آليات العمل الحزبي في الحياة البرلمانية

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

تسعى الحركات والأحزاب السياسية لأكبر عدد من المقاعد البرلمانية في محاولة للانتقال إلى وضع برامجها موضع التطبيق العملي. ولربما تشكلت ائتلافات انتخابية توحيدا لجهود القوى المتقاربة في رؤاها وبرامجها.. ومن الطبيعي بشأن آليات العمل أن تمارس القوى الحزبية حق المنافسة السلمية في سعيها لكسب جمهور الناخبين وإقناعهم بما رسمته من أساليب للبناء ولتقديم الخدمات الأفضل للمواطنين ومطالبهم وحقوقهم.

لكن هذه القوى ذاتها التي تدخل حلبة الانتخابات متنافسة  عبر آليات العمل الديموقراطي سلميا، هي ذاتها القوى التي تدخل البرلمان بوصفه الهيأة التشريعية التي ستؤدي مهامها الرقابية على أداء الهيأة التنفيذية (الحكومة) وأجهزتها العاملة.. ومن ثمَّ فإنّ آليات عملها في البرلمان ستتحول بالضرورة من حال (التنافس) وربما الصراع كما تشهده الحملات الانتخابية إلى وضع جديد مختلف..

إذ أن المهام التشريعية من جهة والرقابية الإجرائية من جهة أخرى تتطلب أساليب مختلفة، تلتزم بمنهج عمل يخضع لنصوص الدستور والقوانين النافذة.. كما تلتزم بالانتقال من حال التنافس الساخن إلى حال التعاضد والعمل المشترك  المنصبّ على بحث موضوعي لكل مشروع أو مفردة من مفردات عمل الحكومة...

بمعنى أن المعارضة البرلمانية لا تعني حربا (راديكالية) الآليات والفلسفة بل تعني مشاركة واعية وتعاونا أكيدا مع الأطراف الحكومية لتنفيذ البرامج وتسهيل الإجراءات البنائية؛ فالأساس في العمل البرلماني هو أساس تعاوني تعاضدي والجميع مسؤول عن تنفيذ خطط البناء والتقدم...

صحيح أن الجدل والحوار البرلماني يمكن أن يكون نقديا ومن الطبيعي أن يكون متابعا مراقبا، إلا أنه من الصحيح بل من المُلزِم للقوى (جميعا بضمنها (المعارضة) أن تلتزم بواجبها في العمل المشترك وبمعاضدة جهود البناء بعد أن يتم حسم النقاشات البرلمانية وإقرار مشروع أو آخر..

إنَّ أي أسلوب للعمل الراديكالي خارج مؤسسة البرلمان بما يتقاطع ومسيرة البناء هو في الحقيقة من الأعمال التي تتحمل مسؤولية عرقلة البناء وإيقاف مسيرة تطوير الخدمات والتعارض مع إمكانات تلبية مطالب الجمهور.. وهو أسلوب عمل حزبي سياسي يتعارض ومبدأ العمل البرلماني والخضوع لآليات الديموقراطية ومفردات منهجها الإجرائي..

من هنا ينبغي للقوى والحركات السياسية اليوم، أن تعيد التثقيف والإعداد لجهازها الحزبي وأن تتبنى آليات العمل الديموقراطي البرلماني على وفق معطياته وقوانينه ومنهج آلياته الإجرائية وألا تدخل في انتقائية تأخذ ما تريد وتطبقه وترفض ما لا يأتي وأهوائها ولا تلتزم به.. وإلا فإن من أولى متطلبات العمل عند إجازة حزب أن يتعهد في ظل أجواء الديموقراطية بالالتزام بآليات العمل الرسمي السليم كاملة تامة..

وعلى سبيل المثال، سيكون لقوى المعارضة أن تناقش وتحاور وتنتقد في قبة البرلمان ملتزمة بالآليات المنظَّمة بقوانين ولوائح معتمدة ومتفق عليها.. ولكن  ينبغي في هذا الإطار أن تنظر إلى  واجباتها في الانتقال للتنفيذ المشترك للبرامج التي تم إقرارها..

ربما سيكون عليها في إطار الحريات العامة أن تدعو جماهيرها  للتعبير عن رؤيتها ومطالبها وبحدود منظمة هي الأخرى بوسائل التعبير السلمي الذي لا يتعارض مع التزامها الواجب والمسؤول بمهمة المشاركة في تسيير العمل الحكومي على وفق البرامج المقرّة وبهذا لا يوجد هنا ما يسمح باعتراض تنفيذ المشروعات الحكومية وعرقلة مسيرتها لأي سبب كان...

 

إن فكرة المعارضة البرلمانية لا تقبل التقاطعات الحادة أو الراديكالية المعرقلة لمسيرة أنشطة أجهزة الحكومة ومؤسساتها.. ولا تجيز آليات العمل البرلماني \ الديموقراطي وقوف طرف (برلماني معارض) ضد الجهد المؤسسي الرسمي.. وهذا أمر طبيعي وصحيح  منتظر.

إذ المحك أن نسمح للبرامج أن توضع موضع التطبيق والجمهور هو من يحدد قبوله بالنتائج من عدمه عبر آليات التصويت والانتخاب الدورية.. ومهمة المعارضة لا تبتعد عن فكرة توفير قناعة  أوسع جمهور برأيها النقدي تجاه مجريات الأمور والبديل الذي تعتقد بأنه الأفضل لهذا الجمهور ومجددا فإن الصوت الانتخابي هو الحكم والفيصل الأخير في الاختيار..

وعمليا ومن دراسة الحال العامة لقوى حزبية معارضة في كوردستان نجد أن وعيا جديدا بدأ يولد ويتعزز ولكن من السابق لأوانه الحديث عن نضج تلك القوى وقبولها بالنتائج من جهة وقناعتها بالعمل على وفق ما تفرضه آليات الأداء البرلماني من جهة أخرى..

ومن مثل مواضع الخلل التي نشير إليها هنا، ما أدى بالمحصلة لممارسات انفعالية واحتدامات واحتقانات يتمثيلها من حيث جوهرها حال الطفولة أو المراهقة السياسية وهي حال أفضت في بعض الأحيان لعرقلة الأداء أو لإرباك في ذهن المتلقي الذي ينتظر دروسه من النخب السياسية الواعية..

إن عددا من القرارات والأداءات الحزبية بقيت حبيسة الأساليب الكلاسية العتيقة التي تعبر عن حال التناقض بين القيادات النضالية والسلطة القمعية. فيما نحن في عهد يختلف نوعيا ويطالبنا في وقت قبلنا بآلياته أن نستكمل ذلك بقناعة تامة كيما نطبق ما ينتظرنا من أساليب جديدة مسؤولة عن إنضاج التجربة والانتقال بجمهورنا إلى أوضاع نوعية جديدة تختلف في سياقاتها ومن ثم في نتائجها..

إنّ دور الحاجات والمطالب الشعبية ووعي الجمهور بآليات الوصول إليها بخاصة في ظل خياره التوجه لتعزيز نظام ديموقراطي برلماني، إن ذلكم لكفيل في توكيد الناخب لخياره من بين القوى التي تلبي برامجها حقوقه الأساس. ولكن في ذات الوقت سيكون من أسباب العرقلة وإثارة التعقيدات  والمشكلات غير محسوبة العواقب استمرار قوى بعينها بأساليب العمل بعيدا عن آليات الديموقراطية ووسائل عملها وإنجازها..

ويبقى السؤال الرئيس اليوم يكمن في: هل فكرت تلك القوى بمراجعة أساليبها؟ وهل ستتبنى منهجا جديا مسؤولا في التفاعل مع الوضع الجديد؟ وهل ستقرأ الأمور على وفق العمل المؤسسي القانوني الدستوري؟ وهل ستقرأ طبيعتها وقراراتها ووسائل تعاطيها مع الوضع الجديد من فهم ناضج لمعنى المعارضة في إطار العمل البرلماني الدستوري؟  والجواب المؤمل من قوى المعارضة ذاتها ينبغي أن يكون إيجابيا كيما تمضي السفينة آمنة في الاتجاه الأكثر صوابا.