كوردستان: انفتاح في العلاقات الدولية والتزام مبدئي بالفديرالية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث سياسي أكاديمي\ناشط في مجال حقوق الإنسان

 رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

tayseer54@hotmail.com

 

 

 

أوجه القضية الكوردية متعددة متنوعة وهي تنفتح بحجم هذه الأمة المقسَّمة قسرا بين أجزاء كوردستان في إطار حدود عدد من الدول التي رُسِمت مطلع القرن المنصرم، على وفق مصالح الدول الكبرى آنذاك. لقد حظي الكورد بوعود تمّ توثيقها  بمستويات رسمية متباينة.. وخضع الكورد لمتغيرات ظلت تضعهم في عديد من الأحيان (ورقة) في الصراعات  والمساومات التي جرت في القرن الماضي.. لكنّ المؤكد أن حركة التحرر القومي حافظت في تحالفاتها على استقلالية وجودها وعلى فاعلية في التأثير باتجاه استعادة المبادرة لصالح  شعب كوردستان وتحقيق مطالبه وتطلعاته ومنها حقه في تقرير المصير..

وفي ضوء التوازنات القائمة كانت الاستراتيجيات التي ترسمها القيادة الكوردية أداة موضوعية في التفاعل مع كل مرحلة ومتطلباتها وظروفها، وبما يفضي بالتأكيد لجذب الدعم المناسب للقضية، مثلما هو الحال في تحالفات منتصف القرن العشرين مع المنظومة الاشتراكية ومحيطها العربي.. فكان شعار التحالف المصيري الكوردي العربي ركنا مهما في تلك الاستراتيجية، وهو الذي منح الفرصة الحقيقية لولادة فديرالية كوردستان في العراق الجديد توكيدا لخيار شعب كوردستان  لعراق ديموقراطي فديرالي تمثل كوردستان جناحا رئيسا أساسا فيه..

وما يُسجل للقيادة الكوردية اليوم يكمن في مشاركتها الجدية الفاعلة في التصدي لما يجابه العراق من مشكلات ومصاعب.. وفي التوكيد على وحدة العراق الفديرالي واستكمال بناء مؤسسات دولة  مدنية تتبنى نظاما ديموقراطيا يلبي مصالح مكونات الشعب العراقي كافة، وهذا ما أكسبها مكانة ساعدت في الانفتاح على علاقات دولية جديدة. ولأنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي التي باتت القطب الأكثر فاعلية بخاصة في المحيط الشرق أوسطي، كان للكورد وقياداتهم التفات مخصوص إلى هذه العلاقة...

إنّ تنامي الاهتمام الأمريكي بالكورد وتوجيه الدعوات الرسمية على هذا المستوى الذي نراه اليوم؛ لا يمكن أن نحيله إلى  فاعلية طرف أحادي، بقدر ما يسجل الأمر تحولات نوعية في سياسات الولايات المتحدة واستجابتها لتوازنات القوى على الأرض في المنطقة، بنجاح قوى التحرر الكوردية في كسب انتصارات لصالح تطلعات شعب كوردستان والقضية الكوردية بعامة.. ومن هنا تحديدا يمكننا رسم القراءة المناسبة لزيارة  رئيس إقليم كوردستان السيد مسعود البارزاني لواشنطن واستنتاج معطياتها وآثارها ليس في كوردستان العراق بل في الشأن العراقي بعامة وفي القضية الكوردية في بقية أجزاء كوردستان، منوهين هنا إلى معاني لقاءات الرئيس الأمريكي مع قادة كورد في دول أخرى غير العراق كتركيا مثلا...

إنَّ هذه الزيارة تحتفظ بأهمية مخصوصة حتى في ظل بعض الملاحظات التي يطلقها بعض الساسة عراقيا وعدد من المحللين الذين يستندون لمبدأ رفض التفاعلات بين قيادة الإقليم والخارج والنظر من زاوية ضيقة مشوشة لمبدأ العلاقات الخارجية عراقيا. وبغض النظر عن تلك المواقف المتشنجة بالاستناد لتأويلات غير موضوعية، يمكننا القول: إنّ زيارة رئيس الإقليم تمثل دفعا حيويا لحل مشكلات بمستويين: مستوى القضية الكوردية وشعب كوردستان وحركته التحررية وانعكاس هذه الزيارة وطبيعة  التفاعل الأمريكي الرسمي وأثره في مستقبل تفاعلات دول المنطقة مع النضالات الكوردستانية ومطالبها  العادلة في الحصول على حقوق الكورد المهضومة لعشرات السنوات المنصرمة؛ والثاني هو ما يندرج في مستوى القضية العراقية وما يكتنفها من تعقيدات وتشابكات سواء في مهام مكافحة الإرهاب والفساد أم في بناء مؤسسات الدولة الجديدة على أسس ديموقراطية فديرالية سليمة...

وسيكون لهذه الزيارة ما هو أبعد من تبادل وجهات النظر وما هو أعمق من البيانات الرسمية والاستماع لصوت عراقي رئيس فاعل. إذ يمتلك السيد رئيس الإقليم أوراق عمل مؤثرة يعرف أطراف السياسة العراقيون حجمها في تحريك مفردات الحل وتفعيله.. وسيكون من الصائب هنا أن يجري النظر إلى الزيارة كونها تصب إجرائيا في مصلحة شعب كوردستان ويمكنها أن تجذب أشكال الدعم والضمانات الدولية الأهم للقضية الكوردية ولمطالب  تأمين حاجات إعمار الإقليم ومؤسساته ومنع أية تداعيات يمكنها أن تتراجع عمّا حظي به شعب كوردستان من منجزات في جميع الصُعُد السياسية منها والأمنية...

إنّ الأوضاع الدولية بعامة وطبيعة الاستراتيجيات المعتمدة اليوم هي اللحظة الأنسب لتقديم مطلب صريح محدد وواضح لضمانات منع التراجعات تحت ضغوط أية متغيرات سياسية بخاصة فيما سينجم عن الانتخابات العراقية القابلة وعن أية احتمالات لإقرار قوانين رئيسة مهمة منتظر تشريعها في المدة القريبة التالية..  إن مسألة الضمانات الدولية تظل وسيلة مطلوبة في أجواء عدم الاستقرار وتفاصيل كل مرحلة انتقالية وما يكتنفها من متغيرات.. وطبعا لا يجري الحديث هنا عن ضمانات لطرف على حساب آخر ولكن عن ضمانات تمثل ثقلا مؤملا لصالح إدارة توازنات لصالح أعمق استقرار متاح أو ممكن لحين تحقيق مفردات المرحلة الانتقالية وتعزز الثقة في ضوء استكمال مؤسسات الدولة وتشريعاتها الدائمة الثابتة التي تحفظ لجميع الأطراف حقوقهم على أساس العدل والمساواة ومنع استغلال قوة طرف أو آخر في ظرف مرحلي وتوازناته الآنية الضيقة...

الأمر الآخر الذي ينبغي الإشارة إليه يكمن في قدرات الحوار وخلفيته بما يتجاوز إمكانات الضغوط الاستعلائية لجهة الولايات المتحدة  في ضوء الانشغالات الآنية في المنطقة والعالم وفي ضوء الأزمات المعقدة عالميا بخاصة في مجال الاقتصاد إلى جانب قوة الموقف الكوردي من جهة  برهنته على تمسكه بثوابت وطنية تستند إلى الديموقراطية والفديرالية وإلى التعاطي مع تشريع كل القوانين المنتظرة (عراقيا كوردستانيا) في ضوء هذه الثوابت التي توطدت في مسيرة شعب كوردستان مؤسساتيا وأثبت نجاحه في التقدم بآلياتها...

بعامة تبقى مثل هذه اللقاءات الرسمية محتفظة بحجمها النوعي كونها إعلان دولي بأعلى مستوى يعترف بحق الكورد بضمانات توقف مسلسلا من التنكر الداخلي والخارجي لقضيتهم على وفق تقلبات المصالح الدولية والمحلية وتعاطيها مع الكورد من زاوية استعلائية شوفينية أقصت حقوقهم وهضمتها طويلا.. فيما جاء اليوم لتكون مثل هذه المناسبات فرصة جدية لتوكيد الضمانات الملائمة للمرحلة وما يعقبها من تطورات وبظني فإنَّ تحقيق أي خطوة من هذا القبيل بكسب العهود وإنْ شفاهيا في اللقاءات الرسمية وعقد الاتفاقات الموثقة عبر هذه الحوارات  سيبقى المنطلق النوعي المختلف والانطلاقة الجديدة في حياة الأمة الكوردية وتطلعات فديرالية كوردستان ومستقبلها، وذلكم هو حجر الزاوية في منجز الزيارة  وخصوصية نتائجها بعيدة المدى فضلا عن المنجز الآني المنتظر...