استراتيجية السلام العربية ومستلزمات التفعيل

الأستاذ الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث سياسي أكاديمي\ناشط في مجال حقوق الإنسان

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

اتخذ الموقف الرسمي العربي قرارا في تبني طريق السلام حلا لأزمة الشرق الأوسط الرئيسة في فلسطين. ولكن الدلائل كافة تشير إلى أن إسرائيل ما زالت بحال من التعنت والإصرار على موقف تجاهل جميع القرارات الأممية والإقليمية  لإنهاء الصراع. وهي تمعن في عملياتها الوحشية تجاه الشعب الفلسطيني وتجاه عرب 48، وقد خاضت حروبا عديدة وما زالت بما اتسم غالبا  بهمجية سافرة تجاوزت فيها الأعراف والمواثيق الدولية بخاصة بشأن حماية السكان المدنيين وتجنيبهم كوارث الفعاليات الحربية وويلاتها، كما جرى في حرب غزة.

وبالعودة لاستراتيجية السلام العربية التي تبلورت وتأكدت في عدد من القمم العربية منذ قمة بيروت؛ سنجدها حتى الآن وبشكل رئيس ليست أكثر من حبر على ورق أو على أبعد ما يكون لم تحصد أكثر من الترحيب الدولي غير الفاعل، فيما بقيت هي جهد قيد الحفظ أو قرار مع وقف التنفيذ.

إنَّ أي خطة عمل يجب أن تتضمن وسائل التنفيذ وآليات نقلها من النظري إلى الميداني. كما ينبغي أن تمتلك احتياطاتها لمتغيرات الواقع وتفاعلاته مع تلك الخطة من جهة ومع مديات التعاطي معها. مثلما ينبغي أن تتسلح خطط السلام هنا بالقوة الجدية لفرض أهدافها ووضعها على أرض الواقع.

وإنني لأعتقد أن خيارا استراتيجيا للسلام في الشرق الأوسط لا يمكنه أن ينجح في تجنيب المنطقة مسلسل الأزمات ونتائجها الكارثية ما لم يتسع ليكون من الشمول ما يكفي لامتلاك فرص التنفيذ من مدخل الشمول المؤمل في منع ظهور أعذار وحجج ومنافذ للإفلات من الاستحقاقات.

ومبدئيا، لا ينبغي لخطة السلام أن تمضي على أساس من قراءة التوازن المختل بين أطراف الأزمة وتحديدا بمشكلة امتلاك السلاح النووي وأشكال سلاح الإبادة الكتلوي الشامل لدى إسرائيل. فهذا سيبقي القراءة لصالح التعنت والعنجهية الهمجية التي لا تتحدى الشعب الفلسطيني وتواصل السحق فيه حسب بل والمجتمع الدولي ما يهدد السلام والأمن الدوليين.

عليه، ينبغي للجانب العربي اعتماد خطة تنفيذ (عملية) جدية ومناسبة. إذ لابد من الاتجاه نحو المجتمع الدولي وحشد الطاقتين الرسمية والشعبية لصالح مشروع السلام بقرارت فاعلة تتضمن أسقفا زمنية لخطط العمل وتطبيق مشروع السلام. ومن هنا وجب اليوم اتخاذ قرار من رئاسة القمة العربية بالانتقال إلى مجلس الأمن والجمعية العامة كيما تصوِّت على مشروع يتضمن استراتيجية السلام العربية مع الإشارة الدقيقة الواضحة إلى القرارات الأممية بدءا بقرارات 48-49 وليس انتهاء بقرارات ما بعد 1967 (مثلا: 242 و338) بما يكفل تطبيقا متوازنا لجميع تلك القرارات وأهدافها في الحل الجذري النهائي.

الأمر الآخر يترافق معه حركة دبلوماسية عربية عبر الجامعة العربية ورئاسة القمة  في الاتصال بالتجمعات الأممية الإقليمية والدول الكبرى المعنية كالاتحاد الأوروبي والأفريقي والولايات المتحدة وروسيا وفرنسا والصين وغيرها ويتم الجهد باستقلالية عن دور اللجنة الرباعية التي ينتظر دفعها في مرحلة تالية للتفعيل بتتويج الحركة الدبلوماسية العربية باتجاه المشروع المتكامل لـ (المبادرة العربية للسلام)  بعد أن يجري وضع خطط التنفيذ في ضوء مشروع يتضمن القرارات الأممية وخطط العمل السابقة الناجمة عن مؤتمر مدريد وخارطة الطريق وآخر ما انتهت إليه المفاوضات فلسطينيا وعربيا.

أما محليا وإقليميا فإنّ على الجهد العربي اتخاذ موقف جدي مسؤول من التداعيات الجارية نتيجة سياسات دول إقليمية تحديدا إيران ثم تركيا الأمر الذي يبقى بحاجة لإدخال تلك الأطراف في حسابات الحل النهائي من جهة منع عملية التسلح النووي بتوقيع الجهات المعنية على بند في المبادرة يقرّ بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية نهائيا على أن تدخل إسرائيل في هذا على وفق جدول زمني لاحق لتفكيك وإزالة تلك الأسلحة وبإشراف وضمان دوليين يتضمن مسبقا شروطا وعقوبات قابلة للتفعيل الفوري على جميع الأطراف بلا استثناء.

إن قضية التسلح بأسلحة الدمار الشامل ليست قضية محلية إقليمية حسب بل تبقى بحاجة لوجود توقيع ومشاركة دولية للدول الكبرى كيما تلتزم فعليا بقطع طريق تضخم حجم التسلح (النووي وغيره) ومنع انتشاره.. ومن هنا كان لابد من دراسة الموقف من هذه البوابة قبيل أي تحرك ينتظر أن يكون فاعلا ومؤثرا...

وكيما تنتهي لعبة الذرائع وإلقاء اللوم على الآخر لدى إسرائيل وتحديدا خطاب التباكي والظهور بمظهر العيش وسط تهديد الفناء والخطاب الإرهابي، فإننا بحاجة لأكثر من إعلان قمة ومبادرة للسلام. ولأننا بصدد توكيد استراتيجية سلمية للحل، فإنّ من المصداقية الدخول ومعاضدة قوى السلام ودعمها وتفعيل جهودها داخل الدولة العبرية نفسها.. وسيكون من الصواب التعاطي مع هذه الفكرة بجدية واهتمام..

فأولا لدينا عرب 48 بجميع الاتجاهات والحركات الفكرية والسياسية.. ودعم هؤلاء سيحتاج إلى تفاصيل بعيدة منها طبيعة عيشهم والظروف الاقتصادية والاجتماعية من سكن وعمل ومشروعات وطبيعة تنظيم فضلا عن قضايا حقوقية ليس منتهاها على سبيل المثال مستويات التعليم ومن ذلك دعم افتتاح جامعات عربية الإدارة والمنهج.

وهناك حركات ديموقراطية اجتماعية وسياسية، وهي تشكل أرضية للتعايش والسلام ورفض العنصرية والتطرف. وهذه الحركات تعمل في ظروف معقدة؛ مجابهة مختلف الصعوبات. فلماذا لا نفكر  بالتفاعل المباشر معها بعقد صلات متنوعة من جهة دعوتها للمؤتمرات التخصصية ومشاركتها في جهود تفعيل مبادرة السلام وإشاعة تأييدها في المجتمع الإسرائيلي؟

وسيكون علينا هنا مبدئيا التفاعل مع أنشطتها المحلية ودعمها بشتى الطرق. مثلما سيكون علينا التوجه للمجتمع الإسرائيلي برسائل نوعية جديدة في مضامين خطابها.. حيث غصن الزيتون لكل القوى التي تنفتح على مشروع السلام والحوار الضاغط على خطاب القوى العدائية في نهجها إذ سيكون نزع مبرراتها وذرائعها ضغطا جديا على سياستها العدوانية... بمعنى خطاب مكافأة الإيجابي وحصر الحساب والمعاقبة على السلبي المعادي لمسيرة السلام. وهذا يعني بالضرورة أن نكون أصحاب المبادرة والفعل وليس القوى والزعامات المتشددة العنفية في إسرائيل.

إننا بحاجة لدخول الميدان الإسرائيلي بكل منافذه المؤثرة على توجيه خطابه السياسي الشعبي ومن ثمَّ الرسمي توجيها يوسع من مكانة قوى السلام ويحجِّم قوى الحرب والتطرف والعدوانية.

إن مبادرة السلام العربية ستبقى لعشرات من السنوات المهدرة كما بقية القرارات الدولية إن لم ترافقها قوة داعمة تتبناها تحديدا داخل المجتمع الإسرائيلي والصوت الانتخابي فضلا عن التأثير الفعلي على القيادات التي ترسم النهج الدولة العبرية. كما أن المنطقة (والعالم) ستبقى مهددة بحروب وكوارث وويلات بسبب من ترك المبادرة بيد قوى التطرف العدوانية العنصرية المتحكمة باسياسة الإسرائيلية..

ومن هنا أصبح لزاما اليوم تغييرا نوعيا، في آليات عملنا بالنفوذ هناك حيث ينتظرنا أن نؤكد خيارنا الاستراتيجي للسلام. وقد يكون مناسبا الجمع بين جزر الأنشطة المتناثرة من قبيل تقوية صوت مؤتمر الديانات الإبراهيمية ونقله إلى مساحات جديدة من العمل. والتعاطي مع يهود البلدان العربية من جهات حقوقية كما في حق زيارة مقدساتهم مثلما هو في (العزير والكفل: على سبيل المثال) في العراق[http://somerian-slates.com/p215.htm] [http://www.somerian-slates.com/p563jcm.htm] ومثلما هو في المعابد الباقية لهم في عدد من بلدان المنطقة.

سيكون دعم مركز دراسات تاريخي جيوسياسي مع تفعيل رسائل وبحوث الدراسات العليا في مجالات بعينها مسألة ضرورية وواجبة وقد يكون هذا من مركز الدراسات المتخصص أو منفذ جامعة  لعرب 48 هناك في جوارهم وفي أرضهم..

هذه مجرد بذرات حوار جدي مسؤول كيما ننتقل نوعيا إلى مستويات جديدة من الفعل وخطابه وتأثيره في الميدان الصح للوصول إلى الحل النهائي بعيدا عن سلبية التعاطي مع مقترحاتنا ومبادراتنا. وهذا الأمر سيحتاج لشجاعة حقيقية في المبادرة وفي تبني المشروعات والخطط العملية..

وملخص ما نتحدث عنه أن من سيدافع عن مبادرة عربية للسلام هم العرب ومن سيشرع بوضع الخطط الفعلية العملية هم العرب. وإلا فإنها كما أشرنا ستبقى بحدود إعلان نية أو رغبة لا أكثر الأمر الذي يجمّدها ويحنطها أو يقتلها في رحمها بعد أن طالت فترة حملها بلا ولادة في موعدها والعمل اليوم هو ما سيجنبنا آلام تعقيدات الغد.

ولا نتحجج بأن الطرف الآخر هو من يجب أن يتغير ويمد يد السلام كما هي ممدودة عربيا. لأن الطرف الآخر هو شعب تحت تأثير قوى الحرب والعدوان، أي تحت تأثير غسيل دماغ معاد، ما يلزمنا بواجب أن نعمل على تكوين العقل الإسرائيلي  والتأثير في الناخب مباشرة ولا أجد أن انتظار تغير قوى التشدد والتطرف الإسرائيلي كيما تحنّ وتتجه إلينا  هو الحل  بل الحل بأيدينا وما نزرعه نحصده وما نبنيه يعلو ويظهر أما ما يبنيه غيرنا فلن يصب يوما في أجندتنا وخطاب السلام الذي نريد. ولهذه المعالجة عودة.