المصالحة الوطنية بين حاضرالعراق ومستقبله

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\  12 \  19

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

المرحلة القائمة تتمثل في مسألتين ذات أولوية تتمثل إحداهما في  حسم إشكالية تفاصيل أو تدقيق صياغة الدستور مع الانتهاء من قضية علمانيته أم أية رؤى بديلة لتطمين رؤى الشارع العراقي ومكوِّناته الأساسية.. أمّا المسألة الأخرى فتتمثل في ضبط الوضع العام وتطمين الحياة الإنسانية وأمن المواطنين عبر مشاركة جماعية لا مناص من اللجوء إليها لتحقيق مثل هكذا هدف..

نسوق هذا التقديم وفي الذهن التركيز على موضوعة المشاركة الجماعية التي يمكنها أنْ تكون جواز مرور إلى تطمين كثير من تساؤلات الوضع ومتطلباته. فلقد نهضت قوى التآلف الوطنية التي عملت على تنسيق رؤاها وعملها في إطار مجلس الحكم خلال المدة السابقة بمهمات عديدة فرضتها آليات الظروف التي أشرنا إليها..

ولكنَّ تلك القوى ما انفكت تحاول توسيع القوى المشاركة في العملية السياسية وتتجه لاستقطاب القوى التي ما زالت خارج إطار المشاركة المباشرة .. سواء كان ذلك بدافع جذب حلفاء يدعمون المواقف التي بدأ الفرز واضحا اليوم أم بدافع أعمّ هو منع ابتعاد تلك القوى ومَن تمثلهم من فئات جماهيرية عن العملية السياسية برمتها ومن ثمَّ إمكان تحولها إلى قوى معارضة أو حتى معرقلة تندرج في إطار فعاليات التخريب والعنف المسلّح ...

إنَّ الصائب الآن هو الاستمرار في نهج الحوار وتوسيع مساحة المشاركة في الإدارة ومنح الصلاحيات للقوى  والفئات الشعبية بالمعطى الديموقراطي للتفاعل والأخذ بالرؤى الصحيحة الصادقة وتفعيل تنفيذها في الوقت الملائم. وعليه فلابد من تشكيل لجان الحوار الوطني من داخل قوى مجلس الحكم ومن خارجه. فرسميا يمكن للمجلس أنْ يفعِّل الحوار بتفريغ أعضاء منه للمسألة ومتابعة الأمر في الاجتماعات الدورية بغية حلّ الإشكالات أو العقبات التي يمكن أنْ تعترض سبيل ذلك الحوار..

وعلى صعيد القوى السياسية فإنَّ  أوّل مهمة حيوية ينبغي أنْ يشكّل كلّ حزب سياسي لها لجنة متفرّغة لوضع تصورات الحزب المعين عن نقاط اللقاء والنقاط التي تتطلب المناقشة والتفاوض وهذه من أوليات خلق أرضية التحالفات على صعيد التيارات المتقاربة كتيار اليسار وتيار الوسط وتيار اليمين أو يسار الوسط أو الليبرالي أو الديموقراطي أو الوطني التقدمي أو ما شابه.. فهناك أرضيات متنوعة وغنية يمكنها أنْ تشكِّل البداية الحقيقية للقاء الوطني العام...

لكننا بصدد أوسع لقاء وطني في مرحلتنا الراهنة حيث لا مجال للإقصاء أو الإبعاد أو الحظر على قوة عراقية أيّا كانت إلا إذا توافق المجموع على استثاء واحد هو تلك القوة التي أوصلت العراق إلى ما وصل إليه من ظرف كارثي مأساوي.. المقصود مجرمي النظام الدكتاتوري وتشكيلاته المؤسسية المسماة حزب البعث وفروعه في مجالات الطلاب والنساء والعمال وغيرها لأنَّنا لم نعرف لتلك المفردات من مهمة إلا مطاردة أبناء شعبنا وتحويلهم إلى مقصلة الجلاد...

وسيكون للدستور الدائم في وقت غير بعيد موقف من هذه الإشكالية كما سيقول القضاء العراقي العادل كلمته الأخيرة في الأمر. لكنّنا اليوم لا يمكن بحال الانشغال بحقوق القتلة وإنصافهم إنسانيا .. فنحن في مأزق تاريخي يرشح عنه أكثر من حالة طوارئ أو حالة كوارث إنسانية خلّفها نظام الطاغية المهزوم, وليس لعاقل أنْ يتحدث اليوم عن وقفة مع هؤلاء المجرمين الذين عرّضوا ويعرضوا بلادنا وشعبنا للمهالك حتى وهم خارج السلطة والذين نضعهم أمام المحاكمة الآتية وهذه ليست كلمات ثأرية بقدر ما هي مسيرة عدالة قضائية تمثل نظامنا الإنساني البديل بخلاف النظام المنهار. إنَّ ما يشغلنا هو حياة الأغلبية المسحوقة وليس البحث في عدالة معاملة المجرمين [علما أنَّ هذه العدالة لم يتحدث عنها أولئك الذين يطالبوننا بها اليوم يوم كان شعبنا كله يرزح تحت الضيم والظلم \ مجرد تذكير]...

إذن ما القوى الوطنية المدعوة للعمل الجماعي التعاضدي لخلق أرضية عراقنا الجديد؟ وما هو مضمون الدعوة للمصالحة الوطنية؟ أما المضمون فيكمن في مشاركة كلّ قوة عراقية معنية بجديد حياتنا مما يمحو آثار الماضي البغيض ومآسيه ويؤكد بناء البديل الذي نبني فيه الوطن ليحيا فيه جميع العراقيين على حدّ سواء.. وأما القوى المدعوة للقيام بدورها الإيجابي فهي تلك التي تنسجم مع هذا الجوهر وتؤمن به وتعمل على وضعه في أرض الواقع بعملها الدائب المثابر وليس بالادعاء والمنافقة لأهداف خفية...

والذي يحدِّد هذه القوى ليس الآخر بل القوى نفسها هي التي تقدِّم نفسها عبر برامجها السياسية وبياناتها وبلاغاتها وطبيعة تفاعلها مع الوقائع والأحداث الجارية. فليس من المعقول أنْ تحرص قوة ما على دعم الإرهاب والتخريب ونضعها في خانة البناء والوطنية لأنَّ بياناتها تصف أفعال القتل والجريمة أعمال بطولية ومقاومة وطنية؟!! فهذا الأمر ليس من خانة وجهات النظر ولا اختلاف الرؤى وتنوعها ولا ديموقراطية أو حرية التعبير ..

وسأتجاوز الآن  تباكي نفر من  المدافعين عن القتلة تحت ستار أين العدالة؟ وأين الديموقراطية؟ وهي تساؤلات أكثر سذاجة من غبية ولكنها أكثر سمّا من خبث سياسي أو مكره وخداعه .. لماذا؟ لأنَّها جمل حق يراد بها باطل ينزلق وراءها بعض البسطاء وبعض الفئات وهو ما يعقِّد أمر تجاوز التداخلات السلبية في واقع معقد بالأصل.. وقرار تجاوزي الأمر يعود إلى محاولة الانتهاء من الروح الاتهامي الذي طالت إقامته بيننا ولكي نأخذ أمورنا ونعالجها انطلاقا من حسن النية وعميق الثقة وليس العكس..

والمصالحة الوطنية بعد ذلك ببحاجة إلى حوار تخترم شروطه جميع القوى الداخلة فيه وهي شروط لمنع تقديم قوة على أخرى أو استلاب بعضها من حق من حقوقها أو انتقاص حقوق فئة أو مجموعة أو طائفة أو غلبة جهة واحتلالها مقعد كرسي القيادة .. لقد ولّى زمن الحزب الواحد وزمن الحزب القائد (المتفرّد بحسب شرعية العنف والإكراه) وولّى زمن الوصاية لطرف على الأطراف الأخرى.. ولكنَّ بديلنا ينبغي ألا يكون الفوضى أو[انفلاشية] تدّعي أنّها الديموقراطية وتتلبس لبوس العدالة والدفاع عن (جميع) المواطنين وليس المقصود من هذا الجميع إلا الجزء المهزوم من مجرمي الأمس...

على أية حال المصالحة الوطنية لا تقف عند الحوار فهو وسيلة ولكنَّها تتقدّم إلى معادلة مهمات الحوار في ظروف الكارثة أو الطوارئ التي نحن فيها؟ وهنا نشير إلى أنَّ المهمة تكمن في خلق الأجواء التوافقية على إنجاز حاجات المرحلة التي أشرنا إليها أول مقالتا .. هنا المصالحة تعني وقف العنف بين القوى واللجوء إلى القواسم المشتركة لتأسيس حكومة وطنية عريضة تعنى بإشكالية التحضير للعمل المؤسساتي الديموقراطي الذي يحتكم للتصويت ..

التحضير لمثل هذا يمثله دستور دائم أو ميثاق توافقي تأسيسي حتى نتمكن من إجراء الاستفتاء والانتخابات بشروطها الصحية الصحيحة وأشدّد على الشروط الحصية لأنّه من المستحيل اليوم أنْ نقفز مرة واحدة من استبداد وآثاره الكارثية ومن واقعنا الذي نعرفه جيدا إلى عالم مغابر تماما! لابد من مرورنا بتحضيرات موضوعية في شروطها ..

من نمط توفير الأمن والأمان ومنع التهديد وسياسة الإرهاب وإثارة الرعب بين الناس وفرض تفكير بعض القوى ومنطقها على الشارع بسيادة واقع البلطجية.. ومنطق حق الأغلبية في رسم حياة الأقلية على وفق منطقها وشرائعها.. وهكذا ستكون الاستفتاءءات والانتخابات وسيلة لتدمير العلاقات الوطنية الصحيحة وليس المصالحة الوطنية التي لن تجد يومها ولا لزمن بعيد جدا وسيلة للتقويم والتصحيح إذا ما دخلنا دوامة اللعب بأي منطق استلابي استغلالي ...

بمعنى شرط المصالحة الوطنية هو التعادل والمساواة وعدم تقدم طرف على آخر لا دينا ولا سياسة ولا فكرا ولا بأي مسمى آخر.. والمصالحة الوطنية شرط الحياة الجديدة ولكنها عندما لا تكون ملغومة بالخديعة لأنَّ ذاك سيؤدي إلى نسفها في أقرب منعرج   أو سيؤدي إلى تفكيك الثقة ومحوها بشكل أخطر من السابق. ومَنْ يقوم بهذا بعض القوى وإنْ كانت ضيقة الحجم والوجود من التي تعمل على اختراق الصفوف والاندساس في الوسسط بحجج وذرائع وأقنعة متنوعة مختلفة ..

لابد من الحذر في مسيرة المصالحة (وليس الخوف أو انعدام الثقة)  ولابد من دراسة الوقائع والمفردات بتؤدة وتأنِ ِ (وليس بتباطؤ وتلكؤ).. فالمصالحة الوطنية هي قاعدتنا الوطيدة إلى غدنا الأفضل وإلى بديلنا الجديد. عليه كان على قرارات مجلس الحكم ومؤسساته أنْ تتجه اليوم إلى إعلان الحوار الوطني العام المفتوح.. وكان على الحركات والقوى والأحزاب السياسية بخاصة ذات الثقل السياسي الكبير في الميدان أنْ تبدأ هذا الحوار في طريق المصالحة الوطنية من جهة وفي طريق تجريد القوى التي تغذ خطاها من أجل اصطفاف من يمكنها خديعتهم استعدادا للغد الانتخابي بل تعميقا للحاضر المعقد ولكي تشكل أرضية للتخريب الذي تدعوه المقاومة .. وسيكون هذا من قبيل سحب البساط من تحت أقدام تلك العناصر الخبيثة المريضة وأفعالها وأنشطتها ذات الوجه السياسي الداعم لتخريبها المسلّح..

ويمكن لمجلس الحكم أنْ يخلق تحالفات غير مباشرة إذ يكون الحزب الفلاني ممثلا لتحالف تياره والآخر مثله ممثلا  لتيار ثانِ ِ وثالث وهكذا بحيث تتمثل اليوم قوى عديدة في رصيد حوار المجلس حتى اللحظة التي يمكن عبرها تشكيل مجلس وطني عريض يشرف على التخطيط والإدارة والتشريع قبيل الانتخابات واستكمال مؤسسات الدولة الجديدة البديلة..

وعلى كلّ قوة أنْ تقدِّم مشروعها وتضعه بين جماهير الناس ولتكن المشاريع والبرامج هي الوسيلة وليكن الحَكَم هو القوى العريضة التصويتية .. فإذا لم نحترم خيار الشعب اليوم وهو في ظرفه المعقد الذي يمنعه من التصويت المباشر, فإنّه سيحكم من جهة على القوة التي تتجاوز خياراته في القريب بشكل أكيد ولكنَّ المشكلة من جهة أخرى هي أنَّنا بعدم احترامنا لخياره سنُوقِعُ أنفسنا والحياة العراقية في مآزق لا حصر لها.. وإلا فلابد لأية قوة سياسية أنْ تقنع جماهيرها بما تراه حلا لإشكالات الوضع القائم..

بمعنى أنْ تقنع الجمهور بخلاف فكرة العمل التعاضدي على أساس من المصالحة الوطنية أو بتعبير آخر من التنسيق لبناء دولة المؤسسات الديموقراطية التي لا نجد غيرها حلا لمشكلات بلادنا. وهذه المصالحة أو التنسيق بهذا الهدفف المحدَّد ضرورة لا مجال للخوض في طريق آخر مخالف.. قد يكون من الطبيعي بعد هذه المرحلة أنْ تعمل القوى منفردة أو في تحالفات ضيقة أو عريضة مختلفة ولكنها اليوم ملزمة بالمهمة الوطنية الكبرى التي تعيد احترام الذات وتعيد احترام الآخرين لنا ولتقديمنا أنفسنا بوصفنا شعب الحضارات ومهد المدنية الإنسانية.

ما نأتي إليه من خلاصة أنَّ الجميع مشمول بالمصالحة وقد تكون لبعضنا الشجاعة على الاعتذار عمّا سلف ولا يوجد تيار أو طرف مستثنى وقد يأتي زمن الاعتذار لاحقا ولكن التسامح اليوم ووقف التناحر والتقاطع والانشغالات الهامشية أو الثانوية لحساب الرئيس الأساس من المهمات. ومن الطبيعي أنْ نقول عن المجرمين المعروفين من شعبنا: إنَّهم خارج قائمة المصالحة الوطنية لأنهم ليسوا من قوى البناء وإعادة إعمار البلاد..

ومن الخلاصة نشير إلى برنامج المصالحة وهو مهمة وضع الميثاق أو العقد الاجتماعي الوطني الذي نتحول به إلى دولة الديموقراطية. إنَّ القاسم هنا غير قابل للخلاف أو الاختلاف والتغاير .. فلا ينتظر جائع أو مريض أو طالب حاجة حياتية تخص بقاء الإنسان أو موته هذا لا ينتظر حوار أو مناقشة بيزنطية أو سفسطة هي جعجعة بلا طحن. المطلوب العمل والمواجهة المباشرة .. وكلّ قوة ستتلكأ في التعاطي مع عملية بناء دولتنا الجديدة ستجد نفسها خارج خيار جماهير الشعب وسيكون من الصعب عليها تعويض مواقفها السلبية أو وقوفها موقف المتفرّج تجاه وضعنا الراهن..

المصالحة الوطنية هي التهيئة الوحيدة المطلوبة على المستوى الذاتي للقوى والتيارات الموجودة وهي المهمة الجوهرية التي ينتقلون بجماهيرهم عبرها إلى عالم مختلف عن الماضي البائد. لأنَّها تعني التعاطي بين الأنا والآخر بوسائل سلمية .. بوسائل تعايش وتفاعل بدلا من التقاطع والاحتراب . .

وهي (أي المصالحة...) تعني روح الأخوة الوطنية التي تقدِّم روح المواطنة على أي خصوصية أخرى أي سمة الهوية العراقية والمصلحة الوطنية العليا فوق الحزبية الضيقة فوق التيار السياسي وتحالفاته وفوق الانتماء لدين أو طائفة أو مذهب أو عرق أو قومية أو ما إلى ذلك.. عندها تكون الطلائع السياسية على مستوى المسؤولية الكافية لتقدم الصفوف نحو مجتمع السلم, مجتمع الديموقراطية, مجتمع الوفاق والتآخي..

ولن نحيا باستقرار بخلاف تنازل بعضنا لبعضنا الآخر عن جزء من مطالبنا حيث تنتهي حرياتنا لحظة تبدأ حريات الآخرين .. وليس حيث تتسع مساحة سطوة طرف وسلطته وسيطرته على أكبر حصة من الكعكة! إنَّنا في وضع اليوم نعمل حيث لا  نسمح بتقسيم الزورق الذي نخترق به عباب بحر عالمنا المعاصر لأنَّ المعنى الوحيد للتقسيم هو غرق الجميع ولا وصول إلى برِّ الأمان. وهكذا تقَطّـُع أوصال حركاتنا وتياراتنا والتحجر عند بوابة ما نرى ونحلم به مستغلين الظرف فليِأخذ مَن يريد أخذ أكبر قطعة من زورق الوطن ولكنَّه لن يفلح بنجاة اللهم إلا إذا كان بمقدوره إعدام الجميع في مذبحة جديدة ليبقى متفردا بالزورق كلّه!!

نعم للمصالحة, نعم للحوار, نعم للعمل المشترك, نعم للقواسم الواحدة ولا لكلّ أشكال الفرقة والاحتراب ولإضاعة أية فرصة من الزمن اليوم قرار المصالحة وليس غدا لأنّنا اليوم أحوج إلى تجاوز الوضع المعقد... 

 

www.rezgar.com

www.geocities.com/modern_somerian_slates

 

 

  

 

1