الإحصاء السكاني منطلق لحركة الإعمار ومصداقية لها

أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

رئيس جامعة ابن رشد في هولندا

رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر

tayseer54@hotmail.com

 

تُطلق كثير من الشعارات والوعود الانتخابية التي لا يمكن التعاطي معها إلا من باب الاستهلاك المحلي، وربما في بعضها حالات من الضحك على ذقون الناس تعكزا على أكتافهم في البقاء في سلطة القرار أو توجيه قضية على وفق رؤية محدودة أو أخرى.. وبخلاف الشعارات فإنّ البرامج الوطنية للإعمار وإصلاح الأوضاع وتلبية حاجات الناس وإطلاق فعل التنمية بعموم مستوياتها ليست كذلك في إطار مسيرة العملية السياسية وتقدمها إلى أمام ولو بتعسّر وصعوبة..

إنّ إثبات النية وصدقيتها في التوجه لعمليات البناء سيتأكد من بوابة قراءة الواقع على أساس التعرف إلى الحجم السكاني الحقيقي وعلى أساس التعرف إلى خريطة دقيقة لتركيبة المجتمع وتفاصيل أوضاعه وحاجاته.. وذلكم لا يأتي إلا من وجود (إحصاء سكاني) قريب ومباشريقرأ الوضع على ما هو عليه وليس بتقديرات ومقاييس افتراضية، على ضرورة تلك الآليات [من التقديرات الافتراضية] في ظرف بعينه..

بمعنى أننا بمواجهة استحقاق وطني بأن يتم الالتزام بإجراء كل أشكال الإحصاء والقياس بشكل ثابت ودوري وألا يتم ربط العملية بأية اعتبارات فئوية حزبية ضيقة تنطلق من تفسيرات وقراءات خاصة وترتبط بمراحل صراع أو جدل بصدد مفردة برامجية أو موقف حزبي أو ما شابه..

إن الالتزام بإجراء الإحصاء السكاني بأسسه العلمية (كاملة تامة بالإشارة إلى بند القومية مثلا) هو إجراء مدني واجب الاعتماد والتثبيت بشكل دوري لا يخضع لأهواء القرارات المرحلية الخاصة بهذا الحزب الذي يقود السلطة أو ذاك. وسيكون من الطبيعي أن يُخرِج أي حزب أو مسؤول مثل هذه المفردات المدنية الواجبة من دائرة النزعات المحكومة باللحظة وشروطها وظروفها..

بالمقابل يجب أن يهيئ المتصدر للسلطة التنفيذية كل الفرص والظروف المؤاتية لإجراء مثل هذه الالتزامات الواجبة في مواعيدها وبالطريقة المثلى.. وألا يعيق الإجراء والتنفيذ سوى الكوارث على المستوى الوطني؛ الطبيعية وغيرها من زلازل وأوبئة وحروب وما شابه وبخلافه فإن التلكؤ عن إجراء فعالية كالإحصاء السكاني هو فشل استراتيجي ذريع للتصدي لمسؤولية قيادة الأوضاع العامة..

من هنا وتأسيسا على هذه الحقائق وجب وقف حالات التأجيل والتسويف في موعد إجراء التعداد من جهة ووقف أية تغييرات سلبية في مفردات الإحصاء التي تُعدّ من المعلومات الطبيعية الثابتة في أية دولة معاصرة تستند إلى قوانين العصر ومنطقه لا إلى أية مفارقات تتعارض وعصرنة الحياة ومنطقها وآليات التقدم بها..

إن المبدأ الرئيس هو إجراء الفعالية (الإحصاء).. أما كيف تقرأ الأطراف الحزبية نتائجها فقضية أخرى مختلفة تماما.. ومن هنا وجب التذكير بأهمية بقاء مفردات الإحصاء ومن أبرزها مفردة الإشارة إلى القومية والديانة وغيرهما.. ولا منطق لإجراء إحصاء منزوع الاكتمال في مفرداته.. إذ في النهاية لابد من إجابة ميدانية على الأرض عن أسئلة تخص تركيبة المجتمع ومكوناته متذكرين هنا محاولات سابقة لطمس وجود قومي أو تشويه بنية منطقة أو أخرى..

إنّ تأجيل الإحصاء أو رفع مفردة منه لن يفضي إلى تأجيل حل مشكلة أو أخرى، بل سيفضي إلى تعقيد القضايا المطروحة على بساط البحث الوطني.. ومن المهم والمفيد أن يتم اتخاذ القرارات الاستراتيجية بالاستناد إلى الواقع الشعبي الحقيقي بغض النظر عما إذا كان هذا يستجيب لرغبة شخصية أو حزبية..

فأساس وجود شخصية سياسية أو حزب في إدارة السلطة هو من باب العمل من أجل تلبية مطالب الناس أنفسهم وليس فرض برامج حزب وفلسفته عليهم، كما كان يحصل طوال عقود الدكتاتورية.. وإلا  فما الذي تغير إذا كنا نوقف أنشطة وطنية كبرى واستراتيجية في ضوء رغبات حزبية ومواقف قيادة مرحلية للسلطة  الاتحادية!

ما ينتظره العراقي ليس إثبات صدقية وجود قوى بعينها في السلطة فهو (لا) يحتاج إلى هذا الإثبات وإنما يطالب بالتوجه إلى تنفيذ الفروض الوطنية الواجبة في مواعيدها بلا تلكؤ ولا تأجيل وفي ضوء الممارسة تتبين الصدقية والكفاءة وتتبين مهمة الاختيار الانتخابي في دولة مدنية تتجه لممارسة آليات الديموقراطية.. وطبعا فبخلاف الالتزام بإجراء الأمور في مواعيدها فإن ذلك سيعد تعطيلا متعمدا وإخلالا بمصالح الشعب في حاضره ومستقبله..

 

خلا ذلك، أترك الحديث عن أهمية الإحصاءات السكانية وتفاصيل أنواعها ومفرداتها ووسائل التنفيذ والآليات لقراءات تخصصية ربما يجدها القارئ في مواضعها المنتظرة.

إنما تجدر الإشارة الحاسمة إلى امتداد موضوع الإحصاء إلى مستوى سحب ثقة الشعب ممن يتصدى للمسؤولية في حال التلكؤ أو حصول ثغرات جدية في الأداء.. كما تجدر الإشارة إلى أن صوت الشعب اليوم يعلن بوضوح موقفه بالدعوة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالإنجاز بلا تأخير.. وسيثبت ذلك أن العراق بلد مؤسساتي وأن المسؤولين يحترمون القانون ومنطق الفعل المؤسساتي القانوني وأننا بالفعل انتقلنا إلى صفحة مختلفة نوعيا عن الأمس وآلامه وثغراته  وعدم احتفاله بمطالب الناس وبالدستور ومؤسسات الدولة التي عادة ما كانت تجيَّر للطاغية بعد تفريغها من محتواها..

باتجاه الموعد الجديد للإحصاء، يتطلع الشعب العراقي (بكل مكوناته وأطيافه) نحو كونه الموعد الأخير وأن نتحول باتجاه ثبات ودورية الإحصاءات.. بكامل الشفافية والصدقية والبعد عن إخضاعه لغير منطق العلم ومنهجه وآليات تنفيذه.. وبالتأكيد سيكون إجراء التعداد تعزيزا للثقة بين مكونات شعبنا فيما سيكون الأمر عكس ذلك عندما يجري المماطلة أو الانتقاص من مفرداته..