الانقلاب على الدستور تهديد للعملية السياسية

تيسير عبدالجبار الآلوسي

 

ومضة:

هذه كلمات وتداعيات من واقع مجريات الكارثة التي نحياها في العراق اليوم؛ عساها تجد تحليلا موضوعيا دقيقا من سادة الخطاب الوطني وممثليه..

توطئة:

انتهت الانتخابات البرلمانية العراقية قبل أشهر.. وما زال أمر تشكيل الحكومة معتقلا بإرادة عدد من الشخصيات التي تتحكم بالقرار اليوم. وعلى الرغم من أن الانتخابات جرت على وفق مقاسات تضخمت بالثغرات والخروقات الحقوقية إلا أنّ الجهات الحزبية وتحديدا زعاماتها تواصل محاولاتها لمزيد من إحكام وجودها في قمة السلطة وترفض مبدأ التداولية وإنْ تبرقعت بأقنعة اللعبة السياسية..

وينبغي أن نتذكر بجدية أن الأحزاب دخلت الانتخابات بلا قانون أحزاب وهو ما ترتب عليه تسيير تلك التنظيمات والحركات بوساطة رئاسات فردية تتحكم فوقيا بالجميع الأمر الذي منح تلك الزعامات سلطة القرار مستبدلة الحزب برئيسه أو زعيمه بمعنى إزاحة الحزب وتعطيل أدوار أعضائه وتنصيب الرئيس مكانهم جميعا.. ولعل ما يؤكد هذه السمة هو عدم وجود أية صلاحيات حتى للوفود المفاوضة ما يجعل اللجان ملزمة ومحددة بمهمة الصياغة للقرارات الرأسية الواردة إليها بهيأة تعليمات وأوامر قطعية...

وقد دخلت تلك الأحزاب بقانون انتخابات تمّ تفصيله على مقاس يستبعد الأحزاب الوطنية المدنية (العلمانية) عبر تفاصيل الأمور الإجرائية المقنونة التي استبعدت مئات آلاف أصوات المهجر فضلا عن توجيه التهديدات العنفية المسلحة (ميليشيات أحزاب الطائفية السياسية) والعقائدية الدينية بذريعة المرجعية وتوصياتها أو أوامرها بالتكفير مرة وبقطع فتات (الرزق) مرات وهكذا... ولا حاجة بنا للعودة إلى تفاصيل الدائرة الوطنية والدوائر المتعددة وغيرها من إشكالات قانونية أخرى..؟!!

 

تعطيل أهم آلية للعمل الديموقراطي (تعطيل العمل بالتداولية):

أسوق هذه المقدمة العجلى المختزلة كيما أشير إلى أنه من الطبيعي ألا نفاجأ باستمرار محاولات حصر السلطة بأحزاب الطائفية السياسية وتعطيل مبدأ التداول السلمي على وفق نتائج الانتخابات.

إنَّ أبرز آليات العمل البرلماني ومسيرة الانتخابات ومفردات العمل الديموقراطي تكمن في مبدأ التداولية.. فإذا تمَّ عرقلته فإنّ ذلك سيمثل مشكلة معقدة في الحياة العامة فما بالكم ومبدأ التداولية معطل تماما وهو ليس في وارد التطبيق عند أحزاب الطائفية!

لقد اتفقت الحركات الحزبية للطائفية السياسية على مبدأ عدم السماح بخروج رئاسة الحكومة [السلطة] منها؛ ومن هنا جاء التحالف الوطني بين الائتلاف والقانون لا ليكون كتلة منسجمة ولكن فقط لمنع خروج الرئاسة من أيديهم وقطع الطريق على الكتلة الفائزة في ترشيح رئيس الوزراء في وقت هم أنفسهم لا يوجد لديهم اتفاق على بديل!

إذن تم تشكيل التحالف لأمر واحد يتمثل بمنع الكتلة التي تعلن رفضها للتقسيمات الطائفية التناقضية وتحاول أن تتجه  بالعراق إلى نموذج الدولة المدنية الدستورية..  وإبقاء زمام الأمور بسلطة يتحكم بها طغيان (الأغلبية البرلمانية؟) بما يزعم إزاحة نظام (استبداد الطاغية) الفرد غير أنّ بديل هذا الزعم ليس غير (استبداد الزعامات الطائفية السياسية)!

أما سمة الطائفية السياسية فليست تهمة موجهة لحركة أو أخرى بل هي واقع ملموس شهدت السنوات السبع العجاف عليه حيث التحكم بإدارات الدولة والفساد الذي عُدَّ الأول عالميا بنهب الثروة الوطنية حتى بات المواطن البسيط يتساءل اليوم عمّن يجيبه عن مآل الـ300 مليار في آخر ميزانية للحكومة دع عنك أشكال التهريب والسرقة والنهب والتخريب؛ فلا ماء ولاكهرباء ولا صناعة ولا زراعة ولا خدمات صحية ولا تعليم ولا أي شكل من أشكال ديمومة الحياة البشرية وتفاصيل اليوم العادي للمواطن، فأين كل تلك الأموال التي تبني بلدانا! والأقرب لفضح الطبيعة الطائفية أنَّ السنوات السبع العجاف شهدت موتا مجانيا وفرضا قسريا للصراعات بمظاهرها ((الطائفية)) وتقتيلا وتصفية طاولت العلماء والخبرات الوطنية مثلما وجهت عنفها الدموي الوحشي إلى المجموعات القومية والدينية حتى كادت البلاد تخلو منهم!

لقد ساد مشهد إثارة الصراعات وأشكال الاحتراب بين مجموعات تدعي تمثيل الطوائف العراقية (ومظلوميات طافية مزعومة) وهي تدفع باتجاه الجريمة عن قصد وغيره فكانت تلكم هي الطائفية السياسية التي تريد اليوم مواصلة سلطتها وتحكمها بالقرار الوطني العراقي واستبعاد أية فرصة لانتقال السلطة إلى جهة وطنية علمانية تعيد للدولة مكانتها وتطهرها من أشكال الاختراقات والفساد وتتمكن من بناء المؤسسات الدستورية (الوطنية) المتطلع إليها شعبيا...

 

الانقلاب على الدستور استكمال لاستباحة الدولة ومؤسساتها:

إنّ رفض تسليم السلطة سلميا وتعطيل مبدأ التداولية لا يمكن إلا أن يمثل أعلى جريمة بحق الدستور ووجود الدولة المدنية وآلية العمل الديموقراطي فيها.. وتعطيل التداولية هو انقلاب قد لا يكون بمظاهر مسلحة ولكنه انقلاب بالإكراه على سلطة الآلية الدستورية..

ولا يمكن للعبة تشكيل التحالف الأكبر أن تغطي (هذا الانقلاب) اليوم لأن هذا التحالف جاء ليُبعد الفائز في الانتخابات فقط لاغير من دون أن يمتلك البديل.. فإن سلمنا له بأنه يمارس حقه وإذا عددناه فائزا بالكتلة الأكبر فأين مرشحه؟ ومعروف أنه إذا فشل تحالف أو كتلة في تشكيل الحكومة في السقف الزمني فإن البديل هو اللجوء إلى الكتلة التالية ومن بعد ذلك العودة للتصويت الشعبي بانتخابات.. لكن منطق الممارسات لهذه الحركات (الزعامات الأفراد) لم يقم إلا على أساس الرفض والمنع وقطع الطريق على التداولية وعلى تسليم السلطة لجهة يشكّون في انتمائها للطائفية السياسية أو بدقة تبعدهم هم ممثلو الطائفية السياسية عن التحكم الفعلي بالسلطة والدولة..

إنّ الانقلاب على الدستور يمثل استكمالا لنهج استباحة القوانين وتجيير مؤسسات الدولة لمصالح الاستبداد الجديد.. لمصلحة إشاعة الفكر التقسيمي المرضي واستعداء مكونات الشعب بعضها ضد بعض واستغلال التناقضات والاحتراب لتمرير ألاعيب الفساد وأشكال الجريمة التي استباحت البلاد والعباد..

 

الانقلاب على الدستور تهديد بنسف العملية السياسية:

إنّ الانقلاب على الدستور وتعطيل مفردات العمل الديموقراطي يتجه بعيدا في تهديد العملية السياسية ونسفها نهائيا.. وهو ذات الهدف الذي تحارب من أجله قوى الإرهاب الدموية.. ولطالما حذر الواعون من شعبنا من أن أعداء العملية السياسية لا يمثلهم الإرهاب وحده بل هم مثلث من الطائفية والفساد والإرهاب، يتعاورون على الهدم والتخريب وكل يلعب دوره وينهش حصته في تنافس مرضي رخيص..

ولننظر إلى سياسة بعض حركات الطائفية السياسية فهي لا تقوم على الاقتراب من الكتلة التي تحقق مطالب لها بل تقوم على النقيض من آلية العمل الطبيعي والأداء السياسي الصحي الصحيح والسليم قانونيا دستوريا، بوضوح تقوم على  الرفض والحظر ووضع الخطوط الحمراء.. فهي لها خط أحمر حتى مع حليفها في قطع الطريق على التداولية والتسليم بفوز قائمة بعينها.. ولم تعرف الآلية البرلمانية في نظام مستقر خطاب الخطوط الحمراء والرفض والتشدد إلا وكانت النتائج الانهيار والتخريب في المسيرة السياسية..

إن منطق الأمور في الواقع العراقي يشير إلى وجوب الالتزام بالاحتكام إلى الشرعية الدستورية بعقد جلسات البرلمان واستكمال الإجراءات القانونية باستخدام آليات معهودة متعارف عليها كالتصويت وعمل اللجان وأشكال التفاوض مع الالتزام بالأسقف الزمنية والقوانين المعمول بها..

غير أن الجاري هو رفض العودة للبرلمان وضمنا رفض استكمال انتخاب رئاسته وتشكيل لجانه وتفعيل دوره في مراقبة الأداء وانتخاب الرئاسة ورئاسة الحكومة..

عليه يجب اليوم اتخاذ الموقف الحاسم من أعضاء الحركات السياسية كافة بالوقوف بوجه الزعامات المماطِلة تحقيقا لمصلحتها ومن أعضاء البرلمان بالتجمع لعقد جلسة طارئة تحسم أمر رئاسته وممارسة أعماله كاملة وإلا فإن هؤلاء يشاركون ذات الاتجاه التخريبي لبعض أفراد يصرون على رفض التداولية..

إن رعاية العملية السياسية يلزمها تعميد القبول بتطور مسارها في تشكيل مؤسسات الدولة على وفق آليات الديموقراطية.. وبخلافه فإن أي ادعاء بالتزام تطوير مسيرة العملية السياسية هو ادعاء مزيف يفضحه جوهره المتعارض مع البدايات الأولى لبناء مؤسسات الدولة وتطبيع العمل بأليات قانونية وعلى رأسها آلية  تداول السلطة..

 

 

خلاصة ونتائج:

بالخلاصة فإن مجريات الوضع تشير إلى انقلاب على الدستور بتأخير متعمد لا يعير لمصالح الشعب والوطن أي اهتمام ولا يعطي الأولوية إلا لمآرب ومبتغيات فردية مخصوصة  بمسؤول حزبي حكومي [زعامة دولة القانون].. وهذا يمثل خطر الالتفاف على العملية السياسية برمتها ونسفها  بما يعني نسف السلم الاجتماعي وتقسيم الشعب بين طوائف محتربة بالإكراه بوساطة قوى العنف والإرهاب...

من هنا وجب فورا العودة إلى دعوة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته في فرض سلطة القانون وكسر حال الجمود المقصود في منع مؤسسات الدولة من العمل القانوني الدستوري.. بتعطيل البرلمان وبالاحتكام لحكومة تصريف الأعمال غير المسؤولة من جهة وغير القادرة على تسيير أبسط مهامها في رعاية الأمن والاستقرار في البلاد.. حيث تتصاعد الأعمال الإرهابية الدموية البشعة وحيث تتعاظم التهديدات لحيوات المواطنين العراقيين..

إنّ أزمات الكهرباء التي باتت شبه معدومة والمياه الملوثة التي باتت مصدر ربع السكان في أفضل الأحوال حسب تقديرات الحكومة ذاتها وأزمات الخدمات الصحية وأزمات السوق وعدم تلبية احتياجات المواطن الغذائية ولو بحدها الأدنى ؛ كل تلك الأزمات، هي علامة على كارثية ما يتجه بنا إليه ساسة الانقلاب على الدستور...

والأمور لن تقف بالتأكيد عند هذه الحال بل ستؤدي أما لانتفاضة شعبية عارمة أو لأشكال من الانقسام والتشظي والحروب الطائفية الفئوية بما يمثل (لبننة أو صوملة) العراق أو شرذمته وجعله كانتونات تابعة لدول الإقليم وما يطال المواطن سوى العبودية والإذلال والوقوع صيدا سهلا لمن يتاجر بآخر ما تبقى له من فتات حياة العبيد!!!

 

أما بعد:

فلن يستحي من لا حياء له، ولا يمكن للشعب أن ينتظر طويلا، ولابد من حركة مجتمع مدني وحركة سياسية وطنية مسؤولة تتصدى لتعطيل الدستور والانقلاب عليه..

ونحن بلا جيش ولا شرطة بلا قوات حفظ أمن ولا حماية دولية، مشرعة بوابات البلاد لكل من هب ودب ولمسؤولين لا يحتكمون لعظة ولا يتحملون مسؤولية المآسي

 

والدجل الإعلامي بشان اعتقال مجرم وتطهير مؤسسة من فساد لا يعدو عن كونه ذر رماد في عيون لمزيد من ضباب وعماء يبعد تلك العيون عن المجرم الحقيقي..

انظروا بعين فاحصة فما زال بعض الضياء موجودا قبل أن تضيع فرصة انقاذ العملية السياسية من تخريبها وتخريب الوجود الوطني العراقي بأكمله!!!؟