الفديرالية والعراق الديموقراطي الموحّد

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003 / 12 / 23

E-MAIL:  tayseer54@maktoob.com

 

عاشت كردستان العراق حالة من امتلاك بعض حقوقها طوال أكثر من عقد, في ظلِّ أوضاع محلية ودولية متشابكة. ولقد حقق الإقليم كثيرا من التطورات الإيجابية التي لا يمكن أنْ يحكم التراجع عنها في الظرف القائم منطق. والصحيح هو تطوير الحالة والتقدم بها إلى آفاق أرحب وأشمل..

لقد توافقت أغلب القوى الوطنية العراقية على الاعتراف بحقوق القوميات التي يتشكّل مجتمعنا العراقي منها, وتمَّ التأكيد على تجاوز المفاهيم التقليدية التي تضع لــ "لأغلبية" موقعا مميَّزاَ َ يقوم جوهره على حساب "الأقلية".. وبناء عليه صار لزاما منع أفكار من مثل أنْ تكون أغلبية اليوم هي الأصل وأقلية اليوم هي الآخر وينبني على الأمر استلاب هذا الآخر أو التصدّق عليه بحقوق جزئيا كانت أم كليا.. لأنَّ الإنسان يولد ومعه كلّ حقوقه ولأنَّ الجماعات القومية أو الدينية أو السياسية توجد ومعها حقوقها كاملة ...

من هذا المنظور وجب الحديث عن تعميد تجربة الحكم الفديرالي وإقرار حقوق منطقة كردستان كاملة تامة.. ومعالجة مفردات تلك الحقوق وتفاصليها بموضوعية تفتح سياسي ينسجم مع المسار الديموقراطي الشامل للعراق الجديد. أمّا أسئلة الفديرالية فتتعلق بمحدِّداتها وفلسفتها.. فمثلا ما حدود الإقليم ومساحته جغرافيا؟ وعلى أيّ أساس يتمّ مثل ذلك التحديد؟ وما مكوِّنات المجموعات السكانية وما طبيعتها القومية ومكانتها ودورها في تقرير المصير حاضرا ومستقبلا؟

وبالتوقف عند هاتين المسألتين نودّ التأكيد على خصوصية المنطقة قوميا مع ضرورة احترام الإحصاءات اللازمة التي تستند إلى تاريخ المنطقة من جهة وإلى حاضرها ومستقبلها من جهة أخرى. حيث يوجد هنا الكرد والكلدوآشور والتركمان فضلا عن المكوِّنات الأخرى بخاصة الأيزيدية والاعتراف بحقوقهم ضمن الوضع الدستوري العراقي العام.

إنَّ استقلالية الإقليم ودخوله في الفديرالية ينبغي أنْ يتمَّ مع الاحتفاظ بفرص قراءات الوضع بالطرق المناسبة وحسب الوضع التاريخي الذي يمكن أنْ ينشأ مستقبلا في المديين المنظور والبعيد.. وأنْ تنحكم الأمور بجدل الحالة الدستورية ومشروطيتها لا بتصورات وبرامج حزبية ضيقة لأيّ طرف من أطراف الحوار, والعودة إلى الاشتفتاءات الضرورية اللازمة في متغيرات الوضع لكي نمنع أية حالة للتحكم والأهواء الظرفية المؤقتة .. أيّ تغيير الوضع على وفق فوز هذه الحركة أو ذاك التيار بالسلطة المركزية وتسيير الحلول على وفق رؤى تلك الجهة الصاعدة أو غيرها.

إنَّ وضع الفديرالية يجب أنْ يُقرَّ دستوريا بشكل حاسم ونهائي. وأنْ يتمّ توصيفها ووضع الصلاحيات وتقاسم السلطات بين مؤسسات الحكم في مركز الدولة ومؤسسات الحكم في الإقليم. كما يجب رسم حقوق جميع المكوِّنات دستوريا. إذ يجب على الحكومة المركزية معالجة موضوع إعادة قراءة النسب السكانية على وفق الإحصاءات التي مثّلت حقيقة الوضع قبل التدخلات السافرة للتغيير الديموغرافي من الأنظمة الدكتاتورية بالإشارة إلى عمليات تعريب مناطق الإقليم مدنا وقرى من أجل رسم الحدود الجغرافية ومن أجل التمهيد لمسائل حيوية أخرى...

 وفي الوقت ذاته على القوى النافذة في الإقليم أنْ تعيد النظر أيضا بمسائل تتعلق بالتجاوزات التي حصلت بخصوص تكريد بعض القرى والقصبات والمدن الكردستانية ذات الخصوصية الآشورية.. وعلينا الوصول إلى حلول موضوعية تجاه المناطق التركمانية وحقوقهم الطبيعية فيها؛ فضلا عن ممارسة الأيزيدية لتلك الحقوق الإنسانية على قدم المساواة مع الآخرين؛ ومثل هذه المسألة تظل مسألة دستورية تهمُّ الوطن كاملا وعلى العراقيين جميعا الدخول في الحوار الجدي المسؤول للمعالجة الشاملة للقضية وألا تكون الحلول فيها بالقسر والإكراه عبر منطق الأغلبية المفروضة بعوامل معروفة أو الأقوى في الميدان الحالي..

إنَّنا إذن مع الفديرالية لأنَّها الركن الجوهري للديموقراطية في بلاد متنوعة الأعراق والقوميات والأديان.. ونحن مع الفديرالية لأنَّها التعبير الصادق عن الاستجابة الحقيقية لمطالب أبناء الإقليم كافة الكرد منهم وكلّ المكوّنات القومية والدينية الأخرى بامتداداتهم التاريخية داخل وادي الرافدين أو خارج نطاق الحدود السياسية للعراق. إنَّ صفة الفديرالية ينبغي أنْ تحترم التركيب السكاني للإقليم من جهة والتداخل بين أبناء الوطن الواحد من جهة أخرى..

فالكلدوآشوريين لاينحصر وجودهم في الإقليم وإنْ كانت لهم مساحة نسبية مهمة فاعلة فيه.. ويتطلب أمر التعامل مع قضيتهم ومعالجته بمستويين واحد خاص بالإقليم والفديرالية وآخر على مستوى وجودهم الوطني الأوسع. ولكل مستوى حاجة وخصوصية في التعاطي والمعالجة. وللتركمان خصوصيتهم في إطار تكوين الإقليم ومن ثمَّ سيكون لزاما تسجيل مشاركتهم الأساس في إدارته وفي امتلاك خصوصية في إطاره..

سيكون إذن الإقليم منطلقا للتأكيد على وحدة النسيج العراقي مع التعاطي مع خصوصية مكوّناته وممارسة كامل الحقوق لكلّ تلك المكوِّنات بحرية تامة وسيكون من الصائب مراجعة هذا في الظرف الحالي بالاستناد إلى رؤى ودراسات معمّقة لا تستند إلى التوازنات الظرفية المفتعلة ولا إلى الأهواء والرغبات الخاصة بطرف على حساب طرف آخر.. ولا تقوم على ردود الفعل وأفعال الثأر التاريخية بل تستند إلى منطق الحقوق المشروعة للأطراف كافة وفي الوقت الذي تأخذ الحق لطرف تعطيه للطرف الآخر بالمنطق نفسه وعلى أساس المبدأ ذاته ..

 إنَّ الحلّ العادل والشامل ممكن ولكنَّ المسؤولية التاريخية تقع على عاتق الموقِّعين على الاتفاقات أنْ يتذكروا وضع المحدِّدات الضرورية التي تمنع ظهور المشكلات في المستقبلين القريب والبعيد.. بمعنى وضع الممهدات الكافية لتلافي تعقيد المشكلات محتملة الظهور وتوفير فرص تجاوز المصاعب التي قد تبرز بمنطق الحياة الطبيعي وتجابه التجربة الفديرالية الوليدة...

ولابد هنا من التذكير على المستوى الوطني بضرورة المحافظة على حقوق العراقي من غير العرب ومن غير المسلمين ومن غير الشيعة أو من غير الأغلبيات العددية مثلما يحترم الدستور حقوق تلك الأغلبيات ويحافظ عليها.. وعليه فوجود الآشوريين في كردستان ومنحهم حقوقهم لا يتقاطع مع الحقوق التي يجب معالجتها وإقرارها للكلدوآشوريين في بقية أرجاء البلاد  من المدن والأقاليم الأخرى وإلا ستكون التجربة منقوصة التطبيق الديموقراطي بل هي من الخطورة بما يهدد الكيان الوطني العراقي كاملا..

ولذا وجب اليوم في ظرف تقديم مشروع الفديرالية ومناقشة مفرداته وإقراره أنْ يساهم الكلدوآشور والتركمان والأيزيديين بشكل جدي وجوهري أساس في تلك المناقشات وأنْ يضعوا تصوراتهم الخاصة إذ ليس كالشخصية المعبرة عن ذاتها أقرب في التعبير عن الذات ومطالبها ولن يستطيع الآخرون قراءة الحاجات والمطالب الكلية الكاملة لمجموعة بمعزل عمّا تقدمه هي عن نفسها..

وعلينا هنا إذن البحث مثلا فيما يخص الكلدو آشور مع كلّ الأطراف المنسجمين مع هذه التسمية والمختلفين معها لأنّنا بصدد قضية أبعد من التسمية ذاتها.. إنَّها قضية تثبيت الحقوق الدستورية الشاملة, ومن بعد فقضية كالتسمية تظل شأنا خاصا يُحلّ بمنطق القبول بالمعالجة الأفضل انسجاما مع حقوق الإنسان من أية مجموعة كان وبأية تسمية أطلقتها على نفسها تلك المجموعة وانسجمت التسمية مع الحقائق التاريخية آخذة رأي أعضائها ديموقراطيا وموضوعيا في المعالجة والحلّ..  وسيكون الأمر ذاته مع التركمان والأيزيديين وإنْ انحصر في إطار الحدود الجغرافية لإقليم كردستان بحسب مساحة وجودهم السكاني الأكثف.

إنَّ معالجة أمر الفديرالية لا ينبغي له أنْ يُعزل عن حلّ إشكالية الديموقراطية على مستوى الوطن.. وعلينا أنْ نعالج الأمور بشمولية لا تسمح بالتقاطعات وخلق المشكلات مستقبلا في تفسير النصوص والمواد القانونية والدستورية. ولذا وجب قراءة قضية الفديرالية بالكيفية التي تؤكِّد الهوية الوطنية العراقية من جهة ومنطق السيادة الواحدة والعمل المؤسساتي الديموقراطي المنسجم المتفاعل ومنع التداخل والتقاطع السلبي بين تلك المؤسسات مع مرجعية دستورية وطنية عليا يتمّ الاحتكام إليها عند الضرورة..

لذا كان من الضروري إقرار  مبدأ الفديرالية أولا ولكن مشروع الفديرالية ينبغي إخضاعه للمناقشة المستفيضة المتكاملة التي تأخذ بنظر الاعتبار ما ورد من قراءة وأسباب تحرص على إنجاح الفديرالية وتوفر فرص إبعادها عن أية مشكلات قد تعترض مسارها.. وقدر الإمكان أنْ يجري إقرار الصيغة بما يتلاءم مع الدستور المنتظر الذي يجب مشاركة جميع القوى العراقية في صياغته وإقراره...

ولعل صيغة مشروع الفديرالية ودستورها أو قانونها الأساس ينبغي مطابقتهما من جهة الجوهر مع الدستور وبخاصة في البحث في المبادئ العامة من مثل ما سيكون في صيغة دستور الدولة من مبادئ متواضع عليها ومتفق على مبادئها الجوهرية وانعكاس ذلك في القوانين الأساسية للإقليم وترك المساحات المناسبة في الإشارة الصريحة الواضحة لمثل هذا التطابق أو الاشتراك من جهة الجوهر وليس ما يتعارض مع الخصوصية أو التفاصيل الضرورية الخاصة بالإقليم..

نحن نؤكّد على أهمية ولادة الفديرالية العراقية فهي ضمانة أكيدة لوحدتنا الوطنية وهي الركن الجوهري للديموقراطية التي تتعمّد باحترام مكوّنات شعبنا وهي الصيغة المُثلى للتعاضد والحياة بسلام ووئام ولإطلاق الطاقات الحقيقية للبناء وللاهتمام المتوازن بأقسام الوطن على حدّ سواء بما يلبي رغبات وتطلعات القوميات المتآخية من دون منّة من طرف على آخر..

 

www.sotaliraq.com

www.geocities.com/modern_somerian_slates

 

 

1