العراقيون والأحزاب الدينية (2)

دور رئيس للقوى الكوردستانية في المبادرة من أجل عقد مؤتمر وطني ديموقراطي

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث أكاديمي في العلوم السياسية

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

لقد تحدثنا عن تزويق شعارات رفعتها "القوى الطائفية" عبر آلية التقية التي تتستر بها على  مستهدفاتها الخفية، من جهة التحكم بالأوضاع العامة وتجييرها لمصالحها الحزبية الضيقة.. وكان من نتائج تلك السياسة المرضية إضعاف دور مؤسسات الحكومة في تنفيذ مشروعات إعادة الإعمار وتقديم الخدمات المنتظرة؛ مثلما أضعفت أيضا فرص استكمال إصدار القوانين وبناء مؤسسات الدولة المؤملة.. فضلا عن مسألة تطبيق المواد الدستورية المعنية بتطبيع الأوضاع وحسمها عراقيا ومن ذلك قضية المادة 140 وغيرها من مواد ذات تأثير على مسيرة العملية السياسية وتفاصيل التقدم بها...

إنَّ قضية الدفاع عن خيار الشعب العراقي للعملية السياسية السلمية لا يمكنه إلا أن يتعمّد بوساطة استكمال تنفيذ المطالب الدستورية. ومما ينتظر هذا الفعل الحيوي واجب إصدار حوالي 60 قانونا من أجل إكمال بناء مؤسسات الدولة المقرة دستوريا.. ومنها ما يقف في  قمة المسؤولية؛ على سبيل المثال القسم الرئيس الثاني من البرلمان الوطني ذلك القسم الذي يمنح المكونات القومية والدينية العراقية فرصتها في المشاركة في رسم السياسة العامة واتخاذ القرارات الدستورية وتأمين الحماية الحقيقية لتلك المجموعات التي ما زالت تتعرض للتصفية وأشكال الإبادة والمصادرة والاستلاب..

وبغية تغيير المسببات التي وقفت دون تحقيق التقدم المنشود في بناء المؤسسة الديموقراطية الدستورية؛ ينبغي الإشارة إلى أهمية تغيير التحالفات التي قامت على أساس الاستجابة بنيات طيبة، لمطالب قوى وحركات تمثلت في الأحزاب الدينية التي رسخت الطابع الطائفي للانتفاع من وراء ذلك فئويا وحزبيا والتمكن من استرخاص الناس وحقوقهم. إلا أن المنطق الموضوعي الصائب بات يشير اليوم إلى ضرورة الانتهاء من مرحلة التحالفات الاسترتيجية مع هذه القوى ومطامعها وسوء برامجها التي أودت بالوضع العراقي ووضعته فريسة لسطوة الإرهاب ودموية مافيات الجريمة والفساد...

وإذا كانت هذه القوى الطائفية  ذاتها قد غيرت من أرديتها وباتت تخشى من قرار الشارع وخياره الوطني الديموقراطي العلماني الأكيد في الانتخابات القريبة، فإنّه أحرى بالقوى الوطنية والتقدمية أن تقرأ الأمور بجدية وبروح مسؤول ينهض بتغيير حال التحالف الذي فرضته ظروف مرحلية سابقة.. ومن هنا يتأسس للصفحة التالية من التحالفات القابلة.. وهي تحالفات يلزم أن يكون جوهرها وطنيا حقيقيا، ديموقراطي الجوهر والطبيعة.. مع تحقق البرامج العلمانية لدولة اختارت الطريق الديموقراطي الفديرالي...

ويمكننا القول: إن القوى الديموقراطية في العراق عدا منطقة كوردستان (لخصوصية معروفة)، قد عانت وذاقت الأمرَّين وباتت في تشتت وضعف تنظيمي أفقدها اتصالها بجماهيرها التي أعلنت بوعي اختيار العملية السياسية وهي تبحث اليوم بالوعي ذاته عن البديل الديموقراطي لتضع صوتها في صندوقه.. وهذا يتطلب قرارا حاسما للقوى الديموقراطية بالتوجه لتوحيد الجهود أولا واتخاذ الآليات المناسبة للوصول إلى جمهورها ثانيا.. وسيتطلب هذا إجراءات عاجلة كقضية عقد مؤتمر مفتوح للقوى الديموقراطية  يتصدى لدراسة متأنية ودقيقة ولاتخاذ القرار الأنجع لمعالجة التشرذم والتشظي والانفصام عن الجمهور...

وفي هذا الإطار لابد من التأكيد على حقيقة تاريخية معروفة ظلت طوال المراحل النضالية الوطنية السابقة رصيدا مهما للعمل من أجل الديموقراطية للعراق والفديرالية لكوردستان، تلكم هي حقيقة استناد القوى الوطنية الديموقراطية وتيار اليسار إلى دعم وطيد من قوى التحرر القومي الكوردية بالتفاعل مع خصوصية كوردستان والقدرات المتاحة فيها لخلق مناخات التحالف الديموقراطي.. واليوم سيكون مفيدا بهذا الخصوص أن تجد المبادرة الديموقراطية فرصتها في مؤتمر وطني عراقي ينعقد برحاب هذا الدعم..

ولكنني أجزم في الوقت ذاته أن قضية التفاعل بين القوى الديموقراطية بعامة من ليبرالية ووطنية وديموقراطية يسارية وقومية تقدمية لن تحظى بتحقيق النجاح المثالي، إلا في حال وجود تحالف كوردستاني موحد ومتين يتجاوز الانقسام الظرفي بين أغلبية ومعارضة أو بين قوى كوردستانية معروفة وأخرى وليدة تشكيلات سياسية جديدة ولكنها تبقى من رحم حركة التحرر القومي الكوردي التاريخية المعروفة تلك... بمعنى بقاء فرص دخول المعركة الوطنية الجديدة بروح مسؤول يعزز المكاسب الكوردستانية ويحميها من التراجع ويدعم الحركة الديموقراطية على المستوى الوطني العراقي بما يتقدم بالعراق بعامة و بــكوردستان بخاصة..

من هنا فإن وحدة القوى الديموقراطية عراقيا ستظل بحاجة لتفاعل مهم مع القائمة الكوردستانية وهذه مطلوب منها التفكير بتوحيد الصوت الكوردستاني كيما يبقى بقوته لا الانتخابية العددية حسب بل بالعلاقة مع جماهير الشعب بجميع المكونات المحلية لإقليم كوردستان والعراقية لجميع المكونات؛ بما يكفل تلاحما متبادل التأثير في اتجاهيه. وهذا هو الضامن الأكيد لمستقبل عراق الغد الديموقراطي الفديرالي.. وبخلافه فإننا سنكون في أتون تمادي القوى الطائفية وتلك المعادية للعراق الديموقراطي الفديرالي ونفسح لتلك القوى فرص التراجع بالعراق في مزيد من دوامة الإرهاب والتسلط ومزيد من إدخال هزات خلخلة الاستقرار في كوردستان ذاتها...

إنَّ المنتظر من القوى الكوردستانية (الجديدة) أن تتسامى على النظرة القصيرة، وأن تكون في برامجها أبعد من الوقوف عند مطلبيات خدمية أو حكومية محدودة وتنظر عميقا حيث المدى الاستراتيجي الذي يشير إلى أهمية وحدة القوى وتكاتفها كوردستانيا ومن ثمَّ خيار تنسيقها وتحالفها مع القوى الوطنية الديموقراطية واليسارية عراقيا بما يكفل التحول باتجاه تأمين استكمال الخيار الشعبي للعملية السياسية بتطويرها وجعلها عملية ديموقراطية الطابع وطنية المنحى إنسانية الجوهر، تحمي مبادئ المساواة والإخاء والعدل. وتستجيب لتطلعات المواطن في حقوقه الحياتية بتنوعاتها من مادية وروحية.. ومن فردية وجمعية، تُعنى بالهوية التعددية قوميا دينيا؛ ضامنة تطبيع الأوضاع وتعزيز دستورية المنجز والعمل...

أما قوى التحرر القومي الكوردية بجذورها التاريخية العميقة فمسؤوليتها تكمن في أن تبقى الجبل الشامخ الثابت طودا في احتضان الفعاليات الوطنية ودعم فكرة توفير الأجواء المناسبة لمؤتمر وطني ديموقراطي كبير والمبادرة بالدعوة إليه فورا من بوابات التعاطي مع دراسة الوقائع وحراثة الأرض لاستنبات الزرع المثمر خيرا بلقاء الديموقراطيين اليوم قبل الغد.. واي تأجيل سيكون تأخيرا ليس مؤداه غير خسائر أخرى لجميع القوى الوطنية الديموقراطية ولكل المكونات العراقية بلا استثناء...