انسحاب القوات الأمريكية بين الأجندتين الأجنبية والمحلية

 في ضوء أسئلة الواقع العراقي ومطالبه؟

الأستاذ الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

باحث سياسي أكاديمي\ناشط في مجال حقوق الإنسان

tayseer54@hotmail.com

 

في أجواء ما بعد الانتخابات العراقية وما يكتنف الأوضاع اليوم من المشاغلات سواء الحقيقية منها أم المفتعلة، يتراجع (أو يكاد يختفي) الحديث عما سيجري في قيض العراق الساخن بُعَيْد حوالي الشهرين ونيّف..  فموضوع انسحاب القوات الأمريكية في آب  أغسطس أمر بحاجة لوقفة جدية مسؤولة على مستوى الحدث من أهمية وخطورة..

إذ تولد من رحم الواقع العراقي أسئلة ومطالب رئيسة وأخرى في تفاصيل هذا الواقع المغمور بالتداخلات والتفاعلات وعواصف ما تحت الأكمّة وما فوقها. فإذا كان المبدأ الأساس المتفق عليه هو ضرورة خروج القوات الأجنبية كافة، فإنَّ مسألة خروجها ينبغي أن تتم على وفق أجندة الحاجات الوطنية العراقية وأسقفها الزمنية الموائمة..

وتقدم حال جاهزية الوضع الأمني سؤالا جوهريا صيغته: هل تمت السيطرة الحقيقية على الأوضاع وتوفير الاستقرار الذي ينشده المواطن العراقي؟ وهذا السؤال سيحيل مباشرة إلى سؤال آخر هو: هل تمتلك القوات المسلحة العراقية والقوات الأمنية الجاهزية الكافية لتسلم المسؤولية من القوات الأجنبية؟

إنّ هذين السؤالين المهمين هما ما يفرضان ظهور أجندة وطنية عراقية لأسقف زمنية لانسحاب تلك القوات. بخاصة في ضوء ربط الحكومة المحلية مسألة إطلاق الدورة الاقتصادية وأعمال إعمار البلاد والاستجابة لحاجات المواطن وتفاصيل مطالب يومه العادي بالوضع الأمني والتهديدات الإرهابية.. فعلى مدى سبع سنوات من الآلام تأرجحت القراءة الأمنية تحديدا على المستوى الرسمي بين إعلان دحر الإرهاب والسيطرة الأمنية وبين تكرار الانهيار من دون وجود أية مسوغات مقنعة لمثل هذا المشهد.. ومن دون أية إجابات منطقية لحالات الانهيار الأمني المتكررة التي استهدفت العراقي في حياته جاعلة إياه الضحية اليومية لجرائمها.

وللحديث عن موافقة الأجندة الوطنية العراقية لانسحاب في آب القابل وعن صواب ذلك الانسحاب في ظرف شهرين علينا قراءة المشهد وحقيقته بالنقاط الموجزة بالأسئلة الآتية:

1.  ما حجم الجريمة المنظمة على مختلف المستويات والأنواع التي تطال المواطن؟ وما حجم تفاعلات الجهات الأمنية مع هذه الحالات. (مشهد المواطن المضظر لأن يحمي نفسه بنفسه)...

2.  ما حجم عصابات الجريمة المنظمة والمافيات وحجم انتشارها وتأثيرها في الشارع وسطوتها المطلقة على بعض أحياء المدن والقصبات؟

3.  هل استطاعت أو تستطيع الجهات الأمنية إصدار إحصاءات حقيقية عن هذه الوقائع أو أم أنها حتى في  (منجزها) ما زالت خارج دائرة الشمول الوطني لأرجاء العراق كافة؟

4.  تنظيميا ممّ تتركب الأجهزة الأمنية؟ مؤسساتها؟ أفرادها؟ تغطيتها المدن والأحياء؟

5.  ما درجة الكفاءة المهنية؟ مَن يقدر هذه الكفاءة والجاهزية؟ الكلام الدعائي لبعض المسؤولين (السياسيين الحزبيين) أم  واقع حال العراقي المهدد يوميا في تفاصيل حياته؟ (لنقرأ ظواهر الاختطاف، السرقة، التهديدات والاعتداءات بأشكالها!)

6.  طبيعة الأجهزة والتقنيات والأسلحة التي تدربوا عليها أو التي يمتلكونها؟ هل تتلاءم والمشكلات الموجودة ميدانيا؟ (تذكير بأجهزة الكشف عن الأسلحة والمتفجرات وبإحصاءات ميدانية بالخصوص)..

7.  طبيعة الخروقات في بنية المؤسسات الأمنية العسكرية من مستوى الجندي البسيط حتى القيادات وهو أمر يؤخذ من جهتين واقع الحال وما تعكسه ظواهر الأفعال الإجرامية بوساطة عناصر في تلك الأجهزة وأيضا وبوضوح تصريحات المسؤولين عن وجود هذه الحقيقة. والاختراقات بأشكال وأنواع منها التي تخص العصابات المنظمة وأشكال ميليشياوية متصارعة ومنها عناصر تأتمر بمرجعية أجنبية إقليمية.. وعلينا التحسب هنا للنائم من تلك الاختراقات وليس لما يطفو اليوم فقط.

8.  التدريب النفسي والإنساني الأخلاقي وضوابط العمل والسلوك المهني ودرجة الانضباط في الأداء.. (نذكر بانتهاكات حقوق الإنسان في السجون ذاتها إذ تمارس أفعال مشينة وأشكال التعذيب بذرائع لا تمت لا للقانون ولا للقيم الإنسانية ولا لأسباب وجود هذه المؤسسة من جهة حماية الناس؛ فتصير مكانا لاغتصاب النسوة وتسقيطهن كما في أمثلة افتضح أمرها طوال السنوات المنصرمة وما لا يعرف عن السري المخفي لا ندريه في ظل انعدام الشفافية)..

9.  من جهة أخرى يظهر سؤال مهم يتعلق بحجم التهديدات الأجنبية المحيطة بخاصة ما بدا بوضوح في تعاطي الجارة إيران وكذلك تركيا مع الحدود العراقية والتراب والسيادة العراقيين.. ومشكلات لا الاعتداءات بل الدخول والسيطرة على أراض ومساحات في المياه العراقية من دون وازع أو رادع في ظرف العراق الراهن؟! فضلا عن الأطماع المعلنة منها والمستترة ما ينتظر احتمالات تكاد تكون مؤكدة في الاجتياح للأراضي العراقية في ظرف عدم وجود قوات بحجم المسؤولية. ومن بين الذرائع التي يجري تحضيرها مطاردة عناصر إرهابية أو حماية فئة أو مجموعة تابعة أو منع انتشار الأزمة العراقية وطبعا نقل الصراع مع جهات دولية إلى الأرض العراقية بدل ميدانه..

أما حال عدم جاهزية القوات الأمنية أفرادا ومؤسسات وهزال بنية القوات المسلحة، واحتمالات التدخلات الإقليمية من جميع الأطراف.. فإن السقف الزمني لانسحاب القوات الأمريكية يبقى مستعجلا ولا يستجيب للأجندة الوطنية العراقية ومطالب الواقع..

وشخصيا أتوقع حدوث هزات تتجاوز تعريض المواطن للتهديدات وأعمال الاستباحة لتصل إلى تهديد الوضع العراقي برمته من جهة تهديد العملية السياسية نفسها وهي العملية التي تتعرض اليوم لاحتقانات غير طبيعة بسبب تحضيرات التخندق الطائفي الطافية بآليات عمل بعض الزعامات وقيادات بعض الكتل المتسيدة..

ومن جهة دول الجوار، فإنها لن تتوانى، عن استغلال ذريعة منع انتشار الانفلات، من التدخل واجتياح قواتها وتفعيل مظاهر التقسيم وضرب لا السيادة العراقية حسب بل ما تحقق من أوليات محاولة بناء مؤسسة الدولة العراقية  وقد نفقد أراض في الجنوب والشرق وربما أخرى في الغرب العراقي فيما يحتمل أن يجري تهديد الاستقرار في كوردستان من كل من محورين يأتيان من منفذي إيران وتركيا.. ولطالما كان القصف والاجتياح المؤقت والمحدود سابقا أما في الوضع المحتمل القابل فإن جميع السيناريوهات مفتوحة حتى أبعدها تخيلا وتصديقا! لأنه لا أحد يستطيع ضمان ضبط الأمور لحظة توافر أجواء اشتعال فتيل أو شرارة الأخطر.

إنني أجد أمرين مطلوبين اليوم: أن يجري تسريع تشكيل حكومة شراكة وطنية. والبدء بمحادثات فورية عاجلة بخصوص كيفيات وأسقف مواعيد الانسحاب.. ومن جهة الولايات المتحدة ألا تتجه لانسحاب مستعجل غير مضمون النتائج في الميدان الفعلي عراقيا في ضوء الفراغ الأمني والعسكري وأن يتم التعاطي مع واقع حال الوضع العراقي والمنطقة وحاجاتهما وليس مع الشعاراتية إذ يكفي العراقي مآسي الحروب وانعدام الاستقرار والخلل الأمني ويكفي العراق أزمات التهديد بالتقسيم على أسس التخندقات التي يجري حفر بعض متاريسها اليوم بل منذ سبع سنوات عجاف.

وثقتي أن وعيا وطنيا عراقيا وإرادة قوية من العناصر والقوى النزيهة في العملية السياسية سيفعّل التعاطي مع الموضوع. كما أن استقرار الوضع في كوردستان والدور المؤمل في قياداته باتجاه حوار منتج لصالح جدولة موضوعية للانسحاب سيكون له دوره في حسم القرار لصالح تأمين الظروف المناسبة عراقيا للانسحاب.