتقلُ لعرض موجز لأنواع الدساتير فهي من جهة تدوينها أو عدم تدوينها تنقسم على دساتير مدونة و غير مدونة فالدستور يُعدّ  مدونا إذا كانت غالبية قواعده مكتوبة في وثيقة رسمية صاغها وأصدرها الشارع الدستوري. ويُعدّ غير مدوّن إذا كان عبارة عن قواعد "عرفية" امتد العمل في ضوئها لزمن طويل فأصبحت بمثابة القانون الملزم المحتذى و تدعو هذه الصيغة لتسمية "الدساتير العرفية"، لأنّ العرف هو المصدر الرئيس لقواعدها وأصولها، ويعد الدستور البريطاني أبرز أمثلة هذه الدساتير غير المدونة لأنه يأخذ أغلب قواعده من العرف، ومن أحكام القضاء ولا ينفي هذا وجود أحكام وقواعد مكتوبة. [[ينبغي الإشارة هنا إلى أهمية استقرار النظام العام ومستوى الوعي والتفاعل الجمعي والفردي كيما يمكن اللجوء لهذا النوع من الدساتير]]

والدساتير بتقسيم آخر من حيث طريقة التعديل مرنة وجامدة   فالدستور المرن: هو الدستور الذي يمكن تعديله بإجراءات شبيهة بتلك التي يتم بها تعديل القوانين العادية بوساطة السلطة التشريعية تحديدا ومثالنا النظام الإنجليزي البريطاني. فيما الدستور الجامد: هو الدستور الذي يلزم لتعديله إجراءات أشد من تلك التي يمكن بها تعديل القوانين العادية، فبعض البلدان تتخذ نظاما  يتطلب موافقة أغلبية مواطني كل ولاية أو إقليم مع الأغلبية  على المستوى الوطني سويا كالدستور الأسترالي الفيدرالى. [[قد يكون ذلك تعزيزا لمبدأ سمو الدستور أو لتلافي احتمالات الخروق المغطاة أو الممررة بطريقة مقننة مقعدة دستوريا تحت توصيف بند التعديلات السهلة...]]

 

مبدأ سمو الدستور وسيادته التامة الشاملة

 

كيما لا تنفرط الحال باتجاه ما يسميه القول الشعبي المأثور "حارة كل من أيدو إلو" يبقى الدستور الضابط الرئيس والنهائي في البلاد والمجتمع. وفي هذه الحال يكون القصد بهذه السمة أو ما يُسمى (سمو الدستور) هو: كونه القانون الأعلى في الدولة لا يعلوه قانون آخر. و هذا ما نصت عليه أغلب الدساتير عالميا...

هنا يأتي سمو الدستور من أمرين أساسين هما: السمو الموضوعي. و يعني: كون (القانون الدستوري يتناول موضوعات تختلف عن موضوعات القوانين العادية. وهذا السمو يستند لكون موضوع "القواعد الدستورية" و مضمونها لا يتحدد حصرا بدساتير معينة بل هو موجود في جميع الدساتير بأنواعها وأنماطها المكتوبة و العرفية،  الجامدة والمرنة. والفائدة المتحصلة من السمو الموضوعي للدستور هو جعله القانون الأساس للدولة بما يضبط أهدافها وطبيعتها و يضع "الإطار العام" والمحاور التجريدية الرئيسة [لا التفصيلية] سواء في المجالات السياسية و\أو الاجتماعية و\أو الاقتصادية.. وبالسمو الموضوعي يكون الدستور الجهة الوحيدة التي "تنشئ السلطات الحاكمة و تحدد اختصاصاتها"؛ فيما جميع هذه السلطات تخضع للدستور كونه السند الشرعي لوجودها. وبالسمو الموضوعي يجري توكيد مبدأ المشروعية ومبدأ تدرج القواعد القانونية وخضوع القاعدة الأدنى مرتبة للقاعدة الأعلى مرتبة. وجميع الاختصاصات الوظيفية والصلاحيات التي تمارسها السلطات الثلاث محكومة بالدستور وبتفويض أو تخويل منه.. ولا تفويض لاختصاص لجهة تالية أخرى غير المخولة دستوريا إلا بنص صريح فيه.

الأمر الآخر هو السمو الشكلي: والقصد به كون القانون الدستوري هو القانون الذي يلزم لوضعه وتعديله إجراءات محددة هي الأشد بين اجراءات وضع أي قانون عادي آخر و\أو تعديله. و هذا السمو موجود في الدساتير المدونة الجامدة فقط. و في ضوء السمو الشكلي ينبغي وجود سلطتين: هما السلطة المؤسِّسة التي تضع الدستور والسلطة المؤسَّسة التي يتم إنشاؤها. والسمو الشكلي يتيح أو يضمن احترام الدستور و ينظم رقابة منتظرة على دستورية القوانين بخاصة في الدول حديثة العهد في التجربة الدستورية أو في نظامها السياسي المؤسسي.

 

أذكر وأنا أمضي في هذا الموجز النظري بعجالة بأن هذا تمهيد للانتقال للوضع الدستوري عراقيا وقراءة مواضع تهم مستويات:

التعديلات الدستورية    والاعتراضات من مكونات المجتمع العراقي ثم مستوى دستورية الأنشطة والإجراءات التي تقوم بها السلطات العامة في البلاد والقوى التي تتمثل فيها بخاصة في إدارة العلاقات من جهة وبتنفيذ تطلعات المجتمع في دمقرطة الحياة وإشاعة العمل المؤسسي الذي يستهدف الناس لا السلطة التنفيذية أو المنافع الخاصة (أشير للفساد مثلا)....

وقبيل ذلك دعوني أتحدث عن السلطات الثلاث وطبيعتها وصلاحياتها المحددة بعامة.. فالسلطة بعامة هي قدرة شخص معين أو جهة على فرض أنماط سلوكية لدى الآخر أو لدى محيطها وتتضمن حالات القيادة كافة. وتعد السلطة أحد أسس المجتمع البشري وعلى الرغم من التناقض الشكلي للسلطة مع مبدأ التعاون (بالمعنى الفلسفي القانوني للمفردة) إلا أنَّها تفعَّل إيجابا بضبطها وقنونتها للتخفيف من سلبية أو نتائج فرضها (السلطة) بما يُفضي إلى الانصياع البناء أو مفهوم الالتزام.

وتُطبق السلطة بالاستناد إلى قوة اجتماعية بعينها ودورها ومكانها التراتبي. وقد تكون هذه القوة فعلية حقيقية (كما في التهديد بإيقاع الأذى البدني الجسماني) أو مفترضة متوهمة (كما في حالات الرقيب الداخلي الذي يشعر في ضوئه المرء بانه مطارد يجب أن ينصاع لأمر كي يتجنب العقوبة أو تأثير السلطة المتوهمة). وتتحدد قوة السلطة في ضوء الحجم المحتمل للعقاب كإجراء يطال الشخص الذي لا ينصاع للسلطة أو يهددها، أو يتجاوز على وجود القوة الاجتماعية الممثلة بتلك السلطة. ولتنفيذ السلطة مسلكين القوة الجبرية الفعلية (الإكراه) كما في الحبس والمسلك الآخر للسلطة قد ينبع من الشرعية التي يمنحها الخاضع للسلطة لأصحابها (كاعترافه بمرجعيات دينية أو اجتماعية أو سياسية كما في المرجع الديني أو رئيس القبيلة أو زعيم التيار السياسي وما لهؤلاء من قوة ينصاع لها المؤمن بها). وكثيرا ما يتداخل المسلكان للسلطة: الإكراه والإيمان. وفي جميع الأحوال يلزم وجود جهاز تنظيمي يمتلك الصلاحيات والأدوات كيما نقول: إن السلطة موجودة ولها قوة فعلية...

فانهيار النظام القبلي في مجتمع يلغي سلطة رئيس العشيرة وانهيار نظام الدولة الدينية يلغي سلطة المرجع الديني أو يضعها في تعارض مع وجود المجتمع البشري المعاصر وحاجاته وآليات اشتغال نظامه ونظام الدولة المؤسساتي الحديث.. وأشكال التعارض يمكن أن نراها في مستويات تختلف فيها درجات العراقيل لكنها في بعض الأحيان تصبح وضعا معطِّلا بشكل قطعي لأي إمكان للاستجابة لحركة المؤسسة المدنية وضرورتها لإدامة حياة الناس... ونقيض هذه الحالة [الماضوية المتأتية من نظام ما قبل الدولة المعاصرة]، النقيض يكمن في احتفاظ المجتمع باحترام (وسلطة) لعلمائه ومفكريه ما يضغط على السلطة السياسية التنفيذية كيما تسلك سلوكا بناءَ َ يخدم المجتمع ومسيرته... وعليه فإنَّه إذا قررت الأغلبية التمرد أو الخروج على سلطة سلبية ماضوية لن يبقى لها تأثيرها أو وجودها ولا عقوبتها الموقعة على المجتمع بطريقة غير مشروعة دستوريا... ولا تمتلك الصلاحية الدستورية التي بدأنا الإشارة إليها قبيل برهة وجيزة.. وهذه إشكالية تنتظر تسليط الضوء عليها والتوعية بها تفعيلا لمقاربة استعادة العلم والعلماء لسلطتهم بمقابل رفع الصطناع في فرض سلطة مرجعيات ماقبل الدولة الحديثة وتحديد مجالات عملهم التي تحددت أصلا حتى في زمن الدولة التقليدية الثيوقراطية القديمة...

(...إضافة توضيحات وشروح في أثناء المحاضرة وأسئلة الحضور...)

 

 

 

************   ***   ************

أما البدائل التي تتحكم بصياغات البنى الاجتماعية وتفرض سلطتها جزئيا أو كليا فهي آليات متنوعة يمكننا تحديدها بإيجاز هنا ممثلة في الآتي:

1.  التنافس: الصيغة الأولى للبنى الاجتماعية هي صيغة بنية التنافس حيث لا يمكن في ظل طبيعة محددة لميزان القوى ممارسة الصلاحية بدرجة من الدرجات أو بنسبة معينة. بمعنى أنَّ بنية التنافس تضع الفرضيات الأساس للصلاحية، فتتحدد قدرة الإنسان أو الجهة على تحقيق السلطة، وفي وقت تظهر هذه البنية بوجود لا يمكن فيه ممارسة الصلاحية ممارسةَ َ فعلية بسبب الخصم، تظل هناك فرصة للتحولات. فقد توجد جهة تمثل مرجعية أو قوة اجتماعية تؤمن بها فئات عريضة لكنها لا تمتلك فرصة ممارسة الصلاحية أو السلوك الممثل لقوتها بسبب من قدرات الخصم التنافسية، وهذا لا ينفي الطاقات المختزنة للتالي من وضع التنافس. إن كل جهة أو قوة تمارس الصلاحية بشكل قصير المدى لا طويله في ضوء بنية التنافس وخصوصيتها في اللحظة التاريخية المعينة.

(...إضافة توضيحات وشروح في أثناء المحاضرة بخاصة بشأن علمانية المجتمع وطبيعة مكوناته وحجم تمثيل الحركات والقوى العلمانية لجمهورها العريض هذا...)

 

 

2.  الليبرالية: تقوم هذه الرؤية على مبدأ وجود العقد الاجتماعي بما يكفل موازنة القوى المختلفة والحيلولة دون خلق نظام صلاحية ثابت، فكل صلاحية تبقى محدودة بقوة مضادة أو نقيضة. وهنا يوجد أمران: أمر التنافس المفتوح بين الأفراد لتحقيق مستهدفاتهم الخاصة، وأمر التعاون المنظم بينهم، بما يعيد التوازن في السيطرة على المؤسسة المشتركة بالتساوي أو بالعدل. بمعنى تقييد صلاحية النظام السياسي وضبط حركته بسلطة المجتمع الذي يمارس الصلاحية على وجوده بشكل غير مباشر مثلا بالانتخابات. وفي إطار السمة الليبرالية ظهرت تنظيمات للكتل الاجتماعية تمثل "الأغلبية" و"الأقلية". فوُلِد عن الليبرالية صلاحية الأغلبية على الأقلية. ولتجنب حالات الاستلاب والمصادرة وهضم حقوق الأقلية جاء العقد الاجتماعي ليخلق توازنا مناسبا بين قدرة الأغلبية على الصلاحية والمنافسة المفتوحة بين الأفراد من جهة كفالة منع الاعتداء على حقوق الأفراد بسبب وجودهم في إطار كتلة الأقلية.  ويمكننا الإشارة هنا بالخصوص إلى موضوع تسمية الأقلية وعلاقة المجموعات الدينية والقومية دستوريا بالوضع الدستوري السائد عراقيا. محاولين الإشارة أيضا إلى مفاهيم من نمط منع الاحتكار والحد من الهيمنة عبر ضوابط العقد الاجتماعي وأطر الليبرالية الكلاسية المعروفة...

 

3.  الفوضى: توجد رؤية متشددة أو محافظة لليبرالية تدفع باتجاه حرية تامة لمبدأ التنافس بين الأفراد. وهذه رؤية ليبرالية بامتياز لكنها تدفع باتجاه  إلغاء فكرة العقد الاجتماعي ومحدداته بما يلغي أي تعاون منظم لأمد طويل. وعليه ففكرة الفوضى هذه ترى الواقع النموذج لها بلا صلاحية أبدا، لا مباشرة ولا بصورة غير مباشرة، والمبدأ الرئيس لها يصور العمل البشري بوصفه تنافسا وجوديا بين الأفراد بقطع النظر عن الظروف المحيطة والتوازنات. ربما يلتقي هذا المبدأ مع مصطلحات الفوضى الخلاقة وكذلك مع رؤية نحن نمثل الأغلبية ولن نترك ما امتلكناه من (صلاحية) فلا وجود لأية صلاحية خارج صلاحية الفائز في التنافس الحرّ غير المقيَّد..

 

4.  التعاون: وفي هذه البنية الاجتماعية ينظر المجموع إلى مصلحة الآخر ولكن بشكل ينبع من مصلحته هو. والتعاون بهذا الموقف بنية اجتماعية تلغي الصلاحية من خلال إلغاء أسس الصلاحية، أي بإلغاء الاعتراف بحالة الصراع بين الأفراد والجماعات. سياسيا ولا أقول قانونيا يمكننا الإشارة هنا إلى توظيف فكرة التعاون هذه بين قوى متناقضة مصطرعة في جوهر معتقداتها وفي ممارستها الميدانية [مثلا التيار الديني والتيار العلماني...]. يأتي هذا بغاية القفز على مبدأ الصراع والتنافس التناقضي التطاحني (القائم على إلغاء الآخر) وهذه الرؤية تجد تجلياتها في ظرف ولكنها لا يمكن أن تُمارس بلا شروط ومحددات وفي وضع أزموي مخصوص كما هو الحال في المرحلة الانتقالية بين العراق الذي خضع للدكتاتورية والعراق المؤمل الوصول إليه ديموقراطيا بكل ما في المرحلة من تناقضات وأزمات...

 

5.  الديمقراطية: أسلوب أو آلية تعاونية تؤمن بإمكان تطبيق بنى اجتماعية مشتركة لا تتأسس على صراع القوى. وبهذه الحال لا تنبع فكرة السيطرة على البنى الاجتماعية من الحاجة إلى توازن بين قواها المختلفة بل من دمجها خدمة للمصلحة العامة. وجوهر الديمقراطية يحوِّل الصلاحية إلى إرادة توافقية لقوى المجتمع التي ترى في منظومة العلاقات بينها منظومة تقوم على المساواة والعدل. غير أن الإشكالية الأساس في الديمقراطية تتطلب فهما لا يقوم على القوة، وإنْ فُهمت، [في منظار القوة المشار إليه للتو]، كصلاحية بكل معنى الكلمة [كأن تفسر الأغلبية وجودها في سدة السلطة صلاحية لها للتغيير في القواعد الدستورية أو في العقد الاجتماعي] وهذا غير صحيح كما تقدم في أول عبارتنا لأنه سيعبر في النهاية عن سمة استبداد الأغلبية على حساب الأقلية بما يتعارض وجوهر الديموقراطية نفسه. و (بهذا المعنى) فإشكالية الديمقراطية هي أنها تخلق، على غرار الليبرالية، نظاما مؤسساتيا واسعا لتنفيذ قراراتها، وهو ما قد يؤدي إلى منح الصلاحية لجهته أو لأية جهة متحكمة فائزة ومن ثمَّ خلق شفرات أو كودات  غير مرئية للصلاحية موضوعة بيد جهة قد تتعارض وجوهر الديموقراطية وهدفها البعيد.

 

*** نقاط ممهدة أخرى ومفيدة في جدلية الوضع الدستوري وعلاقة السلطات فيما بينها في ضوء الدستور:

 

تسجل الدساتير كون الأمة مصدر السلطات. وتمارس الأمة (أو الشعب) سلطاتها على الوجه المثبت في دستورها. والسلطات هي:

 

* السلطة التشريعية:  حيث تناط عادة السلطة التشريعية بمجلس الأمة أو البرلمان الوطني الاتحادي في حال نظام الدولة الفيديرالي وهو المجلس الذي يتحدد عدده وتركيبه وطنيا. وفي الحالة العراقية نشير إلى:

الباب الثالث من الدستور العراقي الذي يتحدث عن السلطات الاتحادية:

فالمادة (45) تنص على:

تكوّن "السلطات الاتحادية، من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات."


 
وفي الفصل الأول السلطة التشريعية


تنص المادة (46):

تتكون السلطة التشريعية الاتحادية من مجلس النواب ومجلس الاتحاد.
أولاً :ـ مجلس النواب

المادة (47)
أولاً :ـ يتكون مجلس النواب من عدد من الأعضاء بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، يتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه.

ثانياً :ـ يشترط في المرشح لعضوية مجلس النواب أن يكون عراقياً كامل الأهلية.
ثالثاً :ـ تنظم بقانونٍ، شروط المرشح والناخب وكل ما يتعلق بالانتخاب.
رابعاً :ـ يستهدف قانون الانتخابات تحقيق نسبة تمثيل للنساء لا تقل عن الربع من عدد أعضاء مجلس النواب.

وتنص المادة (62) على ما يأتي:

"يتم إنشاء مجلسٍ تشريعي يُدعى بـ (مجلس الاتحاد ) يضم ممثلين عن الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم، وينظم تكوينه، وشروط العضوية فيه، واختصاصاته، وكل ما يتعلق به، بقانونٍ يسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.

 

وأود هنا التذكير بأن هذه المؤسسة ما زالت حتى ونحن نقترب من نهاية الدورة الانتخابية للبرلمان لم يتم تشكيلها؟؟؟؟؟ يعني أننا ما زلنا خارج حال استكمال بنية السلطة التشريعية: لماذا؟

 

أما في الفصل الثاني فنسنقرأ عن السلطة التنفيذية


وفي المادة (63) نقرأ النص الآتي:

تتكون السلطة التنفيذية الاتحادية، من رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء، تمارس صلاحياتها وفقاً للدستور والقانون.




وفي الفصل الثالث نتابع حدّ ( السلطة القضائية) ونسجل هنا المواد الدستورية كيما نتأكد بفحصنا للوضع الدستوري مواضع الخروق أو التنفيذ والالتزام بحسب قراءة الأوضاع والأمثلة:

 فالسلطة القضائية كما ورد في المادة (84) هي:-

السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف انواعها ودرجاتها، وتصدر احكامها وفقاً للقانون.

المادة (85):-

القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة.


المادة (86):-

تتكون السلطة القضائية الاتحادية، من مجلس القضاء الاعلى، والمحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة التمييز الاتحادية، وجهاز الادعاء العام، وهيئة الاشراف القضائي، والمحاكم الاتحادية الأخرى التي تنظم وفقاً للقانون. اولاً :ـ مجلس القضاء الاعلى

المادة (87 ):-

يتولى مجلس القضاء الاعلى ادارة شؤون الهيئات القضائية، وينظم القانون، طريقة تكوينه، واختصاصاته، وقواعد سير العمل فيه.

 

لمادة (90):-

تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي: اولاً :ـ الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة .
ثانياً :ـ تفسير نصوص الدستور.

ثالثاً :ـ الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والانظمة والتعليمات، والاجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء، وذوي الشأن، من الافراد وغيرهم، حق الطعن المباشر لدى المحكمة.

رابعاً :ـ الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية، وحكومات الاقاليم والمحافظات والبلديات والادارات المحلية.

خامساً :ـ الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الاقاليم أو المحافظات.
سادساً :ـ الفصل في الاتهامات الموجهة الى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، وينظم ذلك بقانون.

سابعاً :ـ المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب.
ثامناً : أ ـ الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي، والهيئات القضائية للاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في أقليم.

ب ـ الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للاقاليم، أو المحافظات غير المنتظمة في أقليم.
المادة (91):-

قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة للسلطات كافة.

ثالثاً :ـ أحكام عامة

المادة (92):-

يحظر انشاء محاكم خاصة أو استثنائية.

 

 

الرقابة الدستورية وإشكالية تعديل الدستور في نص الدستور العراقي ذاته:

 

الدستور بهذه الرؤى من الأهمية بما هو أبعد من تحديد مفاصل الدولة ونظامها وقواعد عمل مؤسساتها، وأكثر من تحديد صلاحيات السلطات الثلاث.. لقد جرت عملية كتابة الدستور العراقي في ظروف انتقالية معقدة وجرى تمرير عدد من القواعد المتناقضة [لا يرى بعض مفسريه هذا التناقض ولا يقرون بوجوده] وقد جرى التمرير بناء على موقف توافقي مؤقت على أمل إجراء التعديلات في سقف زمني محدد انتهى [ذلك السقف الزمني] منذ ثلاث سنوات على الرغم من الجهود المبذولة للوصول لنتائج وعلى الرغم من التصريحات بإنجاز معظم؟ التغييرات المؤملة...

وفي ضوء ذلك فإن قلقا مشروعا لدى فئات عراقية مهمة ما زال يئن خلف أسوار اللجان التي تعمل لإنجاز التغيير واللسمات التي تضع الصيغة الأكثر استقرارا للدستور.. بعد أن شهدنا كثيرا من حالات التجاذب والاختلاف في إصدار السلطات لقراراتها  وجميع أطرافها تتحدث عن صواب التزامها بالدستور على وفق مواده وقواعده المستفتى عليها في العام 2005 [مذكرين هنا بتركة التناقضات التي أشرنا إليها]...

فما الذي ومن الذي يضمن سلامة الدستور واستقرار نصوصه ومن ثم تطبيقه ومنع التجاوز الذي يمكن أن يفضي لمآس جديدة أخرى ضحيتها الإنسان العراقي البسيط.. ؟؟؟

 

إنَّ بعض هذا يكمن في ما يسمى الرقابة الدستورية أو الضمانات الدستورية. وهذا ما جعلنا نتناول هذه المادة في محاضرتنا اليوم؛ وتنقسم الرقابة الدستورية على ما يأتي:

 الرقابتين السياسية والقانونية.

  وتتجلى تطبيقات تلكم الرقابة الدستورية في الأشكال الآتية:

 

 *   رقابة الرأي العام: وذلك بوضع الكلمة الأخيرة أو المرجعية النهائية بيد الشعب، بما يصل لحق الشعب في رفض أو مقاومة كل أشكال الانحراف عن الآليات الدستورية والشعب وحده هو من يضفي صفة الشرعية على أي إجراء أو نشاط أو قانون. والسؤال في الآليات ونسبة التنفيذ في ظروف الأمية بالمفاهيم الدستورية وبمعطيات التحرك القانوني المنتظر.............؟؟

(...إضافة توضيحات وشروح في أثناء المحاضرة وأسئلة الحضور...)

      *    رقابة القضاء: بوجود هيأة قضائية تفصل وتحسم في دستورية أي قانون أو إجراء. ويتم ذلك عبر القضاء العادي حيث تنظر المحاكم العادية بشأن دستورية قانون أو آخر يجري تقديم  دعوى بشأنه إليها. أو عبر القضاء المختص: حيث يطبق هنا قاعدة عدم جواز النظر بدستورية القوانين إلا من قبل محاكم مختصة.

وللرقابة القضائية طرائق:  منها طريقة الدعوى الأصلية: التي تمنح المواطن حق تقديم طلب إلى المحكمة المختصة بدستورية القوانين من عدمها حتى لو لم يكن له مصلحة مباشرة بالقانون. أما طريقة الدفع فهي التي تحدد صلاحية المواطن في طلبه بأن يكون له مصلحة مباشرة بالقانون قيد الدعوى. وبعامة يبقى المواطن محدد الصلاحية بشأن إمكان تقديم الدعوى وتحصر الدساتير تقديمها بشروط وباشخاص معينين...

    *  الرقابة السياسية: وهي نوع من أنواع الرقابة الدستورية ويقصد بها مراقبة دستورية القوانين من قبل ممثلي الشعب بطريقتي المراقبة الاتحادية (حكومة القضاة) ومراقبة اختصاصات الشارع وتوجهاته.

 

   إن الفكرة أو المبدأ هنا يكمن في احترام الدساتير وحمايتها بما يتفق ومبدأ سمو الدستور بوصفه منظما لصلاحيات السلطات بما يكفل منع الخروقات الدستورية المتنوعة بأشكال تمظهرها من مثل: التجاوز على الحقوق والحريات العامة المحمية دستوريا للمواطن وبالإشارة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني والمبادئ الأممية والمواثيق المتفق عليها.

(...إضافة توضيحات وشروح في أثناء المحاضرة وأسئلة الحضور...)

 

 

ولأجل تحسين مبدأ الرقابة  الدستورية يلزم الآتي:

 

* تفعيل دور المحكمة الدستورية بوصفها هيأة قضائية مستقلة تنظر في دستورية القوانين والإجراءات. مع تحديد مرجعيتها عند إخلالها بواجباتها.

* الاستقلالية السياسية للجهة المختصة بكتابة التعديلات الدستورية مع أخذها بملاحظات القوى الوطنية كافة لا على أساس الإلزام بل على أساس المراجعة والدراسة في ضوء إرادة المرجعية الشعبية المستهدفة والقراءات القانونية الرصينة.

 

* اعتماد مبدأ الفصل بين السلطات مع واجب توزيع الصلاحيات بينها بصورة متوازنة وعلى وفق تقدير ظروف المرحلة الراهنة ومطالب الديمومة والثبات النسبيين، وينبغي هنا منح البرلمان الاتحادي صلاحيات أكبر من جهة والتقليل تدريجا من صلاحيات المجالس والهيآت الموجودة لأسباب مرحلية انتقالية. [الإشارة للمجالس التوافقية الخاضعة للمحاصصة والسلطة الفوقية التي مازالت الظروف تستدعي وجودها المؤقت]

(...إضافة توضيحات وشروح في أثناء المحاضرة وأسئلة الحضور...)

 

*  تحديد صلاحيات الرئاسات والمجالس والهيآت الإقليمية بتوزيع يحترم القانون ودستوريته وطبيعة النظام الديموقراطي التعددي التداولي الاتحادي.

 

* توسيع آليات قياس الرأي العام والأخذ برأيه مباشرة وعبر دور أكثر تميزا للسلطة الرابعة في الأمور الخلافية والمصيرية. [ومن ذلك قياسات الرأي بالاستبيانات]

 

 

*** وموضوعات مهمة أخرى واجبة المناقشة جدلا في الإطار هي:

* إشكالية الدين والدولة وإيراد المذاهب الدينية والجماعات القومية في نص الدستور بصيغ غير صائبة (كخلط الديني بالقومي الأيزيدية نموذجا) إظهار اسم الإسلام بطريقة تبتز مرجعية الشعب وتكفـّره وتلغي الآخر غير المسلم حيث يتم هنا التعامل مع الدولة وكأنها شخص حقيقي لا أداة عصرية ومؤسسة لمستوى التطور البشري مجتمعا (تعدديا متنوع الأطياف) يدير نفسه بنفسه فيتعرض لغير المسلم  ويستلبه حقوقه الإنسانية المكفولة في الشرائع والديانات وفي القوانين البشرية...

* التوافقية: بين الجمع الرياضي المجرد للرؤى وتناقض الأمر مع حال إضافة متناقضات لدستور موحد يمثل الإطار العام لا الجمع بين نقيضين الأمر الذي لا يمثل احترام الاثنين بقدر ما يثبت اسميا الطرفين ويتجاوزهما فعليا عبر فعلية السلطة بيد مَن.. ثم أن التوافق إشكالية سياسية في أبعادها وإجرائية في طبيعتها وليس من الصائب تثبيتها في النص الدستوري بمعطياته التي لا تخرج على الأطر العامة....

 

*  إشكالية ذكر مسميات المجموعات القومية والدينية وموضوع أقليات من نمط تهميش ذكر بعضهم ومحاولة إظهار الفرس كقومية لم تكن موجودة

* موضوع الفيدرالية والصلاحيات    والمسائل المتعلقة بصلاحيات المحافظات من دون إقليم والارتباط بالمركزية واللامركزية ومن ثم التمييز المناطقي والبرلمان الاتحادي؟؟ أين مصيره؟

 

*  ومن القضايا الخطيرة شبه المسكوت عنها: قضية أو إشكالية الثغرات في نص قانون تشكيل المحكمة الدستورية بما يفسح المجال لعدد من الاحتمالات والتفسيرات غير الموضوعية [[وبشكل أعم بشأن هذي الثغرات فحتى الآن، بحسب تقديرات المختصين القانونيين، مطلوب حوالي 60 قانونا كي يُستكمل العمل بالدستور وهي لم تصدر لعدم اكتمال بناء المؤسسات المؤملة بالخصوص]]


*** مثلا [وليس حصرا] لم يحدد النص الدستوري عدد أعضاء المحكمة الدستورية  وإنما ترك أمر تحديدهم إلى قانون يصدر لاحقا.. ولم يبين النص الدستوري، ما هو مستوى الخبرة عند القاضي ومن أي صنف وهل يكون من بين أعضاء محكمة التمييز أم من مجموع القضاة وفي ذلك نقص واضح في نص الدستور لأنَّ تشكيل المحكمة من أهم الأمور التي يهتم بها الدستور حتى لا نفسح المجال  للقوى المهيمنة على مجلس النواب من تغيير القانون متى شاءت وعلى وفق أهوائها ومزاجها السياسي .


*** ذكر النص الذي نحن بصدده: إن اختيار أعضاء المحكمة الاتحادية من بين القضاة والخبراء في الفقه الإسلامي وخبراء في القانون فقط، وترك الأمور التفصيلية إلى قانون يصدر لاحقا

        X X X  موضوع خبراء الفقه الإسلامي : إن هذا النص الدستوري قد أدخل مبدأً لم يرد في أي دستور عربي أو غيره، بجعله خبراء الفقه الإسلامي من بين أعضاء المحكمة، فما القصد من وراء ذلك؟ [[يتساءل أحد القانونيين]]: هل جاء استجابة لحراسة مضمون (م2 / أولا / أ) من الدستور التي نصت على أنه: (( لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام )) والبند (أولا / ب) من نفس المادة التي جاء فيها " لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية" .. إن المحكمة الدستورية ليست معنية مباشرة بالنظر في الأمور العقائدية  الدينية فالأمر ليس كذلك، إنها هيأة للفصل في ما يتعلق بين شرعية القانون وعدم شرعيته أو دستوريته، وهذه إشكالية قضائية بكامل أوجهها، مالا يتطلب صيغة الفقيه الديني في عضويتها وفضلا عن ذلك يعد إدخال الفقه الإسلامي في الإجراءات القضائية البحتة، مدعاة لعديد من المشكلات بعضها يتعلق بأيّ مذهب بله بأية فرقة سيلتزم الفقيه أو الخبير؟ وفي حال عاد القضاء لمذهب له مرجعيات فأي مرجع سيتخذه للتفسير والاحتكام؟ ثم ما شروط الخبرة الواجب توافرها في الخبير؟ هل هي  تحصيله الدراسي في الفقه الإسلامي؟ أقصد شهادته العلمية أو سنوات خبرته ومنجزه البحثي التخصصي؟  وهل شهادة الحوزة والمدرسة الدينية وافية لمستوى المحكمة الاتحادية ومهامها؟  فإذا كانت وافية فهل يعني هذا ذهاب المحكمة لمستوى كل من ألقى خطبة في  جامع أو حسينية؟   وهل يجوز لمثل هذا المسى فقيها أن يكون عضو المحكمة الاتحادية بمعنى احتلال منزلة القاضي.. ومعلوم ما لهذه المنزلة من شروط ومحددات لا مناص منها؟؟ والأرجح هنا تمريرا مؤقتا للفكرة أن نأتي بخبراء في الفقه الإسلامي لا علاقة مباشرة لهم بهذه التوصيفات...



إن عجز قانون المحكمة الدستورية والمواد الدستورية القاصرة بثغراتها قد خلق ويخلق مشكلات قانونية انعكست، في عدد منها، سلبا على الواقع السياسي العراقي، عندما شككت بعض القوى والأطراف بصلاحية المحكمة للنظر في تفسير النصوص الدستورية  حيثما ظهر خلاف ما بين الكتل السياسية.

***********

 

مفردات مفيدة للمقارنة والتعليق: ملامح دستور 27 تموز 1958

إن من أهم ملامح دستور الجمهورية الأولى:

1.                  إن العراق جمهورية مستقلة وهو جزء من الأمة العربية.

2.                  إن في العراق بشكل أساس قوميتان.

3.                  إن الشعب هو مصدر السلطات.

4.                  لا تمييز بين المرأة والرجل في ممارسة الحقوق السياسية.

5.                  إن مجلس الوزراء هو السلطة التشريعية والتنفيذية في الوقت ذاته.

6.                  إن مجلس السيادة مكلف بالتصديق على تشريعات مجلس الوزراء.

7.                  لم يحدد الدستور سلطة تعيين أعضاء مجلس السيادة.

إن أهم الملاحظات حول الدستور المؤقت ذاك هي:

1.                  لم يحدد الدستور المؤسسات التي تضمن كيفية أن يكون الشعب مصدر السلطات.

2.                  إن فرض الأحكام العرفية قد سلب الحرية الشخصية التي ضمنتها المادة 11.

3.                  أعطى الدستور مجلس الوزراء السلطتين التنفيذية والتشريعية ، إضافة لسلطة الهيمنة على القضاء من خلال تعيين القضاة.

4.                  إن عدم تحديد الدستور لطريقة تعيين أعضاء مجلس السيادة وحصانتهم وطريقة إنهاء مهامهم قاد إلى أن تكون تلك جميعا بيد القائد العام للقوات المسلحة وهو رئيس الوزراء.

5.                  نص الدستور على قيام مجلس السيادة بالتصديق على تشريعات مجلس الوزراء دون التعرض لحق المجلس في رفض التصديق وما يترتب على ذلك الرفض في حالة وقوعه ، مما أدى عمليا إلى تحول مجلس السيادة إلى أداة تصديق شكلية.

6.                  وضعت المادة 14 أسس التشريع اللاحق للإصلاح الزراعي الذي أنهى نظام الإقطاع في العراق.

 

 

 

ماذا عن المستقبل

إن حاجة العراق لدستور ينضم علاقة الدولة بالمواطن ويحدد سلطاتها ليست موضع جدال. لكن المهم أن يتم وضع هذا الدستور على أسس سليمة ومتفقة مع رغبات المجموع.  فالدستور لايكتب لكي يوافق رأي الأغلبية حيث أن هذا مبدأ تشريع القوانين، أما الدستور فإنه يكتب لكي ينال موافقة المجموع.

إن الهدف من كتابة دستور العراق واليوم أو غدا من تعديله واستكماله يجب أن يكون إجماع العراقيين عليه، وإلا فإنه قد يكون تجربة عبثية كما سبقها من دساتير من تلك التي ادعت أنها وضعت لصالح المجموع.. وطبعا الاجماع هنا ممكن عندما يأتي نص الدستور بأطر عامة لا تفصيلية وبشؤونه لا بشؤون نفاصيل اليوم العادي وقوانينه ولوائحه...

 

وقبل الدخول في عرض ما يجب أن يتضمنه الدستور المعدل؛ لا بد لي من الإشارة إلى أن قاعدتين أساسيتين يجب توافرهما عند إعداد أي تعديلات لاستكمال الدستور بمصداقية وموضوعية ومنطق صائب.

 

أولاهما هي بالإجابة عما هي قواعد تعديل الدستور، إذ  من السهل وضع الدستور ولكنه ما لم يتفق على صيغة تعديله أو تغييره، فإن التشريع يصبح عبثا ومدعاة للخلاف والتنازع.

 

وثانيتهما ما الضوابط القانونية التي يجب أن توضع لتفسير القانون وتأويله والطعن في التشريع غير الدستوري.

 

 

 

 ومن أجل ضمان الحد الأدنى من ذلك فإن المبادئ التالية يجب في نظري أن تكون موضع عناية من ينهض بتعديل الدستور:

 

 

نوع الدولة العراقية

               إن تحديد نوع الدولة يجب ألا يتم تمريره إلا بعد حوار مُستكمَل وموسع وصريح بين كل العراقيين. بخاصة بشأن النظام الجمهوري الفيديرالي من جهة تحديد الفديرالية وموضع تنفيذها هل هي في كوردستان وحدها أم يشمل العراق بأكمله؟ فإذا شمل العراق كليا: ما طبيعة تشكيلها وتوصيف التركيبة ومستوى الصلاحيات ووضع الإدارة فيها. إن هدف خلق دولة ديموقراطية في العراق قد يتعارض من حيث المبدأ مع التقسيم الذي يراد له أن يبقي صيغة الأسس الطائفية بشأن فديراليات الجنوب والوسط  أو ما يسمح بهذا التفسير مما مر بأمل التعديل في سقف محدد وهو ما لم يحصل حتى اليوم.

وحيث أن تحديد نوع الدولة يترتب عليه ما يلحق من تشريع فإن هذا السؤال يجب أن يحسم هذه المرة في إطار التعديلات الدستورية. بما يكفل المجمع عليه بشأن إقليم كوردستان وخصوصية وجود السمة الفديرالية فيها والفرق بشأن التقسيمات المفتعلة عند تعلقها بقسر التجزئة الطائفية وفرضها على الأرض وقنونتها في الوسط والجنوب! وسيكون إستفتاء الشعب على هذه المادة بشكل مستقل ضروريا.

 

مصدر التشريع  الشعب أم الاجتهاد الفقهي الطائفي؟

                لا شك بوجود خلاف حول كون الإسلام أحد مصادر التشريع أو كونه مصدر التشريع. وهذا الخلاف ليس في صياغة الحدّ وإنما هو جوهري يتعلق بمفهوم التشريع ومصدره والتعامل في ضوء ذلك عندما تتعارض القوانين الوضعية مع الشريعة. أن المرجعيات الدينية شيعية وسنية (الطائفية الفكر والسياسة) تريد أن يفرض مصدر التشريع في العراق بالاستناد إلى الإسلام حسب الفقه الذي تتبناه. وأيا كانت التصريحات التي تشير لنأي المرجعية عن العمل السياسي إلا أنها في كلا الطرفين لعبت أدوارا رئيسة ومهمة في الإنتخابات وفي مسيرة العملية السياسية عبر أدواتها المباشرة وغير المباشرة حتى الآن.  وبالمقابل هناك إرادة شعبية لم تظفر بتمثيلها وإعلاء ما تريده وتنفيذه بسبب من ضعف التنظيم السياسي للعلمانيين والديموقراطيين الوطنيين بعامة في مرحلة تسطو على المشهد قوى الإسلام السياسي الطائفية التي أزاحها نسبيا التصويت الأخير... وفي ضوء سطوة كتابة الدستور على وفق منطق خطاب سياسي بحت لا قانوني قد نقع حتى بعد التعديلات في مطب استشكال دستوري لا يمثل إرادة العراقيين في دستور دولة عصرية لا ماضوية أو بصيغة مجمَّلة ملطفة دينية حسب استخدام الجهات التي تريد ذلك واشرنا إليها هنا..

إن قرار دولة إسلامية (على طريقة دويلات الطوائف المنقرضة) في العراق أو عراق ديموقراطي تعددي يحترم جميع الديانات ويمنحها الفرص الموازية لوجودها يجب أن يكون فقرة يصوت عليها العراقيون بشكل مخصوص...

إن قضية التعديل تظل مطلوبة لأن الدستور احتوى على تعبيرات (إسلاموية) سياسية  حادة أكثر منها قانونية بحتة، كما احتوى على مواد يمكن أن تؤسلم  (حزبيا) المجتمع والسياسة وتهدد الحريات المدنية والحريات الديمقراطية وحقوق المرأة في إطار وجود فرص التفسيرات والتأويلات على وفق ما تتيحه النصوص من فسحة للخطاب السياسي الاستبدادي.. تشير أحد المواد إلى أن الإسلام هو الدين الرسمي وأن الإسلام  مصدر أساس للتشريع وتحظر مادة تمرير أي قانون يتعارض مع "المباديء الثابتة لأحكام الإسلام" بما يمنح رجال الدين سلطة غير مقيدة؛ وبما يفضي لاحتمالات تدريسه(بخصوية طقسية طائفية وهو الجاري بالفعل) في المدارس الحكومية الرسمية واعتماد استخدام الرموز الدينية في الحياة العامة وتأثيرات المؤسسة الدينية الطائفية بالأساس وما قد يفاقم الأمور هو طبيعة تركيبة المحكمة الاتحادية العليا التي سيكون هيكلها وتكوينها حاسمين في هذا الشأن؛. ولكن ماذا لو أدى ضم علماء الدين إلى تحويل المحكمة الى شيء يشبه مجلس صيانة الدستور الايراني فضلا عن إثارة تداخلات بين الوظائف القضائية وإصدار الفتاوىوإشارات مواد دستورية إلى المراقد الشيعية المقدسة وإلى الطقوس الشيعية في حال من استثارة الطائفية دونما ضرورة ودونما أسس في النص الدستوري...

  

من سيكتب التعديلات في الدستور

                إن السؤال الذي سيبرز اليوم وغدا هو من يحق له أن ينهض بصياغة تعديلات دستور العراق. بعد أن تمت كتابته من قبل لجنة مختارة. وكان الأمر حينها أدخل في أن من كتبه ظل متحددا بالحوار السياسي (الحزبي) الصرف وليس القانوني المستقل كما ينبغي لشأن كتابة الدستور.

    

تعديل الدستور

               إنَّ من بين أبرز مبادئ  الدستور هو وضع صيغة يتم بموجبها تعديله. وإلا أصبح الأمر عبئا قد يتيح فرصة التحول إلى أداة  استبداد. فإغفال تثبيت نص لأسس أو آليات التعديل يضعنا بين الوقوع بيد سلطة مستبدة مطلقة أو في حال من التنازع والاصطراع لا طائل وراءه. وعليه يجب أن يتوافر نص متكامل يبدأ بمصدر اقتراح التعديل، أهو  رئيس الدولة أم سلطتها التشريعية بعدد محدد من أعضائها وما هو هذا العدد؟ والأهم من ذلك هو نسبة التصويت المطلوبة لإقرار التعديل؟  ويستتبع النص بما يضع الشروط والمحددات الكاملة بالخصوص..

 

حقوق الإنسان

                لابد من صيانة كرامة الإنسان وحقوقه. ولا يجوز أن يسمح الدستور في أي ظرف بسلب كرامة الإنسان. بمعنى آخر لا يجوز الأخذ بأي ظرف بغاية منع الحقوق الأساس للمواطن بذريعة الطوارئ أو الأحوال الاضطرارية. وسيكون تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتثيته دستوريا بنص صريح مكتمل فرصة نوعية لصيانة كرامة الإنسان وحقوقه في العراق. على أن يوجد في النص ما  يمنع أية سلطة من نزع هذا التمسك بحقوق الإنسان، أي فلا يكون من حق أية حكومة، أن تسلب تلك الحقوق أو تنتقص منها بقانون أو بغيره، ذلك لأن حقوق الإنسان تظل من حيث الأولوية أكبر من الظروف التي قد تراها الحكومة طارئة وذات أسبقية من جهة ما.

 

 

 

 

 

 

   إن الوضع الدستوري في العراق بما فيه من سلطات ثلاث ومؤسسات، يستند إلى شرعية شعبية وانتخابات اعترفت الأمم المتحدة بنزاهتها، ومازالت الملايين التي حققت هذا الإنجاز حاضرة للدفاع عنه، وغير مستعدة للتنازل عنه، والعودة إلى زمن التغييب والدكتاتورية.

ولا يملك أحد التنازل عنه تحت أية حجة، أو إرضاءٍ لأي طرف. والمجتمع الدولي مطالب بحماية هذا الإنجاز الديمقراطي، ودعمه بمختلف أشكال الدعم والحماية والإسناد. ولكن استمرار الالتفاف حول الدستور وصيانة العلاقات بين السلطات على أسس قانونية لن تدوم إذا لم تتم عملية تنفيذ الاتفاقات الدستورية من جهة التعديلات أو من جهة إعداد الأجواء الوطنية وإعادة تطبيعها بطريقة تتناسب والحقائق التاريخية للتوزيع السكاني ولجملة أمور على الأرض... كما أن استكمال إصدار القوانين الدستورية التي ترافقها عملية استكمال إنشاء المؤسسات القانونية والتشريعية المنتظرة هي قضية من الأهمية بمكان لا يمكن للدولة العراقية القول أن تكوينها قد تم من دونها..

 

(...تمت إضافة توضيحات وشروح في أثناء المحاضرة وإجابة أسئلة الحضور التي تضمنت أمورا بعضها قانوني دستوري وآخر سياسي يتعلق بمادة المحاضرة... دامت المحاضرة التي ألقيت في غرفة ينابيع العراق في الثالث من حزيران يونيو 2009، حوالي ساعة ونصف الساعة[22.17-11.47] وأكثر من نصف ساعة للأسئلة والإجابة عنها[11.47-00.29])...