إعلامنا وبعض برامجه السياسية؟

برامج حوارية ولقاءات ببعض شخصيات (سياسية) نموذجا

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

tayseer54@hotmail.com  

 

 

يتابع العراقيون ولادة فضائيات جديدة، منذ العام 2003 والمسيرة مستمرة. كما يتابعون ولادة هيآت إعلامية وتغييرات دورية وطارئة، عادية ومفاجئة.. مثلما تعودوا  كذلك متابعة برنامج أو آخر أو شخصية إعلامية أو أخرى. والجمهور بعادته يعطي انطباعاته وتقييماته وتقويماته للأغلب مما يتابعه..

شخصيا أود بهذه الومضة أن أتحدث عن ملاحظة كثرما صرتُ ألاحظها. ممثلة في اشتغال جمع غير محدود في (الهمّ السياسي) و (العمل الحزبي) وصرنا بين يوم وليلة نشاهد عشرات ومئات من (الساسة) ممن يسميهم المصطلح الشعبي الدارج (نص ردن: نصف كمّ) وفي حقيقة الخبرات التي يحملونها لا تعدو عن علاقات انعقدت في فسحة الفراغ الزمني بين 2003 2009...

ووقع إعلامنا في حيص بيص مَن يستقبله ليتحدث باسم هذه الجهة أو تلك الفئة أو ذاك الحزب أو الحركة؟ فالناطقون باسم هذه التنظيمات لم يدرسوا في تخصص أو معهد أو جامعة وأحيانا ولا حتى في مدرسة.. اللهم سوى مدرسة (مريدي) التي اُشتُهِرت في العقدين الأخيرين بمنحها كل أنواع الشهادات والتخريجات حسب الطلب وحسب الدفع....

وبعد أن ينهض معد البرنامج بجهده وتحضيراته واستعداداته وبعد أن  تنطلق إشارة بدء برنامج سياسي أو حواري يكتشف الجمهور أيّ ورطة يتابعها.

فأسئلة الإعلامي في وادِ ِ وإجابات (السياسي المفترض أنه سياسي) في ضفاف وديان أخرى! وما يقدمه ضيوف البرامج (السياسيون) لا يندرج لا في تحليل ولا في معالجة؛ وأبعد ما يمكننا أن ندرج (كلامهم) فيه يدخل في وصف الواقع من بوابات  شعاراتية تتحدث عن إرهابية التفجيرات وعدائها مع الاستقرار ومصالح الوطن والمواطن.. وكأن هذا إضافة أو كشفا سحريا لمجهول.. ولمن يصر عليه الإعلامي أن يتحدث عن تشخيص الأعداء ومن يقوم بهذه التفجيرات يجيب بأنهم الإرهابيون وبالتأكيد يضيف توضيحا لتشخيصه العلمي الدقيق عبارةَ "الإرهابيون من القاعدة والبعث"!؟

صحيح أن هذا يدخل في خطاب السياسي، وصحيح أن بعض مهمة السياسي تكمن في التوكيد على الحقائق، وصحيح أن الحقيقة تبقى واحدة، ولكن اشتغال الإعلامي وأسئلته لا تكمن في رصد انطباعات تكررُ وصفَ المشهد وتستمر في استدعاء خطاب إعلامي مستهلك مجَّه الجمهور..

إذ أن هذا الجمهور سيقبل من أي من أفراده أن يتحدث عن انطباعاته ووصف معاناته ولكنه لن يتقبل أن يتحدث سياسي أو محلل سياسي أو كاتب سياسي أو ما شئت من التوصيفات المنتشرة اليوم مكررا أقوالا وصفية شائعة بتعويم لا تحديد أو تشخيص فيه ولا فائدة ترتجى من وراء الانشغال بمتابعته...

السياسة، يا سادتي علم مثلها مثل أي علم آخر كعلم النفس يفيد المتخصص في تشخيص الأمراض وعلاجها وكـعلم الاجتماع يعالج قضايا المجتمع ومكوناته وكـعلم الكيمياء فيه معادلات واختبارات وإجراءات تحليلية لها ضوابطها النظرية وقواعد اشتغالها وآليات عملها..

ولهذا العلم لا التخصص الدراسي حسب  بل الخبراء الذين يمرون عبر مسيرة من التعاطي مع مفردات علم السياسة ومع تجاريب هذا العلم وتعاطيه مع الوقائع ونتائج تلك التجاريب من إضافات ومتغيرات في الاستقراء والاستنتاج..

السياسة لها أقسام علمية حالها كحال أيّ من الأقسام الأخرى التي يدرسونها في بطون الكتب والمؤلفات وعلى وفق ما سطرته الخبرات العلمية والعقول التي أنجبتها فنون السياسة  وميادينها المحلية والدولية..

والسياسة ليست العمل التنظيمي الحزبي والانخراط في حزب لا يمتلك برنامجا حزبيا وزعيمه من الأميين لا حضاريا بل أبجديا أيضا، حزب قياداته عناصر تجهل لا العلوم السياسية بل وأي شكل معرفي آخر حتى أن بعضهم لا يعرف أن ينسب  دولة ما إلى قارتها؟ وفي مثل هكذا حزب لا يوجد تثقيف أو برامج توعية وحوارات سياسية بل كل الموجود أن هذا الحزب له زعيم  يأمر وينهى وأن ممثلي هذا الحزب يتقاضون عن تنفيذ تلك الأوامر مرتبات خيالية!

وبالعودة لما أثار في ذهني هذا الأمر، أشير إلى ممثلي بعض أحزاب في البرلمان العراقي وما ظهروا به من طاعة تفوق الخيال فهم يصوتون لفقرة في قانون الانتخابات ويعودون في دقائق ليصوتوا لخلافها بإشارة ثانية! [وبلا استحياء أو خجل] والأمر [الماصخ كما يقول المحكي العراقي] أن ممثلا رفيعا للسلطة وأحزابها يصرح بأمر وفي دقائق يعود ليصرح بنقيضه وعلى وفق الطلب! وأن شخصيات بمستوى وزاري تنفي احتلال أراض عراقية في وقت تؤكده مصادر الدولة المحتلة!!

وفي ظلال مثل هذه الحال؛ تشجَّعَ بعض من عبر عن رأيه في موقع ألكتروني أو نشرت له مطبوعة تسمي نفسها صحيفة أو جريدة ربع عمود في صفحة طبخة اليوم  ووضعوا تحت أسمائهم توصيفات من نمط كاتب سياسي أو محلل سياسي أو ما شابه...

وبشيء من التعديل نشير إلى بعض أعضاء الأحزاب السياسية المعارضة ذات السمعة الطيبة ممن عملوا في أحزابهم طوال سنوات بعيدة اعتقدوا أنه في خضم شيوع ظهور ((جهلة)) في عدد من الفضائيات،  سيحق لهم أن يتقدموا للتعليق السياسي بوصفهم ساسة خبراء يحلون محل متخصصي العلوم السياسية؟

وهكذا مجّ الشعب حال استغبائه واستغفاله ومحاولة الضحك عليه بتقديم هذه الجهالات بصيغة الخبراء.. وصرنا نجد أن المواطن العادي يسخر باستمرار من هؤلاء ويعدّل عليهم كيفية التلفظ باسم أو مصطلح أو عبارة أو فكرة...

إن رفض ((الكلمجية أي محبي الكلام بلا معاني ولا مضامين)) سيتحول أبعد من ذلك إلى رفض الإعلاميين وبيوتهم الإعلامية لا البرامج حسب بل الفضائيات ذاتها ويتجه لبدائل قد لا تكون محلية خاصة به معبرة عنه ولكن قد يكون بعضها أفضل من العبث الذي يتعرض له الإنسان العراقي من بعض ممثلي إعلامه وبعض فضائياته..

إن اعتماد مجموعة محدودة من الأسماء الخبيرة المتخصصة بحق هو أفضل بالمطلق من محاولة التنويع في الشخوص المستضافين ولو جاؤوا بالمئات والآلاف بلا قيمة سوى ((كلمنة: كلام بلا طائل لاعمق أو دلالة فيه)) تجعل المتلقي يثور غضبا ويلتجئ لإعلام مغاير قد لا يكون بديلا موضوعيا ولا مناسبا ولا مفيدا كما نحسب ونظن...

أيها السادة الذين امتلكتم أموال الانتاج الإعلامي لا تغفلوا طويلا؛ فالنتيجة لن تكون حتى ولا في مصلحة استدرار أرباح لتجارة (الكلمنة المرضية) الخاسرة التي تمضون بها.. البحث والاشتغال المضاعف بجد واجتهاد سيمنحكم فرص استقبال متخصصي العلوم السياسية المؤمل الوصول إليهم وهم موجودون...

 

وبمحاولة الفرز والتمحيص لقراءة أوضاعنا بهذا الخصوص فستكون كالآتي:

نسبة 75% لقاءات عرجاء بشخوص لا يفقهون من علم السياسة سوى الصراخ بشعارات زعمائهم (ولا نقول أحزابهم) وما يبتغيه الزعماء وتسويق أوامرهم ونواهيههم حسب الطلب.. و20%  من بعض ذوي الخبرات في العمل الحزبي من المعارضين (القدامى)  وكوادر جامعية من تخصصات مختلفة أقحمت في مجال التحليل السياسي في ضوء تجاريب غير مكتملة وغير متخصصة... فيما لن يبقى سوى 05% من متخصصين لا يظهرون سوى في نتف هامشية وحسب خطط إعلامية تقدمهم بطريقة تلغي أي دور فاعل لهم ولا تسمح بنقل تصوراتهم وتحليلاتهم بطريقة وافية أما لقصور في الإعداد للبرامج أو لتعمّد في طريقة التقديم المشوهة أو بسبب  محدودية المساحة المتاحة في وسط عجيج وضجيج لزعيق الجهلة...

أتحدث وفي نفسي حسرة من سوء طالع المتلقي المستلب المصادر المحاصر بهذي البرامج التي لا تغني.. ولا تسمن.. وأتأسى لإعلامي يجهد ويجتهد ليقع في فخ الشخوص الذين يلتقيهم.. وأشاطر المتخصص في علم السياسة آلامه وأوجاعه أن تخصصه تم اختراقه من كل هب ودب مستثنين من ذلك انطباعات بعضهم عن طيب خاطر....

بعامة، أرجو لهؤلاء الإعلاميين أن يمتلكوا فرصة البحث المتأني عن الشخصيات المعنية بالعلوم السياسية وبالخبرة الفكرية السياسية والنضج في التجربة وفي امتلاك الأداة.. كما يمكنهم أن يستفيدوا من بعض ضيوفهم في التركيز على تخصصاتهم ودخولها في الشأن العام وفي ما يتعلق بمحاولات رسم مشروعات البناء والتغيير والإجابة عن أسئلة واقعنا..

مثلا أن نسأل الطبيب في الشأن الصحي ومشروعات متاحة في التغيير والمهندس في مشروعات البناء بتخصصاته الهندسية والعسكري والأمني والمبدع في الأدب والفن كل في تخصصه.. كما أنني أفترض فيمن يأتي لبرنامج أن يعدّ ويحضر ويكون جاهزا برؤية وافية تستند إلى حقائق وإخصاءات ومفردات منهجية لها مفرداتها  وتجتمع في هدف كلي شمولي بغاية أو مقصد ملموس... أما أن نسلق الجميع بسؤالنا (السياسي) ونريد من النجار والحداد والبناء والمعلم والطبيب والمهندس أن يجيبوا نيابة عن المتخصص في العلوم السياسية وميادين التخصص السياسي، فأمر أسوأ من غريب ولن نجد إجابة لهذا السلق سوى انطباعات قد نتفق عليها ومضامينها ولكنها لن تجدي ولن تضيف وبمواصلة الإعادة والتكرار ستثير مقاطعة تامة معها طبعا فضلا عن عما تثيره من احباط في كل مرة تتكرر وعما تنتجه من آلام ومواجع.

وفي موضع آخر قد تتوافر فرصة الحديث عن زوايا أخرى من الموضوع تخص الإعلامي نفسه. وللمعالجة بقية.