حقوق الأكاديمي العراقي في المهجر؟

رسالة مفتوحة إلى من يعنيهم الأمر

تيسير عبدالجبار الآلوسي

tayseer54@hotmail.com

 

في ظروف عراقية معقدة توجه أكاديميون عراقيون إلى منافيهم طوال العقود الأخيرة. ففي بدايات ونهايات الستينات والسبعينات تعرض الأساتذة لحملات اعتقال ومضايقات وصل بعضها حدّ تنفيذ التصفيات والاغتيالات والإعدامات.. ثم تمّ استغلال الحروب العبثية لمواصلة نهج التصفية والتقتيل.. وتحت ضغوط التسعينات وانهيار قطاعات واسعة منها التعليم دُفِعت وجبات أخرى لمنافي جديدة.. ومنذ العام 2003 جاءت ماكنة موت أسود أخرى فكانت حملات التصفية والاغتيالات التي طاولت مئات وآلاف من الأساتذة والمتخصصين ومجموع الأكاديميين العراقيين... مسيرة من العنف.. من أبسط أشكاله حتى أعقدها وأبعدها وحشية ودموية. وما زالت الآلة الجهنمية تواصل عمليات الذبح البشعة..

وفي ضوء هذا المشهد، يوجد اليوم في المهاجر القصية، آلاف إن لم يكونوا عشرات آلاف من الأكاديميين من علماء ومتخصصين بمختلف المجالات ومن أساتذة جامعة وخبراء ومستشارين من العقل العراقي اللامع عالميا، المنتج إبداعا معرفيا علميا مهما...

إنّ بعض هؤلاء يمارسون أعمالهم في تخصصاتهم على وفق حاجة المؤسسات الدولية لتشغيلهم.. فيما يعاني جلّهم من واقع تشغيلهم قسرا في غير تخصصاتهم أو أنّهم يعانون من البطالة التي ضربت العالم بكليتها وشمولها.. وفي جميع الأحوال وبالنتيجة المتحصلة، فإنّ ما يجري هو عملية تصفية لإمكاناتهم وطاقاتهم العلمية حيث بترك الصلة مع العمل والدراسة لسنوات متوالية مؤداه في النهاية قتل فعلي عملي لتلك الطاقات العلمية التي تم بذل جهود مجتمعية رسمية وشعبية، عامة وخاصة من أجل إعدادها، وبغض النظر عن عشرات آلاف الدولارات المصروفة على إداد العالم أو الأستاذ الجامعي فإنّ جهودا مضنية من عمر الفرد والمجتمع لا يمكن تعويضها بقرار أو بإجراء وسيقتضي لإعادة الإعداد البديلة أن نخسر سنوات أخرى وأن نبدأ من جديد لنطارد التطورات المتسارعة عالميا...

وبات من نافلة القول الحديث في مثل هذه الأمور أو الانشغال بإعادة التناول؛ بعد أن تم قتلها إحصاء وتحليلا. واليوم، بعد أن بدأ رفع العقيرة بالحديث عن (العراق الجديد)، عراق حقوق الإنسان، عراق رعاية المواطن والعناية بمطالبه وتلبية حاجاته.. فإنّ ما ينبغي التوقف عنده هو ما تحقق لصفوة من مواطني العراق ممن تعتمد عليهم عمليات إعادة الإعمار وبناء العراق الجديد كيما يجري تلبية مطالب المواطنين في تفاصيل اجتياجاتهم؟

نقصد هنا، ما الرعاية التي حظي بها العلماء والمتخصصون والأساتذة من العقل العراقي النخبوي؟ وما الخطط التي تمّ وضعها لاستثمار وجودهم بهذا الحجم النوعي المميز في العراق الجديد ومسيرة إزالة الخراب والدمار منه؟

الصحيح أن كل الأخبار الواردة تشير إلى استمرار التصفيات الدموية ومواصلة عمليات الاختطاف والاغتيال والضغط باتجاه دفع هذه النخبة للتوجه إلى المنافي ومنع تلك الموجودة في المهجر من العودة أو حتى التفكير بصلة ما بالوطن..

كما أن واقع التشريعات الجارية واللوائح المعمول بها وسياسات التوظيف الجديدة تواصل قمعا رسميا ممنهجا للخبرات والعقول المميزة المعروفة ومنع تشغيلها بالإحالة إلى التقاعد وقطع العلاقة بينها ومراكز البحث العلمي و\أو جهات الإنتاج المعرفي.. وقد اصطف طوال السنوات الست المنصرمة مئات وآلاف من العائدين للوطن في طوابير طلب العمل فلم يجدوا سوى الإهمال وحتى التعنيف والزجر والإهانة المقصودة المباشرة وغيرها. ومع عودتهم خائبين إلى مهاجرهم (يحمدون الله على نجاتهم من التصفيات الجارية) فقد تمّ إلحاق وجبات متتالية جديدة بهم أو بصفوف التقاعد الإجباري؟

إنّ كل هذا المشهد المأساوي لم يفت في عضد التمسك بمحاولات خدمة الوطن من جهة والمحافظة على أفضل العلاقات بالهوية والمجتمع العراقيين. واستطاع بعض هؤلاء أن يؤسسوا مراكز بحثية وشركات إنتاج ومؤسسات أكاديمية علمية للتدريب ولربط العراق بالمؤسسات العلمية العالمية ومثلها مؤسسات أكاديمية جامعية تحاول ولوج الوطن عبر نوافذ التكنولوجيا الأكثر تطورا لتحديث التعليم العالي العراقي وتطويره...

ولم يجد هؤلاء مرة أخرى سوى الصد واختلاق العراقيل ومنع فرص وصولهم إلى الميادين العراقية بمسميات عديدة مختلفة فالشركات يجب أن تخضع لآليات الفساد السائدة وإلا منعت مطلقا من المشاركة في جذب قوى الإنتاج والاستثمار الفاعلة ومراكز البحث والمؤسسات الأكاديمية لا شرعية لعملها لأنها تعمل بتكنولوجيا لم يصدر لها تشريع في العراق الجديد بعد، وطبعا لم تخضع لمساومات ساسة اليوم!!

وليس لنا في نهاية المطاف وقبل أن ننتقل إلى المطالب والحاجات سوى أن نعرض لما يعاني منه مواطنو العراق من نخبته العليا وعقله العلمي؟

1.    يعاني أصحاب التخصصات العلمية العليا في الغالب من بطالة  أما مطلقة بسبب من عدم توافر فرص العمل في تخصصاتهم في أماكن إقامتهم، أو يعانون من بطالة بوجه آخر حيث يمارسون أعمالا هامشية أو لا تتصل بتخصصاتهم المعرفية العليا.

2.  يعاني كثير من هؤلاء من ظروف صحية غير مؤاتية ويتعرضون في أحيان كثيرة لأزمات هددت حيواتهم وتوفي بعضهم بسبب من الإهمال أو فقدانهم الرعاية الكافية لأسباب لسنا بصدد التفصيل بها هنا. وما مرّ من الجهات الحكومية جاء بمطالبات احتجاجية وتضامنية لم يُستجب فيها إلا لحالات فردية محدودة بطريقة العطايا والمواقف الدعائية الاستعراضية..

3.  المعاناة من أزمات نفسية واجتماعية بسبب من العزلة والانقطاع عن الوطن ومجتمعهم الأم، وأحيانا حتى عن فرص الاتصال بالجاليات. ومن المعقد شرح أمثلة بهذا الشأن حيث يجري تقديم بعض جهلة وأميين واهتمام بمكانتهم لأسباب ودواعي تعرفها جهات امتلاك الأموال وتدويرها في وسط الجالية بخاصة من ((بعض)) معممي الجالية ومجلببيها ممن تأتيهم الأموال طوفانا بلا حساب في وقت يجري التعتيم على علمائنا ووجودهم.. كما أن إمكانات الجهات المتنورة وفرص دعمها من التدني ما يمثل الفتات أمام ملايين تمرر (لآخرين) بآليات مختلفة......

وفي ضوء هذا الإيجاز والإجمال، يمكن الحديث عن بعض حلول وتطلعات، ينبغي العمل من أجلها سويا ومعا حيث لا خارج وداخل ولكن مجتمع عراقي واحد يتوزع وينتشر جغرافيا ويتركز ويتحد إنتاجا وعملا :

1.  ينبغي عمل إحصاء رسمي بالوجود المهجري للمتخصصين والطاقات العلمية من خبراء واستشاريين ومن علماء وأساتذة.

2.  أن توضع هذه الإحصاءات بيد المؤسسات الحكومية والخاصة و جهات الاستثمار الأجنبي بما يُلزم هذه الجهات بإدخال هذا الوجود النوعي في خطط العمل السنوية القصيرة والاستراتيجية البعيدة.

3.  إيجاد آليات عامة وأخرى مخصوصة بكل قطاع إنتاجي أو معرفي تعليمي وتدريبي وذلك للتعاطي مع هذه الطاقات..

4.  إيجاد خطط مالية وأن يجري رصد ميزانيات (أموال محددة) بغرض تفعيل الصلات واستثمار هذه الطاقات.

5.  أن يجري توفير فرص دعم الجهود المؤسسية والفردية للطاقات العلمية في المهجر بخاصة وتحديدا منها ما يخدم جهتين: الأولى ممثلة بالجاليات العراقية في مهاجرها والأخرى تلك التي تصب في خدمة الشعب في داخل الوطن..

6.  إصدار التشريعات والقوانين الساندة للجهود المؤسسية لعراقيي المهجر من مثل تشريع قانون التعليم الألكتروني وتسجيل تلك المؤسسات بما يعتمد تلك الجهود ويعمّد تطور مسيرتها وإشراكها في عمليات التحديث والاستثمار في إعادة البناء في داخل الوطن.

7.  إيجاد اتفاقات التعاون مع المؤسسات الدولية بما يكفل جذب خبراتها عبر دعم تشغيل علمائنا وأساتذتنا فيها بغرض تفعيل أدوارهم في الإشراف على بعثاتنا العلمية  المتجهة للتدريب والأعمال البحثية المخصوصة باستثمار المختبرات والأجهزة ومنظومة التعليم المتطورة في البلدان الأوروبية وفي الأمريكتين.

8.  منح الحقوق التقاعدية بتوفير الغطاءئن القانوني والمالي للكفاءات العلمية من الأساتذة المهجريين.

9.  توفير صندوق الرعاية والدعم للمهجريين من الأساتذة والعلماء بمسمى صندوق الأزمات والطوارئ التي تستدعي التفاعلات العاجلة بدل صيغة العطايا والمكارم الاضطرارية...

10.          إيجاد جوائز ومحفزات مادية وأدبية لهذه الكوكبة من الذين عانوا الأمرَّين في منافيهم ومهاجرهم، ولم ينقطعوا عن العطاء للوطن والناس.

11.          من أبسط القواعد الاحتفاء بعوائل الراحلين وعدم تركهم لمعاناة التنكر والإهمال والاحتفاء بشعب يكن التقدير والاعتزاز لمبدعيه.. ومن بين الأمور المؤسية حتى يومنا هذا، وجود أعلام وقامات كبيرة منحت للعراق هوية و أعطته رايات الفخر والعز، فيما ترقد رفاتهم في مقابر الغرباء بالمنافي والمهاجر.. فلا هم  اُحْتُفِل بهم أعلاما خالدين ولا رفاتهم أُعيدت للوطن...

 

 

وبعيدا عن هذه الإيماضات السريعة، يمكن أن نسجل على سبيل المثال وبشكل مخصوص في قطاع التعليم العالي، أهمية أن تتجه جامعة عراقية أو أخرى بإسناد الإشراف الثاني لعدد من طلبة الدراسات العليا فيها، للأساتذة العراقيين في المهجر. وأن تستثمر وجودهم في بلد أو آخر لإيجاد اتفاقات تعاون مع مؤسسة أو شركة أو جهة بعينها. وهذا بالتأكيد بحاجة لتخصيصات مالية وخطط بمستويات وتخصصات متنوعة مختلفة...

كما يمكن للمناقشات العلمية لرسائل الماجستير والدكتوراه الجارية في الجامعات العراقية في داخل الوطن أن تستعين بالطاقات العلمية الموجودة في المهجر.. وأن يجري الدعوة لمؤتمرات تخصصية سنوية تشمل مجموع الباحثين المعتمدين والفاعلين في جهودهم.. وأن تنعقد هذه المؤتمرات بجزءين أو شطرين أحدهما في مدينة عراقية والآخر في المهجر بما يتيح فرص استقطاب الجهود المهجرية والأجنبية وإدخالها في جهود التطور والتحديث ومسيرتهما..

ومن الطبيعي أن تتاح فرص طباعة البحوث ودعم إنجازها وتكليف جهات وأفراد بها مع أوسع حركة طباعة للكتب والمؤلفات  بمقابل استحقاقاتها المالية والأدبية وإيصال المطبوعات المحلية بخاصة منها البحثية للمؤسسات العراقية المهجرية..

إن عناية كل مؤسسة عراقية في داخل الوطن بفتح منافذ وجسور تجاه من يعنيهم التخصص في العلاقة بين الطرفين سيكون له أفضل النتائج على صحوة استثمار الطاقات.. و ردع تلك السياسة التي حاولت و ما زالت تعمل على قطع العلاقة مع النخبة العلمية للعراقيين بقصد إشاعة الظلام والتخلف في داخل العراق الجديد..؟!

كما أن سياسة استراتيجية ملموسة بالخصوص ستعني بحق أننا نقلل من الكلف المادية في توفير البناة الحقيقيين ومنع ترحيل أموالنا خارج مستحقيها من شعبنا وتوفير الكلفة الزمنية لإعداد الخبراء الموجودين أصلا وتهملهم السياسات الحالية أو تغفل عنهم.

إن وجود ملايين العراقيين في المهجر يستدعي واجبا وطنيا على أية حكومة عراقية أن تعنى بهم وبمطالبهم وحاجاتهم.. ومثلما أضعف الدول إمكانات وطاقات [و لا نقول أغناها] تعتني بأبنائها أينما ذهبوا فإن على العراق الغني بثرواته وإمكاناته أن يحقق واجب رعاية أبنائه أينما كانوا.. وأن يعوضهم عن زمن قسى عليهم وقذف بهم إلى منافي الاضطرار يوما.. وأقل شيء يكمن في تعويضهم بما تبقى من أعمارهم بعد أن خسروا جلّ العمر في معاناة المنافي القسرية...

هذا بعامة الأمر، فكيف بنا ونحن نتحدث عن علماء بـِ (قامات شامخة) صرف الشعب على إعدادهم من دمه وتضحياته ومن أعمار أبنائه؟ ألا يستحق هذا وقفة وطنية كبرى لمراجعة الموقف والخطط والاستراتيجيات والسياسات؟

ذلكم ما نضعه بين يدي النقابات والمنظمات والاتحادات القطاعية المهنية [و ربما الأحزاب] كيما تتصدى للأمر وتضعه في برامجها المطلبية وتدخله في برامج الحكومة وأجهزتها وفي خطط المؤسسات وسياساتها من أجل التحديث والتطور من جهة ومن أجل استرداد حقوق علمائنا وتلبية مطالبهم الإنسانية بعد زمن التعسف والاضطهاد والضيم والظلم.. فهل نحن فاعلون؟؟

إن هذه الكلمة موجهة لكل مؤسسة جامعية عراقية ومركز بحثي علمي عراقي ولكل نقابة ومنظمة عراقية ولكل جهة مسؤولة وعلى رأسها جهات التشريع والجهة التنفيذية (الحكومة) التي ينبغي أن ترسم خططها مما يوضع على طاولتها من مطالب وحاجات واقعية مباشرة..

وهذه الرسالة المفتوحة ليست (كدية أو تسولا) لتطلب بل هي حق تطالب الجميع بتحمل المسؤولية تجاه تلبيته.. وأول الغيث التفاعل هنا علنا وأمام جمهرة علمائنا وأساتذتنا للرد والإجابة أو للاستجابة وتلبية ما يجري تنضيجه معا وسويا من موضوعي الرأي والمطلب...؟؟ فهل من تفاعل؟